مقدمة حول مواضيع التنمية البشرية: اجتهاد شخصي أستهل مواضيعي القادمة إن شاء الله حول التنمية البشرية بموضوعي هذا حول أصل من أصول الإرادة، أصل يتجلى أمام الفرد إذا ما وثق في نفسه وأحسن الظن بالله فأنتج بذلك إرادة تتحدى الواقع إلى تسخيره و تمرينه لتحقيق ما يصبو إليه. فالإرادة هي نتاج استرسال مراحل من اللاوعي إلى الإدراك عبر خاصية إن تواجدت كثرة أضلت وإن غابت جملة أطالت على الإنسان سيعيه وسبيله إلى إدراك مراده، وهي خاصية التفاؤل. وأما أصل الإرادة فما هو إلا تركيبة معقدة بين تربية الإنسان وذوقه وتأثيرات المجتمع ووسائل الإعلام عليه وبالتالي تصوره الشخصي عن الكمال، الذي يصوغ حوله كل أمنياته وأحلامه، أي هو تصورات و رؤى الفرد لمستقبله وكيف يجب أن يكون. وهكذا، فأحلام الشخص من اللاوعي عبر فكرته عن الكمال تصبح تصورات مستقبلة، إذا ما ثبتت بالتفاؤل والثقة في النفس ولدت إرادة وعزيمة لا متناهيتين. وهذا يدعونا إلى التساؤل أولا عن كيفية تعديل أحلام الشخص من أحلام سلبية غير نافعة إلى أمنيات إيجابية تنطبق مع هوية الفرد وأخلاقه ودينه وأسس مجتمعه، فيحيلنا التفكير إلى التربية أولا قبل كل شيء، تربية البيت والشارع والمدرسة، وتربية الإعلام الذي أصبح فردا لا يتجزأ من أفراد الأسرة، أو ربما بات تأثيره أكثر قوة من نصائح الأبوين ودروس المدرسة. كما وجب استشعار فكرة الكمال من الروحانيات والإيمانيات، فالكمال كمفهوم يتضح عند ارتباط العقل بالأشياء المعنوية وارتقائه عن المادة التي ليست سوى تقليدا لفكرة الكمال وحيث قيم الجمال والعدل والحب نسبية ومتغيرة وغير حقيقية، إنما على العقل لمسها في الروحانيات عبر الإدراك والوعي، وبهذا كمسلمين وجب علينا استنباط مفهوم الكمال من القرآن والسنة كمعيار لقياس الحق أو العدل أو الجمال أو قيم أخرى بنسبية حسب استطاعة كل فرد، فتحقيقه كاملا أمر معجز علينا كبشر. فإذا تركبت لدى كل شخص أحلام إيجابية لنفسه ولمجتمعه بقي عليه بلورتها عبر الثقة بالنفس والثقة بالعالم المحيط. فإن كانت الثقة بالنفس هي أيضا وليدة التربية المنزلية ومرتبطة بإحساس الفرد بقدرته منذ الطفولة، وكثير ممن عدمت لديهم أو نقصت فيهم كصفة لم يكن لهم يد في ذلك، فثقتنا بالعالم المحيط وجبت علينا كمسلمين، فقد خلقنا الله تعالى وسخر لنا كل ما حولنا من مخلوقات لغاية واضحة في القرآن الكريم حيث يخبرنا تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"، كما قال جل في علاه: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وباطنه وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ"، وهذا ليسهل علينا قدرتنا في تطويع كل ما حولنا لتحقيق إراداتنا. وإن كانت هذه دلائل قاطعة لنا كمسلمين وردت في الكتاب بلفظ واضح وهو التسخير، فقد استطاع الغرب رغم ابتعادهم عن الروحانيات اكتشاف آليات التسخير عبر دراسات التنمية البشرية التي أكدت أن قوة الإرادة تأتي عبر التفاؤل وأن قوة تحقيق الإرادة تأتي عبر الثقة بنظام الكون المطوع عند رغبات الإنسان ليسهل عليه تحقيقها، وهو ما أسماه الغرب نظام التجاذب الكوني the laws of attraction وهو ما سآتي على شرح ركن منه في موضوع آخر لتفادي الإطالة. الإرادة بين التواكل والغرور بدأت مظاهر التوسط والاعتدال تلغى بظهور أفكار الإيزم، أي ليكستريميزم أو التطرف أو الراديكالية في المذهب، وضع في بلاد المسلمين نهجين للنيل من هذا الدين الذي ظل واقفا صلبا أمام المؤامرة، فكان داخليا حين أخذ من الدين ما يحدث على التواكل وتعجيز إرادة النفس بمبدأ التسيير والدعاء دون الأخذ بالأسباب، حتى ضاع في الشباب إحساسهم بالمسؤولية، وضاعت معاني التوكل وعزم النية ورفع الهمة وسط فهم سطحي لدين أكثر ما يحث عليه هو العمل. وآخرون تركوا الدين جملة وتفصيلا، وساقتهم مخالب المؤامرة إلى العمل والأخذ بأسباب الدنيا وترك الدعاء والتوكل وراء، فضاع فيهم إحساسهم بالعبودية. ليبراليين يدعون الصلاح وحسن الخلق والوعي وهم لذلك سالكون لطريق غير الصراط المستقيم : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. و: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا. أما الإسلام الحق فإنما هو توسط واعتدال، تخيير مطلق تحت مشيئة الله، إرادة حرة ملفوفة بقدرة خالق. هدف ونية وتوكل وعمل واستخارة وإقدام. وبذلك وجب أن أبدي ما وجدت من أمور التسيير والتخيير منطقا للناكرين واستشهادا للذاكرين، علني توصلت بقليل من الحقيقة قد تنير درب من استوعبها من القراء. هل نحن مسيرون أم مخيرون؟ مسألة التسيير والتخيير التي حكم فيها الحكماء وتعصبت فيها الآراء واستصعب جوابها على العامة أمر واضح بين، يمكن الخوض فيه من جانب المنطق لتبيانه وشرحه، كما يمكن تحليله من الجانب الديني للاستدلال والتوكيد. وشأني في التحدث عن الأمر شأن كل مسلم ضل بين المفهومين، وحين بات أمر تفكيك تلازمهما في حياة الفرد غاية بعيدة الإدراك، تدبرت في الأمر وأمعنت التدبير، وحللت استرسالهما في المعيشة واستحالة تواجد الواحدة دون الأخرى، وتمعنت في ورودهما في آيات القرآن وأحاديث السنة، فهما مترادفان لا يتسع إيمان مسلم أن يعول على واحدة دون الثانية. وهكذا تبين وجوب وجودهما معا منطقا وشرعا، خلقه الله بغاية وهدف لحكمته الواسعة. بالمنطق وجود اسم الشيء دليل على وجود الشيء نفسه، فلا يمكن تسمية ما عدم وجوده، ولا يمكن إطلاق اسم على ما ليس لاسمه دلالة عليه في العقل والذاكرة، فإذا ذكر الاسم استوجب وجود الشيء المسمى، وإذا ذكر الاسم وربط بدلالته في الذاكرة تأكد وجوده، وإذا فهمت الدلالة وأعطي عنها دليل نظري أو مادي عايشه بعض الخلق لم يبقى من شك في وجود ذاك الشيء قطعا. فإذا ذكرت كلمة التسيير، وجب المفهوم، حيث لا يختلف اثنان على معايشتهما للصورة التطبيقية لهذا المفهوم النظري بطريقة أو بأخرى، وكم تجد من كلمات فصيحة أو دارجة تبرهن على وجود هذه الدلالة في حياتنا اليومية كأن تسمع مثلا: "ماتمشي غي فين مشاك الله"، أو "وماتاكل غي للي قسمليك الله"، "وللي دارها الله هي للي تكون"، وكثير من معاني التسيير التي تربط بين حياة الفرد وما قد قدر وحسم في أمورنا الدنيوية دون تدخل منا ولا تعديل ولا تغيير. وعندما يذكر مفهوم التخيير، فإننا لا نستطيع أن نفك الرابطة التي تربطنا بهذا الإحساس الذي يجعل من كل فرد كائنا مستقلا بتصرفاته، ولا يمكن الاستغناء عن فطرتنا في السيطرة والسيادة والامتلاك والتقرير في مصيرنا لنحس بذلك بدور العقل والمهمة المنوطة إليه والتي تفرقنا عن باقي الكائنات على وجه البسيطة. بالإدراك: عبر التجربة فمفهومي التسيير والتخيير بذلك ينسبهما المنطق والعقل بالتراتبية والوجود، ولا يمكن لأصحاب العقول السليمة أن تنكر وجود أحدهما دون الآخر. فكما أن منطق التسمية يبرهن سببية وجود الشيء، فإن إمكانية العقل أن يتبين وجوب كونونة الشيء تستلزم بالضرورة وجود ضده، وإلا لما تمكن عقل الإنسان أصلا من كشف هوية الشيء واستبيان ماهيته. إذا ولد الإنسان في مجتمع كل أفراده متناغمون متلائمون متحابون، وتربى في أسرة وعائلة يساعدون بعضهم ويناصرون غيرهم، ويخدمون مجتمعهم ويدعمون ولاتهم، لن يدرك هذا الإنسان بعد حين إن لم يطلع على غير هذا المجتمع على ماهية القيمة التي تسود المنظومة التي ربى وكبر بها، حيث أنه لم يواجه ضدها، فالخير يتجلى مقابل الشر، والتسيير يكشف عند أمر التخيير، وهكذا دواليك، فكل أمر يفرض حدوث ضده ليكشف للعقل البشري عن وجوده. وبهذا استعصى على البديهة إنكار التسيير إذا اعترفت بسيادة التخيير، والعكس صحيح. بالمنطق الديني: اجتهاد شخصي إن الله سبحانه وتعالى عند خلقنا، أعطانا صفة من صفاته الألوهية، وهي صفة الإرادة، أو القدرة على الاختيار والتفكير، وذلك حين وهبنا العقل الذي يميزنا عن سائر المخلوقات، فحملنا الأمانة، وهي القدرة على الاختيار بين الخير والشر، وتثبيت الاختيار عند تفعيله كعمل، وبالتالي تجسيد ذلك العمل للمحاسبة، أي تجسيد الخير أو الشر يوم القيامة حسب اختياراتنا التي تحققت في الدنيا ما لم نتب عنها (أي أعمالنا المسجلة في كتبنا) ، حيث قال عز وجل لسيدنا نوح وهو يرثي ابنه الذي أعرض عن الدين، "إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح" وبهذا قد صور الخالق عز وجل حال ابن سيدنا نوح عليه السلام لأبيه مسبقا كما سيبعث يوم القيامة، حتى يهون على الرسول حزنه على كفر ابنه، مجسدا عمله. واختيارنا للخير أو الشر يكون عبر الإيمان أو الشرك والإلحاد. وقد أعدنا عز وجل بهذه الصفة لنكون قادرين على محاسبته إيانا على اختياراتنا، وبذلك هي صفة مطلقة، لا يتدخل المولى عز وجل فيها أبدا، وهو بذلك عند محاسبتا استنفى صفة الظلم عن نفسه، "فالله ليس بظلام للعبيد"، لأنه تعالى لو تدخل في صفة الإرادة التي نوظفها بالعقل ولو بجزء من المئة لكنا ادعينا أن كل اختياراتنا ومعاصينا وإلحادنا تندرج في تلك النسبة لنبرأ أنفسنا من سوء اختيارنا، وبذلك لكنا استظلمنا محاسبته إيانا. لكن الله سبحانه وتعالى أعطانا القدرة على الاختيار مطلقا مادمنا أحياء بالغين راشدين عاقلين، فالاختيار مهمة العقل، وكمال العقل عند العاقل يحكم عند البلوغ والرشد؛ أما الأحمق أو السفيه أو الطفل فقد رفع عن هؤلاء القلم، وأمرهم إلى الله. لكن ما يصعب عند العامة فهمه، وما يجعلها تخلط بين مفهومي التسيير والتخيير وحدودهما، هو التكامل بين صفتي الإرادة والقدرة، اللتان تتجليان بكمال ودوام في ذات الخالق جل في علاه دون باقي الخلائق. فصفة الإرادة، أو التخيير والقدرة على الاختيار محلها العقل، ولا تتجاوزه عند تحققها. فعند اختيار الإنسان للفعل أو الشيء، اندرج هذا ضمن حدود تفكيره وعزمه ونيته، ولم يتعداه إلى القدرة على تحقيق الاختيار خارج العقل في العالم المادي بواسطة الحواس والجسد، إنما انحصر عند التفكير والنية في فعل الشيء لتتحقق بذلك الإرادة المطلقة ويصبح الإنسان بذلك مسئولا تمام المسؤولية عن اختياره. حيث أن اختيار قول الشيء يبقى عند نية قوله ولا يتعداه إلى فعل القول بواسطة الشفاه والصوت أو الكتابة. كما أن اختيار الصوم يتحقق عند النية بالصوم ولا يتجاوزه إلى الفعل الذي يقدر بالامتناع عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، حيث وجب في الاختيار والنية أن يكونا بإخلاص وصدق لكي تتحقق الإرادة، حيث قال تعالى: "الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه"، لأن الجزء المطلق فينا قد استوفى عمله إما بنية حسنة أو باختيار سيئ، وأصبح الشخص قابلا للمحاسبة عند استكمال النية إما بالجزاء أو بالعقاب إن كانت النية سيئة ما لم يعدل الشخص عنها ويستغفر، فالنية أبلغ من العمل، فإن نوى صيام رمضان واستوفته المنية حسب له صيام الشهر كاملا، وإن كان مداوما على الرواتب بعد الصلوات الخمس ومرض واستعصى عليه القيام بها ظل جزائها يكتب له ما حيى. وبذلك أصبح أن في العقل تستوفي شروط الإرادة بالنية والعزم والإخلاص والصدق، لتتدخل قدرة الله تعالى في تسيير أمور خلقه، وتدبير نظامه الذي قدره للناس في قدرتنا على تحقيق الإرادة بقول أو عمل، وندخل في مفهوم التسيير حيث أن قدرتنا مرتبطة بإرادة الله عز وجل، فعد تحقيق الإرادة وعزم النية يبقى على العبد التوكل على الله ومشيئته لتصيير الإرادة في الواقع المعاش بقول أو عمل، وجعلها حقيقة محسوسة أو ملموسة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أعقلها وتوكل"، وقال تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين". لذلك، فعند اختيارنا المطلق وعزمنا على فعل الشيء تبقى قدرتنا رهينة بكلمة "إن شاء الله"، "ولا تقولن لشيء إني فعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله"، فقدراتنا محدودة بمدد حياتنا المقدرة بيد الله، فإذا اخترت فعل شيء قد تستوفيك المنية قبل إتمامه، وقد تحاسب على اختيارك. كما يمكن أن تختار شيئا لتجد نفسك عاجزا عن تجاوز فعل الاختيار إلى تحقيقه واقعا بسبب عدم القدرة، أي عدم إرادة الله في أن تجعل من نيتك أمرا محتوما، ويمكن للشخص أن ينوي قتل شخص آخر، فيأخذ إثم الكبيرة، حيث حقق اختياره عند استيفائه للنية القتل، لكنه لا يحققه بالفعل، فقد أطال الله في عمر الآخر، وغلبت مشيئة الله على قدرة الشخص. أما إذا كان أجل الآخر قد انتهى، عندها يقدر الله تعالى تحقق مشيئة القاتل فيقدم على فعلته، وهو بذلك ظلم نفسه وظلم المقتول لكنه لم ينقص من عمره شيئا، وهكذا فإن سبب وفاة الشخص من مرض أو حادث ما هي إلا ابتلاءات يغفر بها الله لعباده الصالحين ما قدموا من أعمال أو يرفعهم بها درجات يوم القيامة، وليست أسباب حقيقة لوفاة الشخص فهو قد استوفى أجله وقضى نحبه ولم تنقص من عمره من شيء، و هذا يظهر في قوله عز وجل " يقولون لو كان لنا من الامر من شيء ما قتلنا ههنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، وليبتلي الله ما في صدوركم ويمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور" وهذا عزاء للأهل والأحباب كما هو ابتلاء لعباد الله الصالحين وحكمة لغيرهم من عبداه. وبهذا فإن محيانا ومماتنا وصحتنا وأرزاقنا بين يدي الله تعالى. وبهذا يقدرنا الله تعالى حسب اختيارنا لتحقيقه بقدرته ليهدي الله ما يشاء أن يهتدي ويزيد الظالمين كفرا ليأخذهم بذنوبهم وذلك بقوله تعالى: "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين". وذلك حتى يميز الخبيث من الطيب "ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركم جميعا فيجعله في جهنم وكثير من الناس عندما يستفيق إدراكهم على حقيقة امتلاكهم لإرادة مطلقة وقدرة تتجلى في سلطة أو قوة بدينة أو ثراء ومقام رفيع في المجتمع أو كل هذا معا، حيث يبتليهم تعالى بإرادة منه بقدرة عظيمة لتحقيق إراداتهم لحكمة بالغة تتجلى في اختبار العباد وتمييز الخبيث من الطيب، فتجتمع فيهم ملكتي الإرادة الذهنية والقدرة المادية، فيسهل الممتنع بين أيديهم ويذوب الصعب وتلين المعجزات إذ يتمكنون من تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع وتطبيقات، يتناسون مدى ارتباط قدرتهم بإرادة الخالق وتغدو العبودية لإله أمرا غائب في إيمانياتهم، فتعلو النرجسية والغرور، لدرجة أن منهم من يصل إلى ادعائه الألوهية. وقد ظهر هذا في التاريخ في معجزات الحضارة الفرعونية حيث بنيت مدن وعجائب كالأهرامات صعب حتى الآن على العامة والعلماء فهم كيفية بناءها، لما منح الله ذاك القوم من قدرات على تحقيق إراداتهم، فلما اجتمعت الصفتان في حاضرهم كبر فيهم حب النفس وتعالوا في الأرض حتى قال فرعون لقومه: "أنا ربكم الأعلى". ومن هنا، يتبين أن العبد حتى وإن يسر له تعالى قدرة في تحقيق إراداته جميعها ولم يستصعب أمرا ولم يعجزه شيء أبدا وجب عليه الاعتراف بأن القدرة من الله والانحناء شكرا وامتنانا لنعمته تعالى في توفيقه إلى نيل مبتغياته،كي لا تغيب في نفسه إحساسه بالعبودية ولا يحرم من نعمة ما امتلك ولم يمتن شاكرا خالقه منحه إياها. أمرا التسيير والتخيير واجبان يحيطان بحياة الفرد ويطوقان قدره بتلازم مستمر. لا يقدر أحدهما التواجد ولا التعايش دون الآخر، حتى تكتمل بذلك شريعة الله التي سن عليها خلقه.