"" الفصل الخامس قصور الرمال الجزء الثاني - كل هذا مع سفيان..؟ لقد تعبت من الإنتظار حرام عليك. - أنا آسف ..كان يتحدث في الهاتف لفترة طويلة..ولم أجرؤ على مقاطعته ..ثم لقد أخبرتك مع الخادم أنني سأتأخر .. - هيه ..هل أنهيت أشغالك معه ؟ - نعم انطلق يقود السيارة باتجاه الشمال على الطريق الساحلي الذي يربط مدينة الدارالبيضاء بطنجة وكانت الشمس تشارف على المغيب بين ثنايا المحيط الأطلسي ..صمت لفترة من الوقت وهو يلاحق القرص الذهبي وراء هذا البحر الكبير..متخيلا ما وراءه ..أميركا..عاوده الحنين إلى معشوقته القديمة أرض الفرص والمال والأعمال .. حاولت سمية التحدث إليه في أمور شتى لكنه تعمد الصمت ..فوضعت شريطا لعبد الوهاب الدكالي به إحدى أغانيه القديمة ..إندمج نعمان مع اللحن وانتابه شعور بالتوحد مع ماضيه البائد وأعادت له أغنية "مرسول الحب" ذكرى والده الذي كان يعشق سماعها..تذكره وهو يجلس القرفصاء بسوق الخضار وأكوام البطاطس والخيار تحاصره ..إستعاد ذكريات جلوسه معه تحت خيمته بالسوق الشعبي خلال العطلة الصيفية .. - لا..ليس هكذا يكون الميزان يا حمار - حاضر يا أبي - ياحمار عندما أناديك يا حمار لا تقل نعم يا أبي وغلا لأصبحت حمارا مثلك - حاضر يا أبي - لقد قلت لك لا تقل أبي ..قل حاضر فقط - حاضر - ..يجب أن تتأكد بأنك تعطي للناس حقوقهم ..إن الميزان حق .. - أنا آسف ..لم أقصد الغش.. - تقصد أو لا تقصد..فالنتيجة واحدة ..فما ذنب هذه المرأة المسكينة أن تعطيها كيلو الطماطم ناقصا في الميزان..هل فهمت..؟ ثم إن الكيس الواحد يكفي..هل تعتقد أنني أجد أكياس البلاستيك بالشارع.. - سامحني ..سامحني ..أرجوك كفى ..أي رأسي ..أرجوك كفى - والله لو أعدتها مرة أخرى لقتلتك يا إبن القحبة .. لقد كان الوالد قاسيا بعبارته..و نعمان فلم يسامحه أبدا ..أحبه وكرهه ..وكبر معه ذلك الشعور. كان يرى فيه الرجل المكافح الذي ينطلق بعد الفجر طلبا للرزق ..يحبه لتضحيته ويكره فيه جبروته وقساوته على الأم المسكينة ..ضربه المبرح لكل أفراد الأسرة حتى ناديا التي كان عمرها يومها لا يتجاوز الخامسة كانت تنال من لطمه وركلاته..عادت إليه ذكريات والده وقد ربط ذات يوم مريم بمرحاض البيت عقابا لها على تهاونها في الدراسة..تذكر صراخها طوال الليل وهي تكاد تجن من أصوات الفئران وهم يقفزون فوق مواسير الماء المتآكلة ..ثم انبرت لتشخص أمام بصره صورة الأب المريض على فراش الموت وهو يطلب السماح من والدته ويبرر قسوته بحبه لأبناءه وأسرته ..إمتزجت في أعماق نعمان مفاهيم الحب الجارح والعطف الملوث بالدم ..سكنته رعشة الخوف من الذكريات ..كان يتحاشى دائما الخوض في أمر أبيه لعجزه عن رسم صورة واضحة لهذا الرجل الذي حفر الخوف في أعماقه ورسخ في جوف شخصيته مفاهيم الطاعة والتسليم بالمكتوب والقدر المحتوم..فالفقر كان مكتوبا وقدرا سماويا والحرمان في عرف أبيه شرف.. والجوع تضحية ..لم يغفر له الكثير كما لم ينسى أن يذكر له تضحياته من أجل أن يعلمه ولم ينكر يوما أن الأب القاسي كان يمشي حافيا وهو يجر عربة الخضار بينما يرتدي أبناءه الأحذية الدافئة..وقد وفر لهم كل الدفاتر والكتب والمراجع. كيف يستطيع الحب أن يتقمص هذا الدور القاسي ..كيف يصبع العطف مصبوغا بهذا الجبروت..إنتابه شعور بالإرتباك فحبه لوالده ملوث بذكريات أليمة ولكنه لا يقوى على الإنفصام عنها وحبه للمغرب ملوث بخوف دفين يسكن أحشاء كيانه المتردد..خوف توارثه بالسليقة فهو العاشق المتيم بتلك الجبال الأطلسية ومروج الشاوية الخضراء وغابات الساحل وبحره ورماله وهو الخائف من سوط الشرطي و المردا ( العسكري ) وهو المرعوب من عيون المقدم والخليفة والقايد بالدائرة ..ورجال الدي إس تي المتنكرون في ازياء نادل المقهى وسائقي الطاكسيات بل وحتى مذيعي التلفزيون والإذاعة..تلاطمته الأسئلة حول مستقبل هذا الوطن الذي حوله إلى بائع مخدرات..سال نفسه ..ألم أسهل أن يقتسم الشعب ثروات البلاد من فوسفات وسمك ومدخول السياحة ألم يكن أجدى أن يؤمن الوطن لأبنائه العمل الشريف وفرصة الإنتماء إلى الوطن طوعا لا إجبارا إختيارا لا عنوة..ألم توجد هذه الإدارات من اموال الشعب وخيرات البلاد وما تكدس على كاهل البلاد من ديون .. أحس بلفحة برد قارس فأغلق نافدة السيارة ..كانت سمية تغط في نوم عميق وقد ارتسمت على وجهها الأصفر الشاحب ابتسامة طفولية بريئة..تأمل وجهها وفكر مليا في أمر الطفل الذي سيولد وحاول فك رموز مشكلته ..أجهد نفسه في ترتيب الحلول الواحد تلو الآخر ..بدأ بالسكن بطنجة ..فكان بيت والد سمية هو الحل الأمثل..ثم انتقل ذهنه يقلب المعادلات المعقدة تناول حبة من أقراصه المفضلة ولم يكن لفعل ذلك لو إحساسه الماس لها ..لقد بات مدمنا عليها كإدمانه على الدخان. تحولت طنجة إلى عاصمة للبنايات الشاهقة ولكنه ليس يستطيع شراء شقة فثمن المنازل هناك تتعدى حدود الخيال ..كيف لا وقد تحولت المدينة إلى قبلة لكل الراساميل الأجنبية واختطلت بأسواقها أموال مهربي المخدرات بأموال العمال المهاجرين إلى أوروبا بأموال أثرياء المغرب الذين يتملكون البيوت فيها للإصطياف وبين هؤلاء وهؤلاء ضاعت على الموظفين وذوي الدخل المحدود فرصة إيجاد غرفة مع حمام ومطبخ فكيف له ذلك وهو الذي يجازف بكل ما جمع من مال في رحلاته المحفوفة بالخطر..فرك وجهه وهو يطرد الهموم عن ذهنه ..ممنيا نفسه بتجارته المربحة ولم يفسح أي مجال لذلك النداء الذي يطارده طوال الوقت..نداء آت من نعمان الإنسان المثقف الطالب الطموح والمواطن العاشق لشعبه وأبناء بلده. نعمان تاجر مخدرات..نعمان تاجر مخدرات ..مكتب الأستاذ نعمان ..تاجر المخدرات..مكتب الأستاذ نعمان مدمر الشباب ومروج الموت بين الفقراء والمعدمين.... إنه النداء الذي يزعجه ويكدر عليه كل ساعات يومه وليله .. كم يكره أن يستمع إلى هذا الصوت الذي لم يكن غريبا عن شخصه القريب من بؤر الإنسان بداخله كان على يقين أنه خارج وعاءه و يدرك أنه يسبح في مياه عكرة فتجارة المخدرات عالم يقصم فيه ظهر اللين الطري ..كان يعلم أن أيادي كبيرة تغرف من تجارة الموت ولكنه كان يقنع بموقع التاجر الصغير الذي لا تتجاوز دائرة نشاطه بعض الكيلوغرامات من الحشيش منتظرا اليوم الذي تبزغ فيه شمس حريته ..لم يعد يقوى على الإعتزال فخيوط اللعبة تشابكت كما لم يعد يملك حرية التصرف في بضاعته الملعونة ..فكثيرا ما كان " المعلم الكبير" يمنع عنه البضاعة إذا لم يقبل بترويج لسلعته في مدن الداخل وخصوصا الدارالبيضاء ..فكر مليا في الإستعانة بآدم ونفود آدم للتخلص من تسلطه ولكنه تريث إلى حين أن تتجدر سلطة مريم وتتملك من القرار بصورة أمتن . عاوده الحنين إلى أحلام الجامعة وحوارات الجامعة ونقاشتها الليلية وقناديل الزيت تنتحر بكبرياء والطلبة يفكون معادلة الصراع الطبقي ..وآمال الخلاص من جبروت النظام البوليسي ..حاول إسترجاع أسماء الرفاق وهم يصارعون المد المتزايد لحركات الإسلام السياسي تذكر معارك لن ينساها وأبت صورة عبده الحشاش أن تفارقه وهو يقود هجمة على مسجد يتجمع فيه الطلبة الإسلاميون ..تذكر كيف كان الحشاش رائدا وزعيما ..تخيل المدرج وفصول القانون الجنائي ومساطر القانون المدني ..ثم تلاشت الصور بعد أن هجمت ظلمة المساء البارد ..أحس أن سمية ترتعش ولم تكن السيارة مجهزة بمدفئة فركنها على جانب الطريق وأخرج معطف والده من الحقيبة ووضعه على جسمها الصغير..أحست سمية به فتمتمت بعبارات الشكر وهي تسأل: - أين نحن .. هل وصلنا ؟ - لا مازالت أمامنا ثلاث ساعات ونصف ..نامي.. نامي ..سنقف لكي نأكل بعد ساعة كان الطريق طويلا وزاده طولا صوت مارسيل خليفة وهو ينشد " مناضلون بلا عنوان مناضلون في أي مكان ..نكتب سرر الأبطال للأطفال ......." حتى مرسيل خليفة بات يغني في الأوبرا وتخلص من ثوابت الأغنية النضالية الملتزمة ..كان نعمان كلما تناهت إلى سمعه بعض أغاني مرسيل يحس أن الرجل خان عهدا كان قد قطعه على شباب من أمثاله ممن كانوا يتلمسون طريق الخلاص في صوته. توقفا عند أحد المطاعم الشعبية.. بضعة كلومترات قبيل مدينة القصر الكبير ..كانت أمعاءه تتلوى جوعا ..وطابور المسافرين طويل جدا وكلهم في عجلة من أمرهم. إختلطت رائحة الشواء برائحة المازوت المنبعثة من الحافلات الكبيرة ..إنتظر طويلا قبل أن يقتنع بأن الوقوف في الطابور لا يجدي فألقى بجسمه بين الجموع وخاض معارك مريرة للوصول إلى البائع الذي كان يشتغل بسرعة آلية وهو يسأله عن ما يود أكله .. - واحد كفته وواحد شواء غنمي الله يرضي عليك - في الصحن أو في الخبز ؟ - في الخبز - شاي أو كوكا ؟ - إثنين كوكاكولا )يتبع)