صدرت مؤخرا للشاعر والروائي محمد حمودان الطبعة المغربية لروايته "السماء، الحسن الثاني وماما فرنسا"، ضمن سلسلة "كتاب الجيب"، عن دار الفنك للنشر بالدار البيضاء. ومحمد حمودان من مواليد سنة 1968بقرية المعازيز، بنواحي مدينة الخميسات، وهو مقيم بفرنسا التي رحل إليها سنة 1989 . ومن ضمن أعماله نورد على سبيل المثال رواية "فرنش دريم" وكذا المجاميع الشعرية "عملية تفجيرية"، "توهج" و"ميكانيكا بيضاء". ويعتبر محمد حمودان واحدا من أهم الأسماء المغربية التي تكتب بالفرنسية. وهذه قراءة للرواية بعين الكاتب محمد صلحي: هناك قولة لهوفمانستال أوردها إيطالو كالفينو : " يجب إخفاء العمق. أين؟ على السطح". ذلك ما تمارسه اللغة السردية عند الروائي محمد حمودان. إنها لغة تعشق ملامسة سطح العالم وأشيائه بانسيابية، تلاحق أنفاسه مقتطعة دوامة المعيش ونبضه دون أن تعلق فيه. هنا يطرح تساؤل مفاده: هل يمكن الإحاطة بشمولية العالم و إدراكه في كليته؟ هل يمكن الوقوف على جوهر الأشياء من خلال ممارسة غواية الحكي؟ هذه التساؤلات لا تشغل بال الروائي محمد حمودان. إنه يكتفي بممارسة فن اقتطاع الحيز الذي يعنيه، الذي يناوشه، ليضعنا أمام عمل أدبي هو جزء " من هذا الخليط من الأجزاء الدقيقة حيث الموجود يأخذ شكلا ما، ويكتسب معنى ما غير ثابت، وغير نهائي، وغير متصلب في لاحركية معدنية، بل مفعم بالحياة مثل أي كائن حي". فتصبح الكتابة حياة، موجود قائم بيننا، أن نقبله أو لا نقبله لا يعنيه في شيء، وإنما هو يتواجد ليمارس حق إعلان النبش في ما نتعارف عليه بالواقع. في رواية " السماء، الحسن الثاني وماما فرنسا " تبرز الرؤية السردية كرؤية مصاحبة لعوالم الرواية وشخصياتها و تناميها، أقرب لإعادة تفكيك الواقع المعطى بمقاسات الذات، فهما وإدراكا دون تكلف أو عناء لممارسة وصاية الإقناع. يكتفي السارد ، من خلال حكيه، بتأثيت فضاء الرواية بثورته على قابلية الجاهز والنمطي. يستحضر الأمور بدل أن يرويها، يغريه في الحوادث تفجير الانفعالات التي تجيش بها دواخلها بدل رتق ترابطها المنطقي. إن "محمود" (السارد، أوكما يحب أن يسميه الكاتب ضد-البطل (Anti-Herosلا يحمل عوالمه لإسقاطها على أي كان، وإنما يحيا ليجد فسحة لوجوده، رافضا الاندغام والتلاشي سواء بين دروب الوطن الأم أو في حضن الماما / المهجر. يريد السارد أن يبقى ذاتا متكاملة الوجود في الرؤية كما في المعرفة والشغب ورتق دروب الصعلكة كفعل تمرد، من خلال البحث عن خلق هذا الحيز للذات. وإن كان البعض تستوقفه الكلمات "النابية"، فهي لا توظف لأجل تأثيث تعددية الخطاب فحسب، بل هي كلمات رافدها تعددية الدارجات المغربية، ولحمودان كما لطفولته وشبابه وعوالمه دارجته كما له لغته دون ادعاء.. إنها دارجة تصل بنا إلى القول أحيانا أنها اللغة التي لا نعرف غيرها، ولا نملك مفردات بديلة لتنميق دلالاتها، خاصة وأنها تجد مكانا لحضورها من خلال لغة أخرى، بل تخترقها. ويخطئ البعض أو يفشل حين يريد أن يسقط تصوره على بعض الكلمات / التعابير في محاولة لتوجيه النص غصبا. فبدل إفتاء الرأي يكون حريا بنا الإنصات للنص (أي نص) حتى يعلمنا الكلمات بنكهته الخاصة وبحسب طعمه ونغمته.. أن نترك للنص حريته كي يمارس إنتاج فعل القراءة، وأن يكون عاملا فيها، حسب تعبير موريس بلانشو، إذ " أن أكثر ما يهدد القراءة هو واقع القارئ وشخصيته، هو تجنبه التواضع وعناده على البقاء كما هو أمام ما يقرأ". دون أن يعني هذا انكفاء لسلبية القارئ أمام النص، أو رضوخه، وإنما كي لا نفوت على أنفسنا متعة القراءة، والتقاط إدراك العالم من زاوية قد تغيب عنا. وإذ نستحضر حمودان الشاعر والروائي، لا بد أن يلفت انتباهنا نجاحه في تحقيق التمايز القائم بين لغة الشعر ولغة السرد، ليس تمايزا على المستوى الأجناسي فحسب، بل كجمالية قائمة على التعامل مع اللغة. دون أن يلغي هذا حضور النفس السردي في القصيدة، ولا إقصاء النفس الشعري في الرواية. هنا لا بد من الوقوف عند مسألة هامة، وهي أن الأمر لا يتعلق بانتماء الأديب إلى اللغة، بل أن تنتمي هي إليه، أن تجد ضالتها فيه، أن تقيم في وطن أحلامه وأمانيه وأوجاعه وصخبه.. أن تقيم في تصوره وفهمه وتمثله للكتابة. ومع حمودان يمكن إدراك حقيقة أن "الكتابة النثرية، على حد تعبير كالفينو دائما، لا يجب أن تكون مختلفة عن الكتابة الشعرية، لأن الأمر يتعلق في كلتا الحالتين ببحث عن تعبير ضروري، فريد، مكثف، مقتضب وخالد"، من خلال التوظيف الصحيح والهادئ لاختيار الكلمات، وكذا تكثيف الدلالة. تعود بي الذاكرة، وأنا أقرأ رواية حمودان اليوم، إلى ديوانه الأول، أحسست يومها أن لغة الشعر عنده متبلورة ومنصهرة بالالتزام، ليس بمعناه السياسي المبتسر، بل ببعده الوجودي والإنساني قبل كل شيء، محوره التمرد على تناسق العالم وعلى جماليته الزائفة ، لتعرية قبحه، والكشف عن قابلية خلخلته، حتى يكون بالإمكان انبثاق سحره وشاعريته بنظرة إبداعية تشاركنا الممكن، باعتبار أن الخيال "ذخيرة للممكن". وإذا كنت كثيرا ما أحسست أن الشعر يتجاوزني، ويكفيني من القصيدة سحر صورها مما يفقدني بوصلة المعنى، فإن في شعره، كما في أشعار تسكن النفس والذاكرة، نعيش جدل سحر الصورة وجمال صياغة المعنى. وإذ أقف عند سرده الروائي اليوم، أحسه يتفجر بالحياة من خلال مناوشتها لعلها تبوح، وتصبح الكتابة ذاك اللعب الجميل بالكلمات، خلقا وانبثاقا لوجود. إنها فعل يأسرنا بشغبه ليؤثث جزء من حياتنا، كوميض مغر بالتتبع والاكتشاف ينتقل ما بين الحاضر والماضي لاستشراف الآتي، ليذكرنا أنه مهما يكن من إجحاف فالحياة تستحق أن تعاش.