جاء في مقال أحمد عصيد تحت عنوان "الإسلام القسري" ما ملخصه أن : " الإيمان في جوهره، سواء في الماضي أو في العصر الذهبي لحقوق الإنسان الذي نعيشه، هو من حيث المبدأ اختيار حرّ مسؤول وعاقل، وليس نسقا تسلطيا مفروضا بإكراه، وأن الذي يجعله كذلك في معظم الأحيان هو الإيديولوجيات السياسية وصراع المصالح التي فتحت شهية الغزو والاحتلال والانتفاع والهيمنة والتوسع والحكم باستعمال العقيدة. ويمكن بهذا الصدد اللجوء إلى نصوص الدين الإسلامي نفسها، التي تشير إلى أن "لا إكراه في الدين" أو "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، إذ رغم أن هذه النصوص ليست تعني حرية المعتقد كما هي متعارف عليها اليوم، كما لا تعني التسامح الديني لأنها لا تتضمّن قبول الآخر المختلف، إذ تؤكد قبل كل شيء على أنّ "الدين عند الله الإسلام" و على أن المؤمن "يولد على الفطرة"، مما يجعل المختلف منحرفا و"كافرا"، أي في صورة سلبية ووضعية مرفوضة عقائديا، ويسمح بالتالي بممارسة العنف عليه من طرف المؤمنين الذين يعتبرون وجوده بينهم "استفزازا. إذا سلمنا بأن العقيدة اختيار حرّ للفرد كما أسلفنا، فإن الثقافة التي تنتشر بين ظهرانينا سواء بتأثير السياسة التي تنهجها السلطة، أو من جراء انتشار إيديولوجيات دينية عابرة للقارات، تكاد أن تُحوّل الدين إلى "عقيدة قسرية. وفي التعليم يبدو هذا الإسلام القسري بصورة لا تخلو من عنف، فالسلطة حريصة على جعل المغاربة مسلمين بقوة، بل تعتبر ذلك من أهداف التعليم الرئيسية". 1 الذي يهمنا في مناقشة هذه الأفكار التي رددها عصيد في مقالات سابقة العناصر التالية: أولا: أن الإسلام ليس دين تسامح، لأن نصوصه لا تتضمن الاعتراف بالآخر ولا تسوي بين الأديان، فالدين عند الله الإسلام ،"ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين" كما ينص على ذلك القرآن . ثانيا : أن الدولة تفرض إسلاما قسريا على مواطنيها من خلال احتكارها لأدوات التوجيه الديني والثقافي وبرامج التعليم،ولا تترك المجال لمن يرغب في تغيير دينه. يبدو أن السيد عصيد لا يميز بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة بالنسبة للآخر المختلف ، بالرغم من وضوح هذه المسألة في الإسلام الذي ينصّ على وجوب احترام معتقدات الكافر وتمكينه من أداء شعائره الباطلة بكل حرية ، وعدم إكراهه على التخلي عنها، ودعوته ومجادلته بالتي هي أحسن، قال تعالى مخاطبا نبيه :( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين). ذكر ابن إسحاق في السيرة : أن و فد نجران –وهم من النصارى- لما قدموا على رسول الله الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعوهم" ! فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. واستنبط الإمام ابن القيم من هذه القصة : جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وتمكينهم من الصلاة بها بحضرة المسلمين، إذا كان ذلك عارضا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك، وذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد نجران من النصارى، ومما جاء فيه : "ولنجران جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وكل ما تحت أيديهم من كثير أو قليل ..." (ذكر ذلك في زاد المعاد، 3/635). 2 و لما فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، نص على وثيقة العهد لساكنيها من النصارى، مما جاء فيه : "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : أعطاهم أمانا لأنفسهم و أموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ... إلخ" ثم أتى بيت لحم وصلى في كنيسة عند الخشبة التي ولد فيها السيد المسيح عليه السلام، وكتب سجلا بأيدي النصارى أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلا رجل بعد رجل ولا يجتمعوا في الصلاة ولا يؤذنوا عليه. ولما أصابه أبو لؤلؤة المجوسي وهو من أهل الذمة بطعنة كانت سبب موته، قال قبل موته : "أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفهم فوق طاقتهم". ذكره البخاري في صحيحه. تتجلى هذه السماحة أيضاً عند الفقهاء وفي مواقفهم، فمن ذلك ما نص عليه الإمام المالكي القرافي في كتابه الفروق، متحدثا عما يجب لأهل الذمة من حقوق، فذكر من ذلك : "الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم، واحتمال إيذائهم في الجوار، لطفا منا بهم، لا خوفا ولا طمعا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم ..." وفي حرب التتار على دمشق، أسروا من المسلمين وبعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فذهب شيخ الإسلام مع العلماء ليطلبوا من "قازان" ملك التتار فك الأسرى، وبعد مفاوضات أجابهم في شأن أسرى المسلمين، ولم يجبهم في أسرى أهل الكتاب، ولكن ابن تيمية أبى ذلك، ولم يتركه حتى فك أسرى الذميين، وقال له : "إن لهم مالنا، وعليهم ما علينا، وذلك حكم الإسلام". هكذا كنا يوم سدنا، واليوم تنتهك حرماتنا وتدنس مقدساتنا، ويتم الاستيلاء عليها على مرأى ومسمع من المنتظم الدولي في العصر الذهبي لحقوق الإنسان كما يسمّيه عصيد ! 3 لما دخل الأمريكان العراق هدموا المساجد على رؤوس المصلين، واغتصبوا النساء، وسرقوا الآثار ونفائس المتحف ببغداد الذي يؤرخ لحضارة ما قبل الإسلام بقرون وما بعده ! وفعلوا الأفاعيل بالأسرى في معتقل "أبوغريب" و"غوانتامو"، وتبعهم في هذه الهمجية قوم من بني جلدتنا، يأسرون السياح باسم الجهاد، وهم مؤتمنون بدخولهم أرض الإسلام، غير محاربين، فيروعونهم، وربما قتلوهم عياذا بالله ! وفي الحديث "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة": وذكر منهم من قتل معاهدا بغير حق . يقول "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة" : "لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائرهم الدينية، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم ... وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم؟..." ! ومن النصوص التي يتم تلقينها للناشئة في تعليمنا اليوم ما جاء في مقرر"المختار من اللغة العربية" السنة الأولى إعدادي تحت عنوان التسامح الديني ، ص:31 " لقد أنشأ الإسلام حضارتنا فلم يضق ذرعا بالأديان السابقة، ومن أجل ذلك كان من مبادئه : أولا : أن الأديان كلها تستقي من معين واحد. ثانيا : الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعا. ثالثا : أن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لا بد فيها من الإقناع. رابعا:أن أماكن العبادة للديانات الإلهية محترمة يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين". هذا فيما يتعلق بأحكام الدنيا ،أمّا أحكام الآخرة فشأنها آخر، لا يتساوى الناس فيها، فذاك يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه، ذلك يوم التغابن، فريق في الجنة وفريق في السعير. 4 لكن هذا لا يمكن أن يشكل عقبة في التعايش السلمي الذي ننشده جميعا، فنظرتي للنصراني أو اليهودي أو البوذي أو غيره على أنه من أهل النار، لا يغير من موقف الاحترام الواجب له في هذه الدار الدنيا ومعاملته ودعوته برفق ومجادلته بالتي هي أحسن قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم)، بل الإحسان إليه قد يكون مدخلا لإعادة النظر في معتقداته، أما أحكام الآخرة فخاصة برب العالمين، فهو سبحانه من يدخل هذا جنته ويدخل ذاك ناره (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء)، وإنما أخبرنا بها للتحذير من اقتفاء آثار الضالين أو المغضوب عليهم، لا أن نحاكمهم بمقتضاها في الدنيا فنسيء إليهم أو نغدر بهم أو نقاتلهم على معتقداتهم، وهذا من المعلوم بالضرورة من الدين، لا أعلم مخالفا له ممن يعتد بكلامهم من أهل العلم منذ الصحابة إلى اليوم، والشواهد التاريخية على حسن معاملة أهل الكتاب في السلم وفي الحرب لا يوجد لها نظير عند غير المسلمين ،وقد أشرنا إلى بعضها. وتكفير المخالف في الملّة لا يضرّه في شيء ما دام يتمتع بحقوق أهل الذمّة أو حقوق المواطنة بالتعبير الحديث ،وهذا ما سمح بالتعايش بين المسلمين و اليهود بالمغرب لقرون ،كذا بين الأقباط والمسلمين في مصر، قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بقرون طويلة. بل قد سمح الإسلام بمصاهرة أهل الكتاب، والمسلم مطالب بالإحسان لزوجته الكتابية رغم اعتقاده كفرها، بل لا يجوز له قسرها على اعتناق الإسلام ولا منعها من الذهاب للكنيسة للصلاة وغير ذلك ممّا يدخل في صميم طقوسها الدينية. أمّا أن يغير المرء دينه ويرتد عن دين الإسلام ، فهذا شأنه ،شريطة أن يحترم دين و شعائر المجتمع الذي يعيش فيه ، فلا يجهر بردّته ولا يدعو لمذهبه الجديد ولا يتحزب ضد دولته، ولا يستفز الصائمين بالمجاهرة بخرق حرمة رمضان أو إعلان شذوذه أو السير في الفضاء العام بلباس فاضح أو الاستهزاء بالله وملائكته أو بأحد الأنبياء أو دين من الأديان وإن كان محرّفاً عنده أو باطلا ،فإن فعل يستتاب أو يقام عليه الحد ، وهو حق الدولة، فإن تركته فلا يجوز لآحاد الناس الافتيات عليها بإقامة الحدود المعطلة،فإن أقامها أحد الأفراد بغير إذن من القضاء كان آثماً ،وواجب الدولة أن تضرب على يديه بقوة ، وإلا فتحت للشرّ بابا لا يغلق. هذا مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(لحدّ يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين)، لكن هذا شأن الدولة والقضاء غير موكول لآحاد الناس. 5 وللحرية حدود لا يمكن تجاوزها ،وهي أن تقف عند المس بحرية الآخرين ،ومن أجلّها احترام معتقدات الناس،فكثير من الناس يتجاوز عن سب والديه أو الاستهزاء بهما و لا يقبل ذلك في حق معبوده أو نبيّه .هنا يأتي دور الدولة في الحفاظ على السلامة الروحية للمواطنين وسنّ القوانين لذلك، وعدم التساهل في تطبيقها، ووضع سياسة إعلامية وتعليمية متفقة مع ذلك. ولا يمكن لمسلم يقرأ قصة قوم لوط في القرآن -على سبيل المثال- وما حلّ بهم من دمار، ثمّ يغض الطرف عن الدعوة لحرية الشذوذ الجنسي، بله الدولة. أمّا النقاش الفكري الجاد فلا حدود له، وإن تعلق بالمعتقدات ،لأن الإسلام دين حجة وبرهان،ومن حق الملحد أو الشاك أن يطرح شبهاته ليناقشه فيها أهل الاختصاص من العلماء، وإغلاق باب الحوار الفكري الجاد معناه حرمان كلّ باحث عن الحقيقة من حقه في التعرف على الدين و الخالق،وتشجيع إيمان المقلد، وهو إيمان مشكوك في صحته عند كثير من الفقهاء، و لا يقول به عاقل، فضلا عن مسلم مأمور بحمل رسالته للناس كافّة. إنما النهي عن بثّ شبهاته بين العامّة والدعوة إليها ،ويشتدّ النهي إذا تعلق الأمر بالناشئة، كما كان يفعل بعض أساتذة الثانوي الماركسيين داخل الفصل!. والأستاذ المسلم في دولة مسيحية لا يجوز له ،ولن يسمح له ببث معتقداته بين الناشئة هناك ، لأن في ذلك خروجا على دين الدولة الرسمي وبث البلبلة في الصف الدراسي ، واستعداء الآباء وكافة شرائح المجتمع المسيحي، فضلا عن الاستفراد بطفولة بريئة وشحنها بمعتقدات مخالفة لما عليه المجتمع، كما يفعل المسيحي في أرض الإسلام باسم الرب يسوع له المجد! فللدعوة مراكزها وأدواتها من قنوات ومجلات وعبر شبكة الإنترنيت ، وهي أدوات سلمية يستعملها المسلم والمسيحي على حد سواء في التواصل مع الناس مؤمنهم وكافرهم ،في عصر اختصرت فيه المسافات بسبب التطور التكنولوجي الهائل، لم يبق ضرورة لغزو إسلامي أو حروب صليبية، ولم أتعجب كثيرا لموقف البابا الرافض لانضمام تركيا المسلمة للاتحاد الأوروبي المسيحي كما جاء في تسريبات "ويكيليكس"، ولكنه موقف متخلف جدا عن العصر الذي نعيش فيه ، يذكرنا بثقافة القرون الوسطى المظلمة التي كانت فيها للكنيسة الكلمة الأخيرة. لقد قضيت في فرنسا سنوات، وكنت أرى المسيحي يأتي يسأل عن الإسلام في المسجد أو المركز دون جهد يذكر من الدعاة المشغولين بخلافاتهم الفرعية ،يبدّعون هذا و يضللون ذاك، إن الإسلام ينتشر اليوم بقوة الدفع الذاتية التي يملكها ،إنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها ،وهو دين عظيم لم يحسن أبناؤه كيفية عرضه على الغرب المتفوق في سائر الجوانب المادية.