المكان أمسترداميّ خالص يُضارع ماضيه ويضاجع طموح ونزوات كل المارّين والفارّين، والقابعين والركع السجود..والزمان خصوبته وقحطه سيّان: ولادة وإجهاض ونسيان. الصحف تروي حكايات ما يجب أن يكون وروايات ما لا يرى مما هو كائن. في أمستردام يباح القتل بسيمفونيات الحياة الهادئة والمهدئة، فيها تباح الحياة باسم حرية الموت والجنس والمال وأغاني الغجر. هنا تتنافس المؤسسات صبحا لإصدار قرار يحدد مؤخرة النهار. فإذا تأخر القرار يلغى الليل ليستمر الاجتماع والمداولة. حتى الذباب قادر على تقديم مقترحاته للبرلمان إذا استعصى الأمر على الساسة.. الكلاب الأمستردامية لا تنبح ولا تعض وتخاف حتى هي من شراسة كلاب غيرها..تأخذ مكانها في الباصات والقطارات وميترو الأنفاق بأدب وأنانية مفرطة. والبوليس جاهز لحماية جودة القنب الهندي وصفاء القهوة المستوردة. هنا يستغني الورد عن عطره لكي لا يفسد وظيفة البطاقات البريدية. هنا تؤمّم الجبنة والحليب لكي لا تَفقِد الأحلام وطنيتها. هنا الغريب لا يُعَدُّ كذلك إلا إذا أدار ظهره لينابيع ال"هاينكن". الرؤؤس الآدمية تمشي في مناكب أمستردام ولا تبالي بصفارات الإنذار عند مطلع كل شهر والكنائس المهجورة توحي بعهود مجد غابرة. الموانئ لم تعد ترسو فيها مراكب القراصنة إلا إذا كانت تحمل أعلام الأممالمتحدة وأحيانا تبحر من هنا بعض السفن الرمادية اللون المُعِدة للمساعدات الإنسانية التقليدية والنووية منها!! إذا حدث أن أيقضك ضجيج سيارات الإسعاف وطائرات الإغاثة في أمستردام، فاعلم أن الحادث لا يعدو أن يكون ارتطام حمامة بحافلة سواح مشرقيين. كلما قررتَ السفر خارج جدرانها، منحتك أمستردام لحظة تفكير إضافية.. تتظاهر بالحياد ولكنها تحصرك في جواز السفر ولا تشرح لك صدرك إلا بغتة لتقربك من نعمة البارات زلفى. في رحم أمستردام تبني القحاب أوكارا زجاجية وتزينها بأضواء حمراء ترشد حجيج الجنس والتجنس إلى ما يجعل المتعة شرفا وتفاخرا..والقانون يتمدد ويتقلص حسب العرض والطلب. أمستردام لا تبكي موتاها ولا تفرح بالمواليد الجدد بالرغم من هيمنتها على مفاتيح المقابر، إجراءات الدفن والإحراق وسجلات الجراحات القيصرية. "سبينوزا" ما عاد يتقن لغة التداول اليومي ومنطق المضاربة فاعتزل الكلام والسلام. كم مرة مررت بمنزله خلف ساحة ال "واترلو" خلسة لأسترق إشارة تدلني على صدى غضبه وتنهداته، ولاشيء سوى خيبة الفضوليين المصطفّين قبالة باب داره. يتكرر المشهد أمام متاحف المدينة الأخرى لرصد حركة عفوية لريشات "فان خوخ" و "رمبراند" ، ولاشيء إلا جبروت الأبناك والأسلاك. ثم يولّي الأمستردامي وجهه شطر قلاع "ستوفيزانت"، فتُصَمُّ آذانه بخفق رايات الاعتزاز بتدجين الهنود الحمر والأفارقة. كلما فكر مغامر في العودة إلى نفسه، حاصرته أحزمة أمستردام المائية، وحمام ساحة "الدام" أوكلت له مهمة ترويج وهم التسامح وجاذبية المايونيز. الديانات هنا تنبت على الأرصفة كالفطر وتتلاشى كدخان السجائر. من ناقوس عيسى وبكاء الحاخامات وآذان بلال، إلى تقديس أُسْت الرجال وتشريع الزواج بين الشخص وقبيله.. لتخفي أمستردام ديمقراطية المخالب، تُشرِّع التظاهر فجرا، عصرا أو ليلا للمطالبين بالزيادة في الأجور وتبسيط الأمور، والمطالبين بفكِّ الحصار على الأنبياء الجدد وبإحراق الأعلام، وإلغاء الألوان والحروف الأبجدية. المال والكلأ في أمستردام تتبرع بهما الجدران على المحظوظين والمفلسين حسب الحاجة. أما الفلاسفة فتراهم منشورين على القناطر كفتات الخبز، يعزفون على أوتار الصبابة طمعا في القوت ودفاتر الرسم..والشهرة لمن استطاع إليها سبيلا. بعض الأحيان لا تحس بوجودك في أمستردام إلا إذا استوقفك سائح آسيوي ليبحث فيك عن الاتجاه المعاكس لطريق التوابل والذهب. هكذا حال أمستردام. لا تُبعد عنك شبحا ما إلا لتُسْكنك أشباحا أكثر عنادا وتحديا، وذلك تحسبا لرتابة غير مرغوب فيها وحفاظا على كاريزما الشبابيك المصرفية. كل الآلهة والشياطين زارت أمستردام، ماعدا "أفروديت" لأنها لم تحض بتأشيرة الدخول. هنا وُقِّعت كل اتفاقيات شقِّ البحار لاكتشاف همجية الذات الحضارية. هنا اتَّحد الشيء بضده اتحادا هلاميا. حتى الفصول الأربعة تتقاسم الليل والنهار بتناغم وتناوب وتوافق، وما قد يبدو تناقضا فهو اللاشيء الجدير بالاحترام. أمستردام ،على علّاتها، تستهويك وتسحرك.. تحييك متى شاءت، وتقتلك متى شئت أنت أن تموت. إذا أردت محاكمتها فإنها تزودك بما يكفيك من القضاة والشهود، وتمثل أمامك بتواضع الملائكة لأنها لا تخشاك ولا تأبه بما سيُصدر في حقها من حكم. أمستردام لا تحب الخسارة ولا تتحمل الإدانة إلا إذا كان المدَّعي خارجا عن روحها وفاقدا لحواسه. أمستردام أمّ تلد بإيعاز من مصلحتها كل من حاباها وبجَّلها ومن سيزكيها، فتخلق خلقها وتُسوّي سفنجة الصباح بعقد النكاح.. في بطنها كراسي شاغرة لمن سيعود من موته ومن زحمة العقار، أو لمن يشهد أنها خالدة وقديسة كعش لقلاق على بقايا كنيسة. أمستردام تعرف مزايا الهاتف والتلفاز ومكبرات الصوت وتعُدها واحدة واحدة حين تستيقظ من نوم اليقظة.. كل سنة تمسح الغبار على مداخلها، وتبللها بأشهى أنواع النبيذ لكي لا تتسلل إليها فلول جديدة من عساكر "نابوليون" أو جحافل المغول لطلب اللجوء. حين ترقص أمستردام تتوقف قلوب ساكنتها عن النبض حتى لا يختل توازن الدف والطبول. وحين يبدأ التراشق بلغة العمولات الأجنبية تكحِّل أمستردام عيونها بالكوكايين. إذا اتخذت أمستردام شكل سفينة – وهذا يحدث من فينة لأخرى بموجب بروتوكولات التدرج والتدحرج- فلأنها تريد بذلك، وكذلك ولأجل ذلك إثارة الوافدين المؤقتين من عشاق الاستجمام على شواطئ الكازينوهات.ومن صدَّق أمستردام/ السفينة وجد نفسه بعد ثانية او اقل مقتولا داخل نفسه بمغناطيسية الأرقام الخاسرة..أمستردام لا يمكن أن تكون سفينة وهي البحر والقبطان معا. هي بحر لمن "لا بر له" وقبطان لا رُبَّان له، في جيبه وصفة لوجبة موت تايتانيكي المقادير ومسدس محشو برصاصة رحمة واحدة. فليبحر من شاء في أمستردام أو معها، أو ليتسلق قلاع الندب والبكاء ليشرب قهوته الأخيرة مودعا ما كان سيصبح عليه من مقام! ومن لم يستطع فعدة من أحلام أُخر. أما يوم أمستردام فلا تدركه سوى حافظات النقود والمتاجرة وأفلام الخلاعة. نعم، هكذا كانت أمستردام حين اكتشفتها قبل أزيد من عقدين من روحي، وهكذا صارت بعد أزيد من عقدين من انخراطي في صهيلها..صرت احرص عليها من نفسي، وصارت تحرسني من نفسي ومن تآويل الأحاديث. كم من مرة حاولت، دون جدوى ، خداعها ومخادعتها بالسير بلا خطىً ولا مخططات نحو شيء كان يشبهني، فتسبقني هي إلى نهاية الطريق، تقيم محاكمة عاجلة لما اقترفته من خطى، ثم تُرشي قدماي بشيء من التاريخ وروعة الكرنفال وتغفر لي بعد ذلك ما تأخر من خطاي. أحاول ألا أحاول.. ألهو بما لا ادري من سَِير المشاهير وتفسير الوصايا العشر.. تختلط علي صيغ الحياة والموت، وملوحة الأمواج وشلل الصوت. بعد هذا التيه ترشدني أمستردام إلى غنائم معلبة في نجمة قيل عنها أنها كانت وطنا، وتجمع بعد الإرشاد كواكبها لتبدأ اوركسترا اليأس والبأس بعزف ما يحرقني من شوق. أمستردام، يا سيدتي، أنا لا استسلم إلا إذا منحتني حق الركض والرقص بقلب نابض! يا سيدتي، أنا لا استسلم إلا إذا هزمت كل ما فيك من سبت، أحد وجمعة! عفواً سيدتي، أنا لن استسلم!! في خضم هذا الهوس تقترب أمستردام مني متحايلة ومتحسسة غضب أضلاعي ومجففة شرود أفكاري. تمنحني مطرقة ومن المسامير عشرين كي افرز السنوات من الشِّعر. وفي انتظار انجاز المهمة تسلبني يديَّ وشيئا من قلبي. هكذا كانت أمستردام حين اقتحمتها كرعشة كهربائية حاملا مخاض الضوء. شقيقاتها العواصم لفضتني بعد أن فضَّتني.. من جنوب عروسة "زيوس" إلى أعلى شعرة في شمالها. لم تسألني أمستردام عمَّا كنت اشتهيه من فاكهة الروح، أو عما جئت من اجله من صحوة ونشوة وفكرة ؟ لم تسألني متى كان المجيء؟ ومن أين جئتُ؟ وكيف جئت؟ وبمشيئة من جئت إليها؟ آه، لو كنت تعلمين يا أمستردام بما كنت اجهله عنك لرضيت لي التبَوُّء بمنصب المرادف لك! ولمنحتني عيونك كي لا أنسى النظر إلى الخلف وأكون واواً للعطف، فعلا للصرف أو ثمرة هيِّنة القطف! اختُطفتُ كما اختطفتْ آلهة الإغريق أُمَّ أمك..وضعوني على حافة جغرافية كانت لا تفارق رائحة عرقي، ثم خيَّروني بين مراقبة الظل في الرؤؤس الحالمة ومناجاة خُطَّاف يتهيأ للرحيل أو مدح الملح والجرح في الليل والصبح. قلت لهم ما قاله "إميل زولا" رافضا قدره: "جاكيز" وما اخترت إلا ما كان يكسيني ويسكنني من وطن وحرية. آه سيدتي، لو ينطق جلدي بآيات بينات من أطلال العذاب والتعذيب لخفضت لي جناح المرور إلى مراياك لأرى الجراح جراحا وامتطيها نحو بدايتي فيك. كان عليك أن تُعلِّميني رفض القبول واحتضان المعلوم فيَّ لكي لا يخترق أحد سذاجتي من باب التوسل و التباكي والتسوّل. جئتك مثخنا بالضياع والأسئلة باحثا عن مهرجان لنشيد حر حاولوا مصادرته من وطني ومني. رصدوا في أُذن الأرض همساتي لرفاق لم يفارقوا سمعي ولحبيبة طامعة في حبٍّ بلا أسلاك شوكيه. نصبوا الكمائن لحلمي ولانتصاب قامتي، وبعد تفتيش أفكاري عثروا على ضدهم ولم يرضوا بالاعتراف.. راحوا يقتفون آثار عنادي في زقاق الأحياء الفقيرة وفي صخب الأسواق الأسبوعية لكنهم لم يعثروا على شَبه للجريمة في حزني ولا في فرحي.. اشتد غضبهم وغيهم، فقرروا زرع أعين إضافية على جدران الجامعة وفي مدرجاتها، فما حصدوا إلا خيبتهم وقليل من الوضوح على ما لازمني من كبرياء.. فكانت لعنة الحاكم وكنت أنا/الجمع، وكان الصَّفد الجامع. سُلبنا البصر بعصابات العينين وكنا نرى جلادينا بدمنا وجلدنا وعفتنا. كنا نتهكم على جبنهم بجنون. لم يكن استقواء الزبانية بكل فنون البطش والقسوة بمُجْدٍ للنفاذ إلى أفكارنا. الجَلد والصراخ والسب والشتم و"الشيفون" و "الطيارة" ولسعات الكهرباء و الرفس والركل، كانت عناوين الهزيمة فيهم. كل طور من أطوار هذه الهزيمة كان يفجر فينا ألف أفق وفجر، وحين ارتوى الجلاد بدمعنا المطلي بالدم والعرق، قرر ارتداء طوغا الحياد والموضوعية ليحاكم براءتنا وتحدينا فاستولد من كنهه سماسرة الكلام في شكل قضاة، ووكلاء الظلام في شكل الادعاء الخاص. أُقيمتْ لنا جلسات لاستنباط الجنايات من الأناشيد ولولا عنفوان الدفاع لخِلْت كل جلسة قبرا..بعد البسملة وتلاوة كل ما من شانه، وُجِّهت إلينا التهم بصيغ غير معلَنة: حب الحب والجهر به، التشكيك في صلاة الاستسقاء، السباحة ضد التيار، المسُّ بكرامة الجلاد أثناء مزاولة مهامه، معانقة العشق في الأماكن العمومية والانتماء إلى ما هو غير مرخص به من وجود.. نفينا حقيقة الادعاء وأكدنا خلفية حقيقة الحاكم والمحكمة ثم قبلنا كل ما نسب إلينا من تهم بعد أن قلبناها وصحنا مِلأ القلوب: زغردي يا أمي يا أم الثوار بلادي حبلى بالأحرار.