الجهل بحكم الضرورة الفقهية في الممارسة الطبية : إن الملاحظ على الكليات التي يدرس فيها الطب وكذا معاهد تكوين الممرضين والممرضات هو غياب العلم بالحكم الشرعي كمحدد لتطبيقات ما يدرس بها غيابا كليا عن مناهجها، وحتى عما يسمى بعلم الأخلاق المهني. ومن هنا فقد يحشر الطلبة والطالبات بدون تحفظ أو مراعاة لقواعد الحياء والضرورة العينية أو الكفائية لدراسة علم التشريح ووظائف الأعضاء وخاصة في طب النساء والتوليد والأمراض التناسلية وما إلى ذلك. فعلم الطب يندرج في حكم الفرض الذي شمله الحديث النبوي الشريف "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، إلا أن الطب لا يأخذ صورة الفرض العيني المقصود من الحديث ابتداء، وإنما يندرج في حكم الفرض الكفائي من حيث التفاصيل وإن كان أصله معلوما من طرف الأنبياء والرسل مما يدرجه في إطار الفرض العيني وهو الذي اعتنى به العلماء وألفوا فيه كتبا سموها بالطب النبوي. عن هذا التقسيم الذي يحدد موقع علم الطب في العلوم الاسلامية من حيث اعتباره فرضا عينيا في الاجمال وكفائيا في التفصيل يقول أبو حامد الغزالي : "اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالاضافة إلى الفرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة، فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح ، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة، وأما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة. فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه، وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات، وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه. وأما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبيان، فهي محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة...". وعن المفاضلة بين الطب والفقه يقول أيضا : "اعلم أن التسوية غير لازمة بل بينهما فرق، وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه : أحدهما : أنه علم شرعي، إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع. والثاني : أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة البتة، لا الصحيح ولا المريض. وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون. والثالث : أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة، لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب، فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة، والمذموم يصدر من المذموم ، وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب، وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب، فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه..."[. "...ثم المريض لا يستغني عن الفقه كما لايستغني عن الطب وحاجته إلى الطب لحياته الفانية وإلى الفقه لحياته الباقية وشتان بين الحالتين، فإذا نسبت ثمرة الطب إلى ثمرة الفقه علمت ما بين الثمرتين . فعلم الطب ينبغي أن يبنى على النظافة والطهارة لأنها أصله، حتى يصبح علما نافعا شريفا بشرف الفقه، وهذه النظافة ينبغي أن تكون معنوية قبل الحسية لأنها أول وظائف المتعلم في تحصيل علمه كيفما كان حتى يصير علما نافعا وهي "أن يقدم طهارة النفس عن ردىء الأخلاق، فكما لا تصح عبادة الجوارح في الصلاة إلا بطهارة الجوارح ، والعلم عبادة النفس وفي لسان الشرع عبادة القلب، فلا يصح إلا بطهارة القلب عن خبائث الأخلاق وأنجاس الصفات، قال عليه السلام : "بني الدين على النظافة" وهو كذلك باطنا كما أنه كذلك ظاهرا". وأية نظافة تبقى حينما يجتمع الفتيان والفتيات على مجموعات مختلطة ومتبرجة لدراسة أو رؤية أعضاء تناسلية على مستوى التشريح وتفسير الوظائف أو أسباب المرض وأعضائه، إما لمريض أو مريضة وإما لجثة إنسان ميت أو حتى لدمية على حجم جسم الانسان ؟ وأي علم يبقى محمودا نافعا حينما تستحضر هذه الأفواج من الطلبة في كليات الطب أو مراكز تكوين الممرضين والممرضات لمشاهدة امرأة مريضة أو نفساء أو في حالة إجهاض وهي مكشوفة العورة بل كل الجسم في كثير من الحالات ؟ أو ليس هذا المنهج العشوائي في تدريس علم الطب والتمريض يكون أخطر مهدد لصحة الشرف والعرض رغم ما يقدمه الطب من علاج ومداواة لأمراض الأجساد وأعراضها؟ !!! بلى ! فإن تهديد العرض يكون أشد من أمراض الجسد، وعدوى مرض الأعراض أكثر فتكا من عدوى مرض الأجساد. وهذه الاختلالات المنهجية والأخلاقية في التكوين الطبي وتدريباته كما يلاحظ المرضى ومن لهم بحث واستقصاء في الموضوع، قد يؤدي بالممارسة المهنية إلى الانحدار في استسهال الرذيلة قولا وفعلا وكذلك إلى خلع حجاب الحياء وبالتالي الجلباب عند النساء تأثرا باستسهال ملاحظة العورات وكشفها على شكل جماعي ولغير ضرورة ملحة كما رأينا في فتوى ابن تيمية بأنه يباح للطبيب النظر للحاجة "ولكن مع عدم الشهوة "، وهذا في حالة عدم وجود نساء يتولين تطبيب بعضهن البعض لظروف خاصة يخشى فيها هلاك المريضة إذا لم توجد طبيبة كفأة تتولى علاجها. لكن الواقع العلمي والتقني الحديث يؤكد أنه بالإمكان أن تتولى النساء تطبيب وتوليد بعضهن دون حاجة إلى الرجال، وخاصة فيما يقتضي الكشف الجسدي ذي الإثارة الجنسية، بل كان الشأن في مثل هذه الحالات عبر الأزمان حيث كان الوعي بمفهوم الضرورة والفرض العيني والكفائي سائدا، أن يتولى النساء تمريض بعضهن أو تطبيبهن فيما لاينبغي أن يطلع عليه الرجال لتفادي الحرج، كما يروى عن الزهري قوله في الشهادة: "مضت السنة بجواز شهادة النساء فيما لايطلع عليه الرجال". وهذا لايعني المنع الكلي للرجال من تطبيب النساء وعلاجهن، إذ الضرورة قد تكون في حالات استثنائية مثل الحروب والغزوات على سبيل تضميد الجراح وجبر الكسور...إلخ، أو عند عدم وجود امرأة طبيبة أو ممرضة في قرية أو مدينة ما. لكن هذا لايعني الركون إلى مبدأ الضرورة كذريعة لفتح المجال على مصراعيه لتولي النساء تطبيب الرجال أو العكس، إذ أنه يكون من المحتم على الأمة وولاة أمورها كتطبيق للحكم الفقهي المحدد لمفهوم فرض الكفاية في الطب، بالسعي إلى تكوين الأطر الكافية من النساء والرجال على حد سواء للقيام بهذه الوظيفة على أحسن وجه، يضمن سلامة العرض والصحة الجسدية للفرد. كل يباشر علاج نوعه ، فالمرأة تباشر المرأة والرجل يباشر الرجل حتى يبقى الطب خادما للشريعة ومحميا بقواعدها. و"مهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه" حسب تعبير الغزالي الذي نجد لديه ملاحظة دقيقة في هذا المجال تؤكد ضرورة الإحتياط في صياغة تكوين الطبيب والممرض وملازمة علمه بالفقه لعلمه بالطب، حتى يصبح موثوقا به، وتصبح شهادته ومشاهدته غير متهمة أو مقلقة. فيقول منبها على هذا الخطر لأهل الفقه والفتيا " فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لانرى أحدا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى، والجواب عن الوقائع، فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الإشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال مالا قائم به ؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب لن يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء ؟ ..." ويقول في نفس المعنى أيضا : " فأما الفتوى فقد قام بها جماعة ولا يخلو بلد من جملة الفروض المهملة ولا يلتفت الفقهاء إليها وأقربها الطب. إذ لا يوجد في أكثر البلاد طبيب مسلم يجوز اعتماد شهادته فيما يعول فيه على قول الطبيب شرعا، ولا يرغب أحد من الفقهاء في الإشتغال به. وهذه الملاحظة الميدانية عند الغزالي كفقيه وصوفي سنجدها عند داود بن عمر الأنطاكي كطبيب في كتابه " تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب" يبين فيه سبب إقدامه على تعميم علم الطب والاحتياط فيه حيث يقول : "فإذا لم يكن العارف به أمينا متصفا بالنواميس الالهية، حاكما على عقله قاهرا لشهوات نفسه، أنفذ أغراض هواه وبلغ من عدوه مناه، ومتى كان عاقلا دله ذلك على أن الانتصار للنفس من الشهوات البهيمية، والصبر والتفويض للمبدع الأول من الأخلاق الحكمية النبوية. حتى جاء أبقراط فبذله -أي الطب- للأغراب فحين خرج عن آل اسقلميوس توسع فيه الناس حتى تعاطاه أراذل العالم كجهلة اليهود فرذل بهم ولم يشرفوا به... فقد نقل إلينا أن أبقراط عوتب في بذله الطب للأغراب فقال : رأيت حاجة الناس إليه عامة والنظام متوقف عليه، وخشيت انقراض آل اسقلميوس ففعلت ما فعلت، ولعمري قد وقع لنا مثل هذا فإنني حين دخلت مصر ورأيت الفقيه الذي هو مرجع الأمور الدينية يمشي إلى أوضع يهودي للتطبب به فعزمت على أن أجعله كسائر العلوم يدرس ليستفيده المسلمون، فكان في ذلك وبالي ونكد نفسي وعدم راحتي، من سفهاء لازموني قليلا ثم تعاطوا التطبب فضروا الناس في أبدانهم وأموالهم وأنكروا الانتفاع بي وأفحشوا في أفاعيلي، أسأل الله مقابلتهم عليها، على أني لا أقول بأني وأبقراط سالمان من اللوم حيث لم نتبصر . فيجب على من أراد ذلك التبصر والإختبار والتجارب والامتحان، فإذا خلص له شخص بعد ذلك منحه لتخف الضرورة، وكذا وقع في أحكام النجوم حتى قال الشافعي رضي الله عنه : علمان شريفان وضعما ضعة متعاطيهما : الطب والنجوم" إنه تحليل موضوعي ودقيق يتوافق على خلفياته وأبعاده كل من الفقيه الصوفي والطبيب المتفقه، لأن فكرهما ينهل من مصدر واحد وهو دين الاسلام الذي أراده الله لعباده عقيدة وشريعة وسلوكا. كما أن هذه التحليلات تجمع بين الاستدلال النظري والاستقراء الميداني والملاحظة الخارجية، وبذلك جاءت معبرة عن وعي ناضج بالواقع الاجتماعي وأسباب الاختلال فيه، وضوابط اتزانه من خلال تحديد المنهج العلمي المتحكم في أنماط سلوكه. إذ الطب يقتضي في كثير من الأحيان كشف العورات والشهادة لإثبات النسب أو الحمل حينما يقع الاختلاف والتشكك بين الزوجين أو الزوجة والورثة... إلخ، ولهذا فإذا كان الطبيب غير عدل فقد لا يوثق بشهادته وبنتائج فحوصه، بل لا يؤمن من شر شهوته كما أشار إلى ذلك الأنطاكي في النص السابق وذلك لإمكان انحراف نيته وتعوده على عدم ضبط بصره أو غضه، وخاصة إذا كان كافرا ذميا وغيره، أو حتى إذا كان مسلما يميل إلى الفسق أو الجهل بأحكام الشرع ممن ليس أهلا لقبول شهادته، فكيف بقبول كشفه عن العورات بمشاهدته؟!!! وبسبب هذه المحاذير صاغ الأطباء المسلمون عهد أبقراط الذي كان يأخذه على المتعاطي للطب من تلامذته بشرحه وفق المبادىء الاسلامية الضامنة لعدالة الطبيب كما يقول الأنطاكي : "وقال بعض شراح هذا العهد إنه قال فيه : ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة كامل الخلقة صحيح النية نظيف الثياب طيب الرائحة يسر من نظر إليه وتقبل النفس على تناول الدواء من يديه، وأن يتقن بقلبه العلوم التي تتوقف الاصابة في العلاج عليها، وأن يكون متينا في دينه متمسكا بشريعته دائرا معها حيث دارت واقفا عند حدود الله تعالى ورسوله، نسبته إلى الناس بالسوا خلي القلب من الهوى، لايقبل الارتشاء ولا يفعل حيث يشاء ليؤمن معه الخطأ وتستريح إليه النفوس من العنا ..."ونعود إلى مراجعة الخلفيات التي سبرها الغزالي لتحديد الباعث إلى الاقبال المكثف على تعاطي الفتاوى والقضاء ، رغم وجود الكفاية فيها مع الخصاص في دراسة الطب ومزاولته مع ضرورته والحاجة إليه. فنتساءل بدورنا عن خلفيات إقبال كثير من الرجال في عصرنا على مزاولة طب النساء والتوليد وما إلى ذلك كتخصص، رغم أن النفس عادة ما تنفر من الحديث عن تفاصيله إبتداء، فكيف بممارسة تطبيقاته وما تتطلبه من عمليات (قيصرية) وغيرها؟! فهل يكون الباعث علميا محضا أم ماديا صرفا أم على سبيل القيام بفرض الكفاية كحكم فقهي؟ إن كل الفرضيات لا تخلو من فجوات تضعف قيمة هذا الباعث أو ذاك، فإذا كان الباعث علميا محضا حسب زعم المتخصصين في هذا المجال، فهناك من العلوم ما هو أولى قد يهمله هؤلاء الأطباء ربما يكون طلبه بالنسبة إليهم فرض عين وأهم من طلب علم طب النساء بل ممارسته، إذ التعلم شيء والممارسة توظيف عملي له، والخطر أو الحذر محدق بالممارسة لا بالعلم!. أما إذا كان الباعث ماديا، فإنه وإن لم يصرح به غالبية المتخصصين في هذا المجال يكون أقرب إلى الباعث الشهوي الجنسي وغاياته، لأن الذي يكون هدفه الأولي هو تقلد المناصب و جمع المال يتبعه بالضرورة التطلع إلى التنوع في الجمال، إذ كما يقول الغزالي : "والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات إذ يتبعهما شهوة الفرج وشدة الشبق إلى المنكوحات، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال الذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات... فالمرأة كلها عورة وجمالها كله شهوة، كما أن حب المال شهوة، فالتقارب بين الباعث المالي والجنسي قائم للاشتراك في جنس الشهوة. ومن هنا فيكون الحذر شديدا إذا كان الباعث مجرد ربح مادي محض، وخاصة إذا كان الطبيب أيسر شيء لديه هو الكشف عن جسم النساء بمجرد أبسط عرض أو شكوى من مرض. وأما إذا كان الباعث سد الضرورة كفرض كفاية، فإن هذه الضرورة غير لازمة ما دامت الكفاية قائمة بوجود النساء وقابليتهن للتعلم وممارسة التطبيب بينهن كأقرب مهنة إلى وعيهن ونفوسهن، بل عاطفتهن لادراكهن آلام بعضهن البعض واشتراكهن في مقاساة أعراض الولادة وأمراض الرحم وما إلى ذلك على سبيل التجربة والاختبار ، إذ الوضع السليم يقتضي أن تكون غالبية التخصص في هذا المجال لدى النساء ما دام المجتمع لا يخلو منهن ، بل إنهن أكثر عددا من الرجال في هذا العالم إن صح الإحصاء!. والنقد موجه إلى النساء أيضا، وخاصة اللواتي فضلن الخروج إلى العمل خارج بيوتهن لضرورة أو لموقف شخصي ومذهبي (إيديولوجي) يطرح سؤال : وهو لماذا لا تهتم النساء المعاصرات من هذا الصنف بقضاياهن الخاصة بهن أكثر من اهتمامهن بالتطلعات السياسية والادارية والتجارية والفنية...إلخ ؟ أو لم يكن من باب الحفاظ على كرامتهن وأسرارهن والسعي في تكريس خصوصيتهن حفاظا عليها ومن أولى أولوياتهن أن يكفين بعضهن البعض حرج التكشف للرجال من الأطباء والممرضين، بالتعاطي المكثف لمهنة طب النساء والتوليد والتفرغ لهذا العلم تخصصا وتفحصا حتى تتحقق لديهن المساواة التي ينشدنها صباح مساء في مثل هذه المجالات؟ إن الخلل يبدو واضحا في التوجهات العلمية وخلفياتها ابتداء، سواء لدى الرجال أو النساء، وهذا الخلل ناتج عن تناقض المناهج المستوردة من الغرب دون دراسة متكاملة أو تمحيص وهي محملة بتصورات مادية ذات خلفيات عقدية فاسدة، مما يترتب عنها حتما فساد السلوك وبالتالي تعريض الأعراض إلى الخطر المحدق والأجساد إلى النظر المقلق ، دون احتياطات أو تحفظ تتكشف بسببه العورات ويتعود فيه على التبرج لغير ضرورة، تحت غطاء التطبيب والتمريض ومبرر العلاج والتداوي دون مراعاة أحكام الفقه الشرعية وسلامة الفتاوى. وهذا الخلل في مناهج التطبيب وتعلمه ليس وليد العصر، وإنما قد عرف في أزمان ماضية وخاصة لدى بعض الأطباء المتأثرين بالمناهج اليونانية في علم الطبيعيات دون مراعاة لعلم الأخلاق والالهيات، بحيث أصبح الطبيب -كما هو عليه حال غالبية أطباء عصرنا إلا من رحم الله وقليل ما هم- لا يرى في الانسان سوى مجموعة أمزجة وأخلاط أو خلايا بلغة العصر تموت بموت الجسد، مما ترتب لديه اعتقاد فاسد لقصر نظره وانحرافه صاغه أبو العلاء المعري في هذين البيتين: قال المنجم والطبيب كلاهما *** لا تبعث الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بنادم *** أو صح قولي فالخسار عليكما وبهذا الفساد العقدي والسلوكي للطبيب، يكون بدوره مريضا لا ينضبط علاجه ولا يوثق بوظيفته حتى يكمل دراسة طبه بتقوى الله والعلم بحكم شرعه في مهنته، وإلا كان وضعه كما يستشهد الصوفية كثيرا بهذا البيت: وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي والطبيب مريض تكريس التناقض والتجهيل بالتبرج في التمثيل : وربطا لموضوع التعليم وأثره كخلفية للتبرج بسبب غياب الوعي بحكم الشرع في مراحل توظيفه أضيف موضوعا آخر قريبا منه، باعتباره طبا اجتماعيا لدى المتعاطين له وهو التعليم الفني الخاص بالتمثيل، والذي يتضمن المسرح والسينما والمسلسلات التلفزيونية. وهذا النوع من الفن قد يعتبره أصحابه رسالة محايدة للمجتمع، تعالج مشاكله وتصور وقائعه وأحداثه وهمومه وأفراحه... إلخ مما يعني أنه ذو وظيفة ضرورية قد تضاهي الطب الجسماني من حيث اعتبار تعاطيه فرض كفاية، لأنه طب اجتماعي ونفسي وفكري، بل له بعد حضاري وخاصة في عصرنا الحالي. وحينما نلقي نظراتنا البسيطة على هذا الفن التمثيلي وأحوال الممثلين أثناء ممارساتهم له، نجد أن أغلبه بل إن شئنا قلنا كله مما هو معروض في دور السينما والتلفزات وأشرطة التسجيل الخاص (الفيديو) لا يلتزم فيه الحياد ابتداء وانتهاء، كما أنه قد لا يمت إلى التمثيل بصلة إذا أردنا أن نعرفه تعريفا لغويا وفكريا ذوقيا يتماشى مع الفن في أصالته وعراقته، سواء كان منثورا أو منظوما أو مرسوما مشخصا. إذ التمثيل في علوم البلاغة لغة واصطلاحا كما يعرفه ابن قيم الجوزية : "هو التشبيه على سبيل الكناية، وذلك أن تراد الإشارة إلى معنى فتوضع ألفاظ على معنى آخر، وتكون تلك الألفاظ وذلك المعنى مثالا للمعنى الذي قصدت الاشارة إليه والعبارة عنه. كقولنا : "فلان نقي الثوب –أي منزه عن العيوب- وللكلام بهذا فائدة لا تكون لو قصد المعنى بلفظه الخاص به، وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصوير المدلول عليه، لأنه إذا صور في نفسه مثال ما خوطب به، كان ذلك أسرع إلى الرغبة فيه أو الرغبة عنه. فمن بديع التمثيل قوله تعالى : "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا" فإنه مثل الاغتياب بأكل الانسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتىجعله لحم الأخ، ولم يقتصر على لحم الأخ حتىجعله ميتا، ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مناسبة مطابقة للمعنى الذي وردت لأجله..." ويعرف الخطيب القزويني التمثيل بما "وجهه وصف منتزع من متعدد أمرين أو أمور، وقيده السكاكي بكونه غير حقيقي ومثل بصور مثل لها غيره. ومنها قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فإن تشبيه حال المنافقين بحال الموصوف بصلة الموصول في الآية في أمر حقيقي منتزع من متعدد وهو الطمع في حصول المطلوب لمباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الاسباب". أما الغزالي فيقول عن التمثيل في بعده الروحي الذوقي : "ولعلك تقول أشرت في بعض أقسام العلوم إلى أنه يوجد فيها الترياق الأكبر وفي بعضها المسك الأذفر و في بعضها الكبريت الأحمر إلى غير ذلك من النفائس، فهذه استعارات رسمية تحتها رموز وإشارات خفية، فاعلم أن التكلف والترسم ممقوت عند ذوي الجد، فما كلمة طمس إلا وتحتها رموز وإشارات إلى معنى خفي يدركها من يدرك الموازنة والمناسبة بين عالم الملك وعالم الشهادة وبين عالم الغيب والملكوت، إذ ما من شيء في عالم الملك والشهادة إلا وهو مثال لأمر روحاني في عالم الملكوت كأنه هو في روحه ومعناه، وليس هو في صورته وقالبه. والمثال الجسماني من عالم الشهادة مندرج إلى المعنى الروحاني من ذلك العالم، ولذلك كانت الدنيا منزلا من منازل الطريق إلى الله ضروريا في حق الانس، إذ كما يستحيل الوصول إلى اللب إلا من طريق القشر فيستحيل الترقي إلى عالم الأرواح إلا بمثال عالم الأجسام، ولا تعرف هذه الموازنة إلا بمثال ..."[. فالتمثيل حسب هذه التعاريف اللغوية وأبعادها الروحية هو كناية عن شيء ما بغير مصطلحه الحقيقي أو الواقعي، ووصف لظاهرة بمعنى غير مظهرها سواء كانت هذه الظاهرة محسوسة أو غير محسوسة، إذ الكناية يمكن أن تكون بمحسوس عن محسوس وبمحسوس عن تجريدي، وذلك على سبيل المقابلة العمودية أو الأفقية بحسب الحال والمناسبة التي تقتضي توظيفها. فالتمثيل بالمحسوس عن المحسوس يتطلب زيادة الممثل له معنى أكثر مما يقتضيه لو شخص كما هو، وإلا سيصبح عبارة عن تفسير الماء بالماء والعين بالعين وهذا لا يفيد بلاغة ولا فنا، وبالتالي لا يحتاج إلى مناسبة أو موازنة والتي هي الذوق بمعناه الفني والصوفي خصوصا، وهو ما لوحظ من تكرار لفظة المناسبة في تعريف التمثيل عند البلاغيين وعند الصوفية بصورة مكثفة. أما التمثيل بالمحسوس على المجرد أو المعنوي، فهو في الحقيقة لا يزيد المجرد معنى آخر أكثر مما هو عليه وإنما يقرب إلى فهم ووعي السامع الذي ألف المحسوسات ولم يستطع فهم المعاني إلا على أساس المباني. إذ كما يقول الغزالي في كتاب عجائب القلب من الاحياء : "فلنذكر الآن من شرح عجائب القلب بطريق ضرب الأمثلة ما يقرب من الأفهام، فإن التصريح بعجائبه وأسراره الداخلية في جملة عالم الملكوت مما يكل عن دركه أكثر الأفهام". وهناك نقطة أخرى يمكن إدراجها ضمن فوائد التمثيل بالمحسوس عن المعنى، وهو أن التمثيل له دور في إضفاء القيمة المعرفية على المحسوس بعدما كان مجرد جماد أو حيوان مهمش يوظف للسخرة الحسية المحضة، إذ منه ما يوظف على سبيل المدح إن كان الأمر يتعلق بالمعاني العلوية، أو على سبيل الذم إن كان الأمر يرتبط بالسلوك الباطني المريض للإنسان، والذي هو أيضا معنى ولكن في درجة سفلى يمثل لها بسلوك حيوان ما أو حشرة وما إلى ذلك كما هو الغالب على الأمثلة الصوفية في تحديد المحمود من المذموم من سلوك الإنسان. وربطا للتمثيل اللغوي والذوقي الصوفي بالتمثيل السينمائي أو المسرحي والتلفزي، فإننا سنجد هذه القواعد الفنية لا توظف بصورتها السليمة والعلمية وإن كانت تسمى زعما كذلك، لأن الفن يقتضي الذوق وهو يكون عند التمثيل بإدراك الموازنة بين الممثل له والممثل به وبين أداة التمثيل في الكناية والدلالة على معنى التمثيل. فالملاحظ على غالبية الممثلين والممثلات في أدوارهم أنهم لا يكنون بمحسوس عن محسوس ولا بمعنى عن ملموس، وإنما يوظفون المحسوس إما في صورته الخارجية كما هو، أو أنهم يضيفون للمحسوس في شدة ظهوره محسوسا أشد من جنسه، وهذا العمل يعتبر من توضيح الواضحات التي لا تزيدها إلا فاضحات. فعوض أن يقوم التمثيل بوظيفته الطبية والتربوية لإظهار جمال الجميل من السلوك والكناية عن قبح القبيح وإخفاء شكله مبالغة كدقة وبعد فني، فإن العكس هو الحاصل في أغلب الأحيان وذلك بإخفاء الجميل المعنوي لإظهار المحسوس الشهوي، وعوض الكناية عن القبيح على سبيل التنفير منه معنى كمنهج تربوي ينقل في أسوأ صورة كعصارة للفساد والأمراض، كما تنقل الذباب الجراثيم من المزا بل التي لا يمر بها الناس إلا لماما وعن غفلة إلى أماكن التجمعات والمنتديات. ومن هنا فقد لا نجد في أغلب المسلسلات أو قل كلها سوى تشخيص لصور خارجية ولكن بصورة مشوهة ومتكلفة لا تفي بنقلها على الأقل طبق أصلها أدوار ممثليها. وقد يتجلى هذا التشويه خصوصا في المسلسلات والأفلام التي تروي أحداثا تاريخية وخاصة ما يتعلق بتاريخ المسلمين، الذي هو أطهر وأنظف تاريخ الانسانية جمعاء عند المقارنة. فقد يقع الممثل والمخرج عند تصوير هذا التاريخ في تناقض صارخ بين مقتضيات التمثيل البلاغية والروحية وبين خلفيات الاخراج ودوافعه المادية والتجارية، بل المذهبية المخالفة سلوكيا أو حتى عقديا لما ينبغي تشخيصه بحسب عنوان الفيلم أو المسلسل. إذ الغالب على المشاهد التمثيلية هو الميل نحو التبرج في عرض النساء المشخصات كمسلمات، وافتعال التغزل بهن على سبيل وصف ظاهرة أو جانب ماجن من التاريخ الذي ساد فيه المسلمون، فينقلون هذا المجون من صورته اللغوية إن صح في كتب التاريخ إلى تشخيص عملي لا يسمو إلى درجة التمثيل أو التشبيه بالكناية، وإنما ينحدر إلى التوغل في ممارسة الفاحشة والرذيلة على مرآى ومسمع من ملايين المشاهدين لأجهزة التلفاز وغيرها ، كإساءة للتاريخ وإساءة للمتفرج بالتبرج المغنج، وكإساءة للتمثيل من حيث هو فن يكني بالمحسوس عن المحسوس لستر ظهوره إن كان ظاهرا أو لاظهاره إن كان مستورا، أو بالمحسوس عن المجرد لتقريب المعنى وتهذيب ذوق المتفرج وتحريك فكره للموازنة وإدراك المناسبة بين الممثل به والممثل له. وهذا الذي وقع فيه الممثلون وأصحاب الفن المزعوم في عصرنا هو غلط فني وجهل بدوره في تهذيب الذوق الانساني، كما أن هذا الغلط ناتج إما عن جهل بالحكم الشرعي في موضوع التمثيل والكنايات، وخاصة حينما يتعلق الأمر بوصف المحاسن الجسدية والعمل الجنسي والتغزل بين أجنبي وأجنبية. ومن هنا يكون الممثل أو المخرج قد وقع في جهل مركب بإدراجه للقطات المرأة الملامسة للرجل الأجنبي أو المتغزلة به والمصرحة بذلك مع تكشفها، مما أصبح كأخطر خلفيات التبرج لدى كثير من النساء الممثلات والمقلدات لهن من المتفرجات. كما قد يكون إدراج هذه اللقطات ناتجا عن مخالفة صريحة لحكم الشرع في موضوع الحجاب والتبرج إما تأثرا بآراء غربية فاسدة، أو انسياقا نحو أطماع مادية لإرضاء الجمهور المتعطش إلى اقتناص الشهوات كما هي عليه المناهج الغربية في التربية والتعليم والتطبيب والتمريض التي رأينا اختلالاتها. وقد تكون هذه المخالفة تحت وهم الضرورة الفنية فتكسر القاعدة كما هو الشأن في الضرورة الشعرية، أو أن الجمهور ينبغي له أن يطلع على هذه الأحداث كما هي عليه كأمانة علمية وفنية مزعومة، وإذاعته كمخالفة صريحة لأحكام الشريعة الاسلامية، إذ أن كل مخالفة لها يعتبر جهلا علميا. وهنا نقول كما قال الغزالي في الطب سابقا : فمهما أضيف الفقه إلى الفن ظهر شرفه . الناس في جهة التمثيل أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب *** يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرىء ما كان يحسنه*** والجاهلون لأهل العلم أعداء أهم المصادر القرآن الكريم صحيحا البخاري ومسلموسنن الترمذي الغزالي، إحياء علوم الدين ج 3 المحاسبي، الرعاية لحقوق الله، دار الكتب العلمية بيروت 1409 - 1985، ابن قيم الجوزية، الروح، دار الكتب العلمية بيروت الغزالي : منهاج العابدين، الرازي : التفسير الكبير، ج 24 حاتم الكعبي، التغيير الاجتماعي وحركات المودة الصابوني : مختصر ابن كثير، نقلا عن الصحاح للجوهري ج 2، ابن عربي : الفتوحات المكية، ج 3، القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ج 12 الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية الكويت أفلاطون، جمهورية أفلاطون، داود بن عمر الأنطاكي، تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب، ج 1،