الشريعة ليست متعالية لعل المثل الأبرز على بؤس الاختزالية الحصرية في مقاربة الدين الإسلامي، هو اختصاصه بقسمٍ شريعيٍّ يمثل المساحة الأكبر في تعاليمه. إن مجرد وجود شريعة، ينقل الموضوع من كونه علاقةً بين الإسلام والعلمانية، إلى كونه علاقةً بين علمانية الإسلام وعلمانية أوروبا. فالنزاع لن يصبح حول العلم والعالَم، بل بين فلسفةٍ ماديةٍ أحادية، وبين فلسفة ماديةٍ روحية، أو روحيةٍ مادية، هما ما يشكل خلفيةً لكلا العلمانيتين. إن مثل هذا الحصر الذي تقع فيه بعض التيارات العلمانية الاختزالية، هو نفسه ما تقع فيه بعض التيارات الإسلامية، التي تنظر إلى الشريعة كما لو كانت غايةً إلهيةً في ذاتها، أو مجالاً ثابتاً غير متحرك، متعالياً غير متدانٍ. وفيما يلي، سنبرر فهما آخر للشريعة، بما يحررها من هيمنة الأحكام المسبقة، والظاهرية، سواءً تلك التي لا ترى لها أي قيمةٍ تذكر، وتلحقها بالإرث الإكليروسي البائد، أو تلك التي ترى فيها الغاية القصوى للكائن، حيث الشريعة منظورٌ إليها ها هنا بغلوٍّ وحصرٍ ومجمودية. أيُّ معنىً للشريعة في ضوء التبني الحضاري والتجديد الجذري؟ ليست الأحكام في الشريعة ثابتةً بل متحركة. وليست أحكاماً بسيطةً بل إنها مركبة. فالشريعة تمتد وتتسع ويعاد تشكيلها باستمرار. ما يجعل المهمة يسيرةً على فعل التكييفانية في المجال التشريعي الإسلامي نفسه. ولعل مشكلات الشرائع الأخرى ذات الخلفية الدينية، أو آفة المنظور إلى الشريعة الإسلامية لدى بعض أبنائها، هو ما جعلها مسألةً إشكالية. إن الشريعة ليست مقدسةً في ذاتية أحكامها، بل إنها مقدسةٌ بالعَرَض، من حيث أن مقاصدها خادمةٌ لمصالح الإنسان المكلَّف والمستخلَف. فهو أشرف ما في هذا التركب الحكمي كما سنرى. الأحكام متحولة لا ثابتة وحدهم الفقهاء والمجتهدون يدركون حقيقة هذا البناء الشريعي، الذي يتشكل من أغلبية الأحكام الظنية لا الواقعية. وقد جاء علم أصول الفقه ليملأ هذا الفراغ الذي أدى إليه غياب الحكم الواقعي، الذي باتت دائرته تضيق يوماً بعد يوم، منذ بدء الانسداد وإلى اليوم، حتى بات ممكناً اعتبار الشريعة ظنيةً بامتياز. وحاشا أن يرقى الظنيُّ إلى الواقعيِّ اليقينيِّ في الاعتبار، لولا أن الشارع أمضاه -للمصلحة السلوكية، بعد أن قامت أدلةٌ أخرى على اعتباره، نزولاً عند ضرورات رفع الحرج عن المكلَّف وإبراء ذمّته. وهذا من أجمل تعبيرات الشيخ مرتضى الأنصاري رحمة الله عليه، في رسائله، وهو مدار حديث الفصل بين الدليل والأصل. باعتبار أن قيمة الأصل فيما يوفّره من وظيفةٍ للمكلَّف. فالمصلحة في النهاية هي سلوكيةٌ تكمن في ذات الجري العملي، حتى وإن لم يكن الأصل كاشفاً عن الواقع. والحق أنه يمكننا القول هنا، بأن الأصل في غياب الدليل، لم يعد موضوعه الكشف عن واقع الحكم إنشاءً، بل موضوعه الوظيفة العملية، بما يعني إنشاءً جديداً لواقعٍ جديد. فالمقابلة بين الواقعيِّ والعمليِّ في مستوى المصلحة السلوكية، قد يكون فيها ما يوحي بالتقابل الحقيقيِّ عند الاشتباه، وفي هذا، إن حدث، مسامحةٌ قابلةٌ للنقاش، حيث العمليُّ هو المناط المشترك بينهما، سواءً أكانت الواسطة في ذلك كشفيةً أو إنشائيةً. فلا يختص الأصل وحده بتلك المصلحة، بل هي مصلحةٌ مشتركةٌ مع الدليل أيضاً. وكأن الشيخ الأنصاري أراد بذلك القول، إذا لم نحرز الواقع بالأصل كما هو الدليل، فهناك المصلحة السلوكية التي ستبقى محفوظةً عند جريان الأصل، وإن غاب الجانب الكاشفي: فما لا يدرك كله لا يترك كله. من ناحيةٍ أخرى، لا تَضادَّ بين الواقعيِّ موضوع الدليل، والظاهر موضوع الأصل، مادام أن اجتماعهما ليس وارداً. ليس فقط لأن العمليَّ متأخرٌ رتبةً عن الواقعي، بل لأنه متأخرٌ عنه برتبتين؛ إحداهما تأخر الحكم عن موضوعه كما لا يخفى، والثانية تأخر الحكم الظاهريِّ عن الواقعيِّ برتبةٍ أخرى. ففي المحصلة يتأخر الظاهريُّ عن الواقعيِّ برتبتين، فلا تناقض في البين. فالمصلحة السلوكية هاهنا ليس لها مقابل، كأن يقال مثلاً: المصلحة الكشفية مقابل المصلحة السلوكية، حيث الغاية في النتيجة كامنةٌ في الامتثال. وما الكشف إلا واسطةً وجدانيةً في ثبوت القطع. فيما المحركية واحدةٌ، سواءً أكانت الحجية ذاتيةً، كما لو تعلق الأمر بالقطع الطريقي، أو عروضيةٍ غريبةٍ وأوسطٍ منطقيٍّ، كما لو تعلق الأمر بالقطع الموضوعيِّ والأمارات والأصول العملية. فالمناط هو العمل والامتثال. والمصلحة السلوكية ثابتةٌ في الكل. فمدار الأحكام واقعاً وظناً هو المكلَّف وحاجاته، تدور مدار إمكاناته وضروراته وظروفه ومصالحه المشروعة، حتى قيل بحق: حيثما وجدت المصلحة، فثم شرع الله. على أن تكون مصلحةً حقيقيةً بمعاييرَ تشخيصيةٍ حقيقيةٍ وعادلة، وليست أهواءً شخصيةً أو فئوية. تُعتبر المصلحةُ شرعيةً، ما دامت حكماً قائماً على ضربٍ من التشخيص، ملاحِظٍ لمقاصد الشرع ومبنى العقلاء، والمقاصد العليا، والمصلحة العامة المبنية على العدالة الاجتماعية. وحقَّ أن يكون المتبوع أشرف من التابع. فكان الإنسان أشرف من الشريعة، حيث ما هي في نهاية المطاف إلا خادمه ووسيلته لتحقيق مصالحه، وآلته لرفع الحرج ودفع الضرر، وجلب المنافع والمصالح. من هنا يصبح الخطاب الأصوليُّ الصلب -الذي يجعل من الشريعة غاية الغايات، بإغماضٍ عن حيثياتها وموضوعاتها ومتعلقاتها ومقاصدها وفلسفتها، وجعل الإنسان تابعاً لها لا متبوعةً له، أو ناظرةً لأحواله وشروطه وضروراته في الزمان والمكان -خطاباً استلابياً، وقلباً للحقائق، حيث يصبح شرف الكائن متحققاً بتمثلها بمنطق المقهور لسلطان حكمها، لا حقّ له في المساءلة والتحري عن مقاصدها، ولا حقّ له في الاستنطاق والاجتهاد والفهم، حتى في أزمنة الانسداد. فهي ثابتة، لذا تعيّن عليه أن يَثبُتَ ويُثبِتَ معه زمانيته. وقد عزَّ على هذا الاتجاه، الإدراك بأن خَرَسَ الشريعة وثباتَها، إنما حصل من ثبات همّة المتلقّي، وخلطه بين زمان التنزيل والتأويل. أو زمان الوحي وأزمنة الانسدادات العظمى. فشرف الشريعة فيما تفرزه من أحكام، جالبة للمصالح دافعة للمفاسد. إن الأحكام في الشريعة متحركةٌ غير ثابتة. مرنةٌ غير جامدة. وللمتشرع مدخليةٌ في تشخيص موضوعات الأحكام. وله أن يأخذ بالعرف الصحيح، ما لم يكن هو في حد ذاته معارِضاً لمقاصد الشرع، حيث هي مقاصد العقلاء، من منطلق أنه أي الشرع هو سيد العقلاء. فهو مشمولٌ في السيرة العقلائية، واقعٌ في طولها. إن قاعدة (الثابت المتحول) جاريةٌ على نحوٍ من الجريان الشمولي على كافة الأحكام وموضوعاتها. فقد تكون الأحكام الخمسة ثابتةً في نفس الأمر، لكنها متحولة بشرط انطباقها على مصاديقها وجريانها على الموضوعات. إن ما كان واجب الإتيان هنا، قد يغدو واجب الترك هناك، عند طُرُوِّ العناوين الثانوية، نظير حرمة الصلاة الواجبة في الأرض المغصوبة. وقد يتحول واجب الترك إلى الإباحة عند طُرُوِّ العناوين الأخرى، نظير لعبة الشطرنج، التي تبدّل عنوانها من آلةٍ للقمار، أو آلةٍ لهويّةٍ، إلى آلةٍ رياضيةٍ ممرنة للعقل. ولا نشاطر الرأي من لم يعتبر الأحكام الثانوية جزءاً من الشريعة. حيث يبدو أن القائلين بذلك متأثرون بفكرة الثبات وأشرفيته. معتبرين الثانويَّ عرضاً والأوليَّ أصلاً. حتى مع فرض صحة ما ذهب إليه هذا النفر، بأن الأحكام الثانوية ليست جزءاً من الشريعة، نكون قد حكمنا على أن الشريعة لم تعد كلها كذلك، بما أن أغلب الأحكام الناظرة في النوازل هي من قبيل الثانوية. والحق، إذا كان شرف الكائن والموضوع والمتعلق كامنٌ في حراكه، فإن شرف الحكم كذلك. فالأحكام الثانوية فوق أنها تنتمي للمنظومة التشريعية، هي أشرف من الأولية عند المكلّف الواقع في قبضة النازلة والبلوى. هذا مع أن البارئ تعالى يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. فالشرائع متنوعةٌ مختلفةٌ بحسب القوانين الطارئة في حياة الإنسان الفردية والجماعية. والأحكام الثانوية حاكمةٌ ولها فضل السبق والأولوية في مقام الامتثال. إن الأحكام الثانوية هي أحكامٌ قائمةٌ بذاتها، تمثل ضرباً من النزول الحكميِّ المجدد، وليست عارضاً ضعيف الشرعية في المقام، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان. ليس لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فقط، -ذلك المعنى المصداقي الذي يتعلق بشرائع من قبلنا- بل لأن لها مدلولاً عاماً جارياً حتى على الشرعة الواحدة، في أزمنة التأويل واستنطاق النصوص وتصيد المعنى. فالأحكام الثانوية في تقديرنا مصداقٌ جديرٌ بأن يشمله عموم الآية المذكورة، حيث في كل نازلةٍ ثمّة شرعٌ جديد. على هذا الأساس، تكون الشرعية مركّبةً ومتحركةً ومتسعة. بل إنها بطبيعة الاختصاص ناظرةٌ في التحولات الطارئة على الموضوعات والمتعلقات، وتحولات الأزمان والبقاع... إن أحكام الشريعة أنواع، وإن مصادرها أنواع. فلا غرابة في أن من جعل الشريعة في قبال القانون الوضعي، لم يقف على حقيقة تنوع مصادره، وانقسامها هي الأخرى إلى أحكامٍ مصدرها الكتاب والسنة، وأخرى مصدرها الاجتماع والعقل والعرف، وسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء. حتى أن القسم الأول من هذه الأحكام، فيه ما هو مولوي وإرشادي، وما هو أوليٌّ وثانوي، وما هو تكليفيٌّ ووضعي. الحكم الوضعيُّ في الاصطلاح هو ما يقابل الحكم التكليفيَّ المولوي. ونحن نرى أن الأحكام وضعيةٌ بالمعنى الشائع للعبارة، باعتبار أن الحكم بالنتيجة يمر من مراحل، ويلاحظ جملة اعتبارات، أهمها حال المكلَّف، وشروط التكليف، من القدرة والعلم وارتفاع المانع. وإذن نحن أمام حالةٍ من المواضعة بين الشارع وحال المتشرع، التي هي عبارةٌ عن إمضاءاتٍ وإقراراتٍ لشرائعَ إنسانيةٍ، جرى العمل بها حتى في المجتمع الذي كان موسوماً بالجاهلي. وما ثبوت الحقيقة الشرعية إلا أمارة على أن القسم الأعمَّ غير المستثنى من تلك الحقائق، لا زال يحتفظ بمواضعاته بحسب العنايات العرفية واللغوية. فالأحكام تتعدد وتتسع مواردها، باتساع دائرة النوازل وتنوع مدارك البلوى. حتى أن الحكم الواحد يمكنه أن يتحول إلى ما دونه، بفعل الاعتبار وما يطرأ عليه من عناوين، أو ما يطرأ على الموضوعات من أحوال، أو ما يلفُّ متعلقات الأحكام من حيثياتٍ واعتبارات. إن حركة الأحكام تعود في نهاية المطاف إلى حركة المكلّف الشرعي، بوصفه إنساناً يحيا في المجال. والمتدينون وحدهم يدركون ولكنهم للأسف عادة ما يذهلون عن هذه الحقيقة أن (الله) تعالى في غنىً عن الشريعة والمتشرعين. بل إن الشريعة هي العنوان الأصدق على رحمة الله بعباده. على أن للرحمة آثاراً ومصاديق. ومصداقها الأعظم، مراعاة حاجات الناس ولحاظ تطلعاتهم ومشاكلهم ومصالحهم، واعتبار القوانين التاريخية والاجتماعية، التي هي مخلوقةٌ لله مثلما هي الشريعة. إن حراكية الأحكام نابعةٌ من بنيتها المركبة، حيث ليس الحكم جعلاً بسيطاً لا يفترض تاريخاً ولا ينظر في مجال، بل إنه جعلٌ مركبٌ له تاريخيته ومجال توقعه، حيث المكلّف (=الإنسان) بكل ما يحيط به من شروطٍ وآثار، يدخل في هذا التركيب الحكمي. فالحكم كما قلنا له منازل ثلاثة: أولها الحكم لحظة الجعل والإنشاء، وثانيها الحكم لحظة التنزل والمجعولية، وثالثها الحكم لحظة الامتثال. إن المكلّف غير معنيٍّ بالحكم لحظة الإنشاء. وإنما هو معنيٌّ فقط بالمرحلة الثانية من صيرورة الحكم، أي المجعولية والامتثال، حيث يصبح المكلّف معنياً بامتثال الحكم، لا أعذار ولا عناوين طارئة ترفع الامتثال برسم الحكم الثانوي. وتلك هي تاريخية الجعل نفسه، وأما الحكم فهو مركّبٌ من حيث هو حكمٌ يفترض موضوعاً ومتعلقاً. وإن أي تحوّلٍ في الموضوعات من شأنه -كما لا يخفى- إبطال الحكم، لصالح حكمٍ ثانويٍّ محكومٍ بعناوين الحرج والاضطرار. من هنا كانت الأحكام تابعةً للعناوين، مؤطّرةً بها. ومن هنا كانت قاعدة لا ضرر، هي القاعدة الفقهية الأكثر حكومةً على باقي الأحكام، ليس بينها والأصل العملي سوى أنها لا تكون مجرىً عملياً في موارد الأحكام الضرَرِيّة، وفي[وفي ماذا؟ الجملة مقطوعة وناقصة] وليس بلوغها منزلة الحكومة على باقي الأصول الفقهية، نابعاً من قوة ذاتية لدليليَّتها، بل لأنها حاكيةٌ عن فلسفة التشريع ومقاصده، من حيث أن غايته جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الضرر. بل حتى الأحكام التي مناطاتها ضرَرِيّةٌ خارجةٌ موضوعاً عن حكومة قاعدة (لا ضرر) هي من ناحية أخرى، محكومةٌ بأحكامٍ ثانويةٍ تتحدد بعناوينَ أخرى، من قبيل عدم القدرة والاستطاعة، وعدم العلم بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقبح التكليف بما لا يطاق، وآيات التيسير ورفع الحرج، وحديث الرفع كما لا يخفى. فحتى في صلب الأحكام الضرَرِيّة كالصيام والجهاد والحدود، هناك جريانٌ للأحكام الثانوية، وأحكام التيسير ورفع الحرج. وإذن اتضح أن الشريعة نفسها مصداقٌ لجريان قاعدة (الثابت المتحول)، الذي هو مقدمة الواجب بالنسبة إلى مفهوم التكييفانية الخلاّقة، التي تجعل الإنسان في حالة استئنافٍ مستدامٍ في تجديد روابطه مع المحيط، وعلاقاته مع الأحكام والتعاليم. قد وضح أن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، يوفر إمكانية تغيير المنظور والنمط المعرفي، لصالح رؤيةٍ أكثر اقتداراً على مد الجسور مع المختلِف، من موقعية الإنصات لأقصى المعنى، ووضع الأحكام الاختزالية بين قوسين. عود على بدء لاشك أن أي تناولٍ للعلاقة بين الحداثة والدين، لن تؤديَ إلى نتيجةٍ ما لم نغيّر المنظور، وما لم نتخلص من هذا الاختزال الحصري. فالتعاطي مع المشكلة على أساس التشرنق، والاكتفاء والتجوهر الذاتيين، أو بتعبيرٍ أوضح، الانطلاق من دنيا كل طرف من طرفي الإشكالية كما هو، ليس بالمعنى (النفس أمري)، بل بالمعنى الممأسَس لكليهما، لن يجديَ نفعاً البتة. إن مسؤولية تذليل هذا الإشكال ذي الطابع الديماغوجي، الذي يصل أحياناً حد الإسفاف، هو مسؤوليةٌ مشتركة، حيث بقدر ما أن (الإسلاميين) مدعوّون إلى إعادة بناء القراءة، وبالتالي إعادة بناء رؤيةٍ جديدةٍ أكثر موضوعيةً وعلميةً من الحداثة ومظاهرها، فإن (الحداثوي) هو أيضاً مطالَبٌ ليس في مجالنا الخاص فحسب، بل حتى في المجال الغربي أيضاً بإعادة بناء قراءةٍ، وبالتالي رؤيةٍ أكثر موضوعيةً وأقلَّ اختزاليةً وحصراً للدين. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأشكالٍ أخرى من الدين، نظير الدين المسيحي الكنسي الغربي. إن واحداً من شروط هذا التحول في قراءة الآخر، أن نعمل على زحزحة العقبة المعرفية الكبرى، التي جعلت كل إمكانيةٍ للحوار والتواصل مسألةً منتهية. هذا التشرنق على مواقفَ تاريخية، تجعلنا أمام واحدةٍ من أكبر مصانع التمأزق المعرفي. لقد تحددت علاقة الحداثة بالدين على أساس النفي المطلق، بناء على إخفاقٍ تاريخيٍّ لبناء جسور التواصل بين الدين والحياة، أو الدين والسياسة. ومع أنه ظلت للدين مدخليةٌ ما في تدبير شؤون الحياة، وأيضاً في التأثير السياسي، إلا أنه تأثيرٌ غامضٌ وغير ممأسسٍ داخل النسيج السياسي. لكنه قد يصل أحياناً درجةً من التأثير المكثف عبر الفاعل السياسيِّ نفسه. ذلك الفاعل الذي تشكلت خلفيته الثقافية ومشاعره ووجدانه على إيحاء التربية الدينية. لقد خرج الدين بالفعل من الأبواب الرسمية في الغرب، كي يعود مجدداً من منافذَ ومداخلَ متعددة. قد تكون كثيرةً ومعقّدةً ومتشعبة، لكنها خادعةٌ من حيث عدم حضورها في التركيب السياسي بسلطتها العارية. إذا كانت تاريخية الحداثة مع الدين، كما تظهر في مواقف بعض الحداثيين، هي تاريخيةٌ مشحونةٌ بصورٍ من التوتر، وذاكرةٍ بالغة الاسوداد، حيث باتت الحقيقة الدينية الإنجيلية في منتهى التضاد مع العقل العلمي والطموح الاجتماعي، فإن علاقة الدين (=الإسلام) بالحداثة، تستدعي تاريخ صدمة الاستعمار، وصورة ذلك الآخر الذي لم يمارس الاستعمار برسم علمانيته فحسب، بل حدث ذلك في تواطؤٍ كنسيٍّ أيضاً. كان الاستعمار تعبيراً عن أطماع الغرب، الغرب الإمبريالي بكل مكوناته الثقافية والدينية. إننا اليوم في مفترق الطريق، من الخطورة حيث لا مجال للاختيار، ولا مندوحة عن التواصل والحوار. فالمجتمعات العربية والإسلامية تعيش على إيقاع التردد في اختياراتها. وحيث إن أي اختيارٍ ينحو منحى العزلة والتشرنق، سوف يكون مآله الفشل والاندحار، تحت سطوة المعطيات الأكثر رسوخاً في هذا الاجتماع العربي والإسلامي. لا أدعو هنا إلى ذلك الضرب المغالِط من التواصل السلبي، أو الوسطية الهوجاء، أو المراجعة السطحية، بل أدعو إلى التواصل الإيجابي والوسطية الحركية، كما يتيح ذلك مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري. وأعني بالتواصل والتوافق السلبي، ذلك الذي ينطلق من وإلى الدائرة الماهوية أو (النفس أمرية) للقضايا والأفكار. مع أن مقتضى تفكيك الأنساق، القبض على التعاليم الماهوية مجردةً عن تلبساتها بالموضوعات، وخارج تأثير تأويلات الحامل التاريخي له، وهو خطوةٌ منهجيةٌ رئيسةٌ في ضوء التبني الحضاري والتجديد الجذري. غير أن ما نعنيه بالتواصل، هو ألاّ نغفل التلبسات العلمية والتشخصات الضرورية، السابقة على تدشين النقاش الحر والتواصل الإيجابي. وهذا يتطلب قدراً من التسامح، وأرضيةً أخلاقيةً للقبول بالآخر كما هو قبل الحوار، وحتى بعد الحوار. مع فرض بقاء كل طرفٍ على ما هو عليه. مع أن من شأن الحوار والنقاش الحر، المحكوم بأرضيةٍ أخلاقيةٍ صلبةٍ ونزوعٍ للتسامح كبير، أن يجعل كل طرفٍ يضيف إلى رصيده الكثير مما في رصيد مناظره، وذلك هو أهم ما تساهم فيه المناظرة على مستوى إثراء العلم وتعدد المعنى. إن النقاش في نطاق (نفس الأمر) أمرٌ يسير، وربما نتائجه ناجحةٌ دوماً. غير أن الأهم في التواصل أن يتم النقاش الحر في مجال التشخص الشرطي. أي: كيف نتواصل في مطارح الموجود لا في مجاهل الإمكان فقط. أي أن التلاقي في شرط الوجود المشخَّص، أهم من التلاقي في مطلق الإمكان الموسَّع والمجرَّد. اللهم إلا أن يكون التلاقي في مطلق الإمكان بمثابته مقدمة الواجب في التلاقي في مقيد الواجب. إننا ندرك خطورة الموقف؛ فبعض التعبيرات الدينية هي بلا شك، مستفزة للحداثة، كما أن بعض التعبيرات الحداثية المؤدلجة، مستفزة بطبيعتها للدين. وهذا أمرٌ ينبغي الاعتراف به من دون التفاف على الموضوع. لكن جدوى هذا التلاقي يستمد مشروعيته من مشروع رؤيةٍ سميناها التبني الحضاري والتجديد الجذري، التي تبحث في الإمكان الحداثي كما تبحث في الإمكان الديني. وهي هادفةٌ إلى رفع الشقاوة عن العقل العربي والإسلامي المعاصر، وتحريره من آفة الحصر وهذياناته وسجونه النفسية والمعرفية. لقد اعتبرنا (الحداثة) في نهاية المطاف صيرورةً اجتماعية وتاريخية، فهي بالنتيجة (قوّة). وإن القبول بشروط الحداثة في الاستقواء العلمي والثقافي والاجتماعي، هو في نطاق ما دُعي إليه المسلمون، بإعداد القوة. ليس لممارسة الإرهاب كما يبدو للبعض، بل لمنع أي محاولةٍ لممارسة الغلب في حقهم واستباحتهم. إرهاب العدو من بعيدٍ بالنموذج والمنعة. ففرقٌ كبيرٌ بين إرهاب القويِّ وإرهاب العاجز. إرهاب القويِّ مانعٌ من حدوث الإرهاب بالفعل، وإرهاب العاجز لا يتم إلا بحدوث الإرهاب بالفعل. كثيرون هم الذين يستشهدون بالآية الكريمة أعلاه، ليبرروا بها بعض الممارسات الإرهابية المرفوضة عقلاً وشرعاً وذوقاً. وقد تبدو تلك المغالطة في منتهى السخف والخطورة أيضاً. وحق علينا بيان المراد من الآية درءاً للفوضى. إن المعنى هنا يتعلق بأمّةٍ مشغولةٌ ذمّتها بالتزود بأسباب القوة وعناصر المنعة للدفاع عن حوزتها؛ القوة الاستعراضية التي من شأنها أن تدفع طمع المعتدي بها. الإرهاب النفسي وليس المادي، والإرهاب النفسي عن بعدٍ للمعتدي لا للناس. فالضعف في حد ذاته داعٍ من دواعي الاعتداء. فكل ضعيفٍ يدعو بالقوة أو بالفعل إلى أن يكون هدفاً للاعتداء يكاد المريب يقول خذوني . القوة رادعة، والإرهاب الذي يصدر عن القويِّ الحقيقيِّ هو نفسيٌّ وعن بعد، يحاصر الأطماع في النفوس، ولا يسمح لها بالتعدي إلى حدود الفعل. بينما إرهاب الضعيف يبدأ بالفعل مباشرةً، فلا تحقُّقَ لإرهاب الضعفاء إلا بحدوث الإرهاب بالفعل.. وما نشاهده اليوم من صنوف الإرهاب المتبادل بين القاعدة والولايات المتحدةالأمريكية، هو إرهاب الضعفاء من الجانبين؛ الإرهاب الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بقتل المدنيين، وتجاوز الشرائع الإنسانية والشرعية الدولية. فهو إرهابٌ بالفعل لا بالقوة. في حين أن ما دعت إليه الآية، هو إرهاب بالقوة لا بالفعل. حتى لا يطمع الذي في قلبه مرضٌ في الاعتداء. وهو في كل الأحوال، إرهاب المعتدي الشاهر سيفه عليك، القاتلِ أبناءك، المخرجك من ديارك بغير حق، المستوطنِ أرضك بالغزو والاستعمار.. وليس إرهاب المدنيين وذبحهم. إن الذين يقتلون المدنيين والأبرياء، ويقتلون أبناء أوطانهم وإخوانهم في الدين، المخالفين لهم في النظر والمذهب والرأي، هم إرهابيون بلا منازع. مهما كانت الذرائع التي يبررون بها تعطشهم للدماء. فالدماء أمرها شديد في فقهنا. سواء أتعلق الأمر بالدماء الناقضة للطهر كما في أحكام الطهارة أو تلك التي تتعلق بالعقوبات كما في أحكام الحدود والديات. إن الحداثة ليست ملائكيةً، ولكنها أيضاً ليست شرًّا مطلقاً. ففي قلب الحداثة ثمة جبهاتُ معارضةٍ مفتوحةٍ ضدَّ تمركزها وقمعها ومفاسدها. وإذا انزوينا وخرجنا من منطق الحداثة، فسوف نساهم في تقوية شرورها، إلى حدٍّ سنجعل منها مجرد أسلحة دمارٍ شاملٍ، وانحرافاتٍ خلقيةٍ، وظلمٍ اجتماعيٍّ، واستغلالٍ طبقي... إن الاندماج في الكون الحديث، ومدَّ جسور التواصل مع جبهة الخير داخل الغرب، من شأنه أن يغلِّب خيرَها على شرِّها، فإذا بها تتحول من وجهها القميء إلى وجهها الآخر. فبدل أن تكون عبارةً عن عناوينَ من قبيل أسلحة الدمار الشامل، أو انحرافاتٍ خلقيةٍ أو ظلم اجتماعيٍّ، ستصبح عدالةً اجتماعيةً وحقوقاً للإنسان، وتقدماً وازدهاراً ورفاهيةً روحيةً ماديةً، وبنيةً مفتوحةً غير ممركزة، وسِلماً اجتماعياً وتسامحاً، ونزعاً لأسلحة الدمار الشامل، وتكتلاً لمحاربة الأمية والفقر والتخلف والتلوث البيئي... وإذن لن ندع الحداثة للأشرار، إن أية دعوةٍ للانزواء ورفض الحداثة، هي تقويةٌ لشرورها، أو على الأقل تؤدي لأن تصبح قدرتها التدميرية في يد أشرارها، ولك أن تتوقع بعدئذٍ ما يمكن أن يحدث! إن الدين يمكنه أن يقوم بدوره داخل الحداثة، حيث وظيفة الدين تقديم حلولٍ للواقع والمتوقَّع. وحماية الكائن من الإحباط وخيبات الأمل التي يفرزها واقعه المادي، وأيضاً، وهذا هو المهم، فإن الدين هو مخزون المعنى الوحيد، في لجة هذا الحراك الجارف للمعنى، وهذا التجاذب نحو اللامعنى. إن الحداثة والدين بإمكانهما إعلان المصالحة بينهما من دون وسيط، غير وسيط المنظور الأكثر إيجابيةً ونجاعةً، وذلك بتجاوز الحداثة لتمركزها النافي للغير، غير المستوعب له في آفاقها الممكنة، وبتجاوز المسلمين لشقاوة وجودهم الحضاري، وتجاوزهم لمنظورات أزمنة الانحطاط. إن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، يؤمِّن بلوغاً معافى إلى حيث تصالح الممكن الديني مع الممكن الحداثي. الهوامش: (1) د. أحد قرا ملكي، مناهج البحث في الدراسات الدينية، ص 242 243، ط 1 2004، معهد المعارف الحكمية بيروت. (2) تحدث ماكس فويبر عن مفهوم le du desenchantement monde في كتابه: l, ethique protetante et l, esprit du capitalisme. وبتأثيرٍ منه كتب مارسيل غوشيه كتابه الموسوم:le desenchantement du monde نزع الابتهاج عن العالم وكتب أيضا: un monde desenchante عالم منزوع الابتهاج . وللتذكير فقط، أستعمل كلمة الابتهاج، التي هي المعادل العربي ل le desenchantement، ونحن نتبنى هذا المعادل الذي هو مختار د. محمد سبيلا. (3) ول ديورانت، قصة الحضارة ص 130 131، المجلد الرابع عشر، ت. علي أدهم، دار الجيل، بيروت 1988. (4) انظر: مدارات غربية، ص 96، العدد الثالث أيلول تشرين الأول 2004، بيروت. [email protected] mailto:[email protected]