الشاعر والكاتب حسن نجمي واحد من أهمّ مبدعينا المغاربة الذين برهنوا على مواصلة الكتابة بتجديد متواصل. ومن ثمّ، فبعد حضوره القوي كشاعر، جنسه الأدبي المفضّل، الشعر، منذ ما يربو على ثلاثة عقود، ها هو اليوم يصدر روايته الثانية «جيرترود»، بعد روايته الأولى «الحجاب» التي أصدرها في بحر التسعينيات. وهو في تجربته السردية ليس حالة شاذّة في المشهد الأدبي، فكثيرون هم الشعراء العرب وغير العرب الذين كتبوا نصوصا سردية، قصة أو رواية، وهي نصوص جميلة. ومنذ عرفتُ الأستاذ حسن نجمي، أوائل الثمانينيات، عرفتُ فيه ذلك القارئ النّهم للرواية التي تعطيه أفقا آخر للتخييل والتعبير؛ لذلك ليس غريبا البتّة أنْ يقدّم للقارئ المغربي والعربي رواية «ناضجة» لغةً وتخييلاً وصنعةً وقدرة على لملمة العناصر، والربْط بين الشخوص والفضاءات، وعدم السقوط في أيّ «خلل منطقي» يخلخل البنية العامة. في هذا الحوار غوْص في بعض مكوّنات وخلفيات هذه الرواية. { الأخ حسن نجمي، بصدور روايتك «جيرترود»، تساءل عدد من القرّاء عن سرّ انتقالك من جنس الشعر إلى الرواية، فهل يتعلق الأمر بنوع من «الإقامة العابرة» في حضرة الرواية، أمْ أنه تحوّل يرتبط بالإحساس بضرورة الانتقال إلى شيء آخر؟ ليست هذه المرة الأولى التي أَعْبُر فيها إلى الكتابة السردية. كتبت ونشرت نصوصاً سردية متعددة ليست رواية «الحجاب» أولها بالتأكيد. ولكن هذا العبور إلى أجناس أخرى خارج الشعر، لا يعني بأي حال تخلياً عن القصيدة. أحياناً أشعُر أنني لا أستطيع أن أكتب شيئاً آخر غير الشعر، أحياناً أرى أنني لا أصلح لشيء آخر غير الشّعْر، وأحياناً أخرى أدرك أنني قادر على أنْ أُجَرِّبَ نفسي في أكثر من جنس أدبي، وفي أكثر من تعبير. مسألة مزاج واستعداد وميول ورغبة بلا شك. في الواقع، إنني أقيم إقامة عابرة في كل ما أكتبه بل أقيم إقامة عبور في الحياة كُلِّها. من هُنَا، ومهما ارتقينا إلى درجة مرتفعة من الجدية في عملنا الإبداعي، فإننا - في النهاية - نظل نَلْعَب. الكتابة لَعِبٌ جدّي، وهي أيضاً لَعِبٌ عفوي يحتاج إلى الكثير من دهشتنا، وخوفنا، وأحلامنا، ورغباتنا. يحتاج إلى تجديد طفولتنا على الدوام. أود أن أضيف كذلك أنني لم أكن الشاعر الوحيد الذي كتَبَ الشعر والرواية. فإلى جانب محمد الأشعري وأحمد المديني وأحمد عبد السلام البقالي، وعبد الله زريقة، هناك الطاهر بن جلون ومحمد خير الدين وعبد اللطيف اللعبي ورجاء بنشمسي ومحمد حمودان في التجربة الأدبية المغربية بالفرنسية. هناك أيضاً الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف الذي كتب رواية ومجموعة قصصية، والصديق أمجد ناصر، الشاعر الأردني المعروف، وسليم بركات وفاضل العزاوي. وفي العالم، يمكنني أن أذكر شعراء تحولوا إلى روائيين أو ظَلُّوا يجمعون بين الشعر والرواية لعل من أبرزهم هيغو، إدغار ألن بو، ألفريد جاري، والتر سكوت، فولكنر، هيمنغواي، بيكيتْ، ساراماغو، أراغون، ساندرار، أندري بروتون، بيير جان جوف، ألان بوسكيه، جورج بِّيريكْ، ميشيل بيطور، دانييل بُولاَنْجي، بوكوفسكي، بيتر هاندكه، بُّولْ أوسْتِيرْ، بَّازُولِينِي، كاتب ياسين، أَلڤارو مُوتيسْ، كورتاثار، إدوار غليسان، ميكاييل أُونْدَاتْشي... وغيرهم. { في البدء، هل كنتَ تفكر في كتابة سيرة «جيرترود» أم كانت هذه الشخصية بمثابة تعلّة لرصد صور الإخفاق المتبادل بين الأنا والآخر، بين الشرق والغرب، بين جيل وآخر... الخ ؟ على العكس، حين أَنهيتُ كتابة رواية «جيرترود» - وكانت قد خلفت لديَّ مئات الجذاذات والمعطيات والصور - فَكَّرتُ في تأليفِ كتاب استِعادي نظري، جمالي ونقدي وتأريخي، حول جيرترود ستاين (وهل لديَّ الوقت ؟). لقد فكرتُ منذ البداية في رواية، وقد أنجزتُها. لسنواتٍ وأنا أروّض الفكرة وأُرَبِّيها في الظل حتى باتت زوجتي، تعتبرها - ساخرة متفكهة بالطبع - ضَرَّة لها. قالت لي : «من امرأة لأخرى !»، وكانت تقصد روائية فلسطينية كتبت أطروحة جامعية حول أعمالها الروائية، ثم انتقلتُ إلى امرأة أمريكية كما ترى. لسوء حظي، لا أعثر إلا على الرديئات لأصنع منهن شيئاً جميلاً (كما أزعم). لقد كنتُ في حاجة إلى سنواتٍ من التأمل لأَتشبع بجيرترود، بالفكرة وبالنص، ما اقتضى وقتاً كافياً من الصبر والقراءة والبحث والتنقل إلى بعض أمكنة الحكاية. وأظن أن هذه التجربة علمتْني بالملموس أن الكتابة الأدبية الجيدة تُنْجَز فقط في هدوء وبصبر، على العكس تماماً مما كان يَقُول به سان إِكسوبِّيري (S. Exupery) من أننا لا نستطيع أن نكتب إلاَّ في حالة الاستعجال ! { هل كان اختيار مدينة طنجة، كرمز للقاء والفراق، مساهما في هذا الإخفاق ؟ أَصْدُقُكَ القول، لم أفكر قبل الشروع في كتابة «جيرترود» ولا حتى أثناء كتابتها أنني سأهتم بموضوعة الإخفاق، ولا بمسألة الشرق والغرب. الواقع أن ذلك كله ظهر لاحقاً. ما كنت مهتماً به هو هذا التخاطب بين الأجناس والأشكال الإبداعية، خصوصاً الكتابة والتشكيل. ولعل الولع بالسيرة الذاتية لجيرترود التي كنتُ قرأتُها مصادفةً، حين عثرت سنة 1985، فيما أذكر، على نسخة مستعملة عند «بوعَزَّة» (أحد باعة الكتب المستعملة في «البْحَيرة» بالدار البيضاء)، ومدى إحاطتها بعصر باريس الذهبي هو الذي عمق الغواية. طنجة، لم أَخترها. لقد كانت المدخل المغربي الطبيعي للسفر إلى ذلك العصر. فمن جهة، كانت جيرترود قد أشارت في السيرة الذاتية إلى زيارتها لها ولقائها الشاب المغربي الطنجاوي (محمد) هناك. كما أنها مدينة تمتلك بُعْدَهَا الأسطوري المدهش. ما كان ممكناً أن أقتاد البدينة الأمريكية وصاحبتها إلى مسقط رأسي في (بن أحمد)، وإِلاَّ كان ذلك سيفرض أن تكون الرواية كوميدية أو بَّارودية ! في يومٍ مَّا، مَنْ يدري ؟ قد أصاحبُ (كروائي فقط) امرأةً إيطالية ناعمة متخيلة إلى منحدرات بن أحمد أو على ضفاف وادي أم الربيع في تادلة أو قرب الفقيه بن صالح أو في بني مسكين. إن تلك الأمكنة التي يهيمن فيها الدرك والقرض الفلاحي (كما وصفها مرة الشاعر الراحل المرحوم عبد الله راجع) هي التي قد تصلح كفضاء روائي جيد لاستجلاب امرأة من إيطاليا. أما الأمريكية، فهي نفسها التي اختارت طنجة في الحقيقة، فانْدسَسْتُ معها فيها. في المتخيَّل طبعاً، وإلاَّ كيف كنت سأتحمل كل ذلك الفيض الجَسَدي الهائل ؟ { ألا يبدو أنه وراء مظهر الإخفاق، أو ربما بسببه، يتوارى مشروع مضادّ باعتباره معادلا موضوعيا هو مشروع الكتابة. أي مشروع البحث عن شكل ما للكتابة، هو تحقيق السارد لرغبة أو حلم صديقه الطنجاوي ؟ أعراض الإخفاق التي تشير إليها هي نتيجة لحالة جمالية، قبل وبعد أنْ تغدو حالة اجتماعية أو حضارية. إن محمدْ يبقى شخصية متخيلة بكل المقاييس، ولا ينبغي أن نُحَمله ما لا يحتمل. ولذلك، ذهبتُ بعيداً جداً في تفصيلِ حياتِه ونَحْتِ شخصيته ليُصبح مُقْنِعاً كما لو كان حقيقياً تماماً. وأظن أن مشروع الكِتَابة، أو الكتابة بوصفها مشروعا، كما تتحدث عنه الرواية، لم يخفق. إن هناك احتفالاً بالكتابة الأدبية الجميلة والعميقة والممتلئة معرفياً وجمالياً وبصرياً. لعلي أتمنى أن يُتَاحَ لهذه الرواية من يَقْرأها من هذه الزاوية، زاوية الكتابة كقيمة وكخيار وكمعطى في النص نفسه، والكتابة في تشابكاتها مع الممارسة التشكيلية، وما تستند إليه من خلفيات ومرجعيات ثقافية بهذا المعنى. ثم هذه الكتابة التي تتأمل نَفْسَها فيما هي تَنْكتب ! وصولا إلى المسودة الأولى في آخر الرواية التي تستدعي بدء القراءة من جديد، وهو ما أسماه الناقد يوسف أبو علي «الكتاب بالمقلوب « (Le livre à l›envers) الذي تقترحه هذه الرواية. { الذي يعضد سؤالي هو أن فصول الرواية تتخللها انتقادات ومواقف إزاء نوع من الكتابة ؟ معك حق، وأنتَ تعرف، نقدياً ونظرياً، أفضل مني، أن أجمل تعريف للكتابة هو أن نُعرِّفها بنقيضها. الكتابة الجميلة، الكتابة الناجحة، ليست هي أن نسدي النصح، وإنما أن نبرز أَوْجُه السلب لتتضح أَوجُه الجمال المنشودة. ريلكه قال للشاب «كابُّوسْ» (Cappus)، في «رسائل إلى شاعر شاب»، بألا يستسهل الكتابة عن الحُبّ، ذلك لأن الموضوعات الأكثر تداولاً هي الأكثر صعوبة. إن توجيهاً كهذا قد لا يفهمه المقبلون الجدد على الكتابة. وقد لا يفهمون لماذا قال محمود درويش حين سئل، مرةً في المغرب، عن معنى الشّعْر بأنه لا يستطيع تعريف الشعْر، لكنه يستطيع أن يعرف اللاَّشِعْر. من الأفضل لنا أنْ ننْتَقِدَ بعض الأشياء بدلاً من أن نتحدث عنها بنوعٍ من التمجيد. أليس كذلك ؟ { لماذا اختيار الخلفية التشكيلية بالضبط؟ هل لأن التشكيل يعطي إمكانية التصوير والتخييل أكثر ؟ لماذا اخترتُ في هذه الرواية الاشتغال على المادة التشكيلية ؟ سؤال مهم جدّاً، ولا أظن أنني سأجيب عنْه في حوار سريع. هناك شخصية جيرترود نفسها التي تكاد تكون اشتهرت كإحدى أهم نساء ورجال العالم الذين شُغِفُوا باقتناء وجمع اللوحات الفنية لكبار فناني القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالخصوص. لقد اشتهرت بهوايتها هذه أكثر مما اشتهرت بكتابتها الأدبية، القصصية أساساً. لقد كتَبتْ الشّعْر والأوبرا والنقد الفني أيضاً، ولم تشتهر بكل ذلك. هناك أيضاً فضاء باريس في عصرها الذهبي، بكل فنانيها التشكيليين الكبار. هناك اهتمامي الشخصي القديم بالتجربة التشكيلية المغربية والعَرَبية، خصوصاً علائق الشِّعْري بالتشكيلي، نَظَرياً وممارسة. هناك، إِنْ شئتَ أيضاً، بعض الاهتمام المبكر لديَّ (منذ 1987 على الأقل) بتخاطب الفنون فيما بينها... الخ. وكما أَشرتَ، في سؤالك، فإن الخلفية التشكيلية توفر للكتابة الأدبية، شعراً وسرداً، إمكانيات أساسية للتصوير والتخييل. كما توفرُ لها نَفَساً جمالياً تحديثياً. أخْشَى أن أَقول إِن الإنتاج التشكيلي في المغرب هو النوع الفني الأكثر تجسيدا للحداثة في المغرب، يليه الشعر بالطبع. وقد تُتَاح لنا فرصة أخرى لتفصيل الحديث في هذا الموضوع. يبدو لي أن «جيرترود» لم تنكتب من تلقاء ذاتها، كما يحلو لبعض الكتاب أن يقولوا. هناك «صنعة» الكتابة المحكومة بمرجعيات محددة. ذلك أن جميع المكونات السردية واللغوية والدلالية مفكّر فيها. لو كانت الروايات والأعمال الإبداعية تَنْكتِب أو تُنْجَز من تلقاء ذاتها، لما كانت هناك حاجة إلى أدباء ومبدعين. ربما كان المقصود في سؤالك مدى اعتماد الكاتب على مادة مرجعية أو توثيقية لكتابة روايته، وهذا صحيح. شخصياً، لا أومن بكتابة روائية لا تقوم على أنواع من البحث والتَّحرِّي وتعميق القراءة، فضلاً عن رصيد الكاتب ومدخراته المعرفية. لا أدَّعي تواضعاً زائفاً إن قلتُ بأن علي حين أفكر في كتابة رواية، أن أستدعي كل ما تعلمته من قراءاتي الروائية ومشاهداتي السينمائية والمسرحية وحتى ما تَلقَّيتُه من دروس في الخطاب السردي عندما كنتُ طالباً في كلية الآداب العامرة بالرباط، أحْضُر وأتابع محاضرات أساتذتي محمد برادة، أحمد اليَبُوري، أحمد بوحسن، سعيد علوش، وعبد الحميد عقار. طبعاً، كتبتُ «جيرترود» كشاعر أيضاً. لا ينبغي أن نَنْسَى ذلك. كان الروائي الجاد والجيد عبد الكريم جويطي قد صَرَّحَ قائلاً - في هذا السياق - بأنني جئت إلى هذه الرواية لا ككاتب مبتدئ، وإنما كشاعر مُجرِّب. كما أن الشاعر الصديق محمد الصَّابر افتقد في القراءات التي اطَّلَعَ عليها حول الرواية قراءةً تولي اهتماماً لِلُغة الشاعر في هذا النص السردي، فقد تساءل في مكالمة هاتفية كريمة : «لماذا يَنْسَون أنكَ شاعر كتَبَ رواية بروح الشعر والسرد ؟» أما هل المكونات السردية واللغوية والدلالية مفكَّر فيها أم لا ؟ طبعا مفكر فيها أو مدركة بالأحرى، وأكتفي بالقول إن هناك القليل جدّاً الذي حملَتْه إليَّ سيرورة الكتابة اللاَّواعية - وهو أمْرٌ محمود ومهم - ولكنني إلى جانب ذلك، كتبت هذه الرواية بحَذَر شديد، وإلى حدٍّ ما بخوف غامض أيضاً. كأنني كنت أرسمها بقلم رصاص، وأعود فأتتبع الكلمات الرمادية النَّحِيلة بقلم حبْر ! { ألا تتفق معي بأن هناك مؤشرات وإحالات داخلية ذات طابع سياسي إذا صح القول. هل يمكن القول بأن «جيرترود» هي في النهاية رواية ذات أطروحة ؟ لا، ليست رواية أطروحة على الإطلاق. هذه وجهة نظري وقد يكون لك وللنقاد والقراء رأي مختلف. على العكس، إنها رواية تتخفف أساساً من هذا العِبْء الذي يميز روايات أخرى (قد تكون ناجحة وجيدة وليست رديئة بالضرورة). عموماً، لا أحب الأعمال الأدبية الملتزمة والتَّعْبَوية ! كما أن الإشارة الصغيرة جدا إلى إضراب المعلمين، وإلى الزعيم السياسي الموبوء الذي ليس سوى رجل ضمير سابق، لا تكفي لتجعل من عمل كهذا رواية أطروحة. لا أريد أن أصدم أفق انتظار أيٍّ كان، إِن قلتُ لك بأن الروايات العظيمة التي أظل أذْكُرُها بحب وشَغَف هي تلك التي تتميز ببُعْدٍ عَدَمي يصدُر عن شخصيات ذات خبرة مأساوية أو نزوع نحو شَكٍّ وجودي أو فلسفي أو شخصيات معطوبة لها نقْصُها الخاص أو خَوَاؤُها أو إنكارها لكل ما يَصْدُر من خارج الذات. إنَّ الهشاشةَ الإنسانية هي التي تصنع - في تقديري - الأدب العظيم، ولا أومن بجبهات الأمل في الكتابة والتعبيرات الجمالية المختلفة. ربما لذلك، قال نِيتْشَه بأننا قد مُنِحْنا الفن لكي يمنَعَ عنا أن نموت من الحقيقة. لا أحد يستطيع الزعم بأن رشفة ماء على الكَفّ قادرة على إِطفاء الجحيم. ومع أن كل كتابة شفافة، بيضاء، لابد و أن تتمثل - بصيغة أو بأخرى - ظلال أطروحة أو أفقاً فكرياً معيناً، فإنني أفضل أن ننأى بالكتابة عن حمل عبء أي أطروحة. { لماذا عنوان «جيرترود» ؟ لقد سبَقَني الروائي العربي الصديق إبراهيم عبد المجيد إلى القول في قراءته للرواية بأن اختيار اسم «جيرترود» كعنوان يجعل العنوان إبداعياً أكثر. ولو كنت وضعتُ مثلاً «جيرترود ستاين» كعنوان للرواية لجاءَ العنوان فكرياً. إبراهيم أوضح ذلك بقوله إن «مدام بوڤاري» أو «أنا كارنينا» يعطيان الانطباع بأن الشخصية المتَخَيَّلة مألوفة وحقيقية وكأنك تعرفها من قبل، بينما جيرترود (الاسم الشخصي المفرد) يجعل الشخصية الحقيقية شخصية فنية تحيل على البُعْد المتخيَّل لا على بعدها الواقعي أو التاريخي. أوافقه الرأي. ليس لديَّ ما أضيفه على ذلك. ولا حاجة إلى الحديث بتفصيل عن وظائف العنوان بوصفه عتبة من عتبات النص، كما تحدث عن ذلك جيرار جنيت أو أومبرطو إيكو. { هناك استحضار لأمكنة وفضاءات وأسماء غربية، هل معنى ذلك أن «جيرترود» لا ترتبط بالواقع المغربي وقضاياه، أم أنها صيغة أخرى للتعبير عن هذا الواقع ؟ على العكس، هناك فائض من الواقع المغربي في رواية «جيرترود». ولا أظن أن استحضار أسماء غَرْبية لفضاءات أو لمبدعين، يمكنه أن يَهْرُبَ بروايتي خارج مرجعيتها المغربية. كما أن إِغراق عمل روائي بالأسماء والإحالات المحلية ليس ضامناً بالضرورة ليُحقِّقَ لنصٍّ مَّا روحاً مغربية. أَحياناً، تنوب نميمة المقاهي عن قراءة النصوص. لَعلَّكَ، الأخ مصطفى، تعرف أن بعض الكلام «يكون فارغاً إِلى حدّ أنه يصبح مُقْنِعاً» بتعبير أورهانْ باموك. وهذا ما ينبغي أن ننتهيَ منه. يكفي. لقد أشار إلى هذا الانطباع، مشكورا، الأخ الأستاذ عبد اللطيف محفوظ (في لقاء المحمدية حول الرواية) ؛ ربما أراد أحدهم أن يقول شيئا من وراء هذا. لذلك، دعني أسهل الأمر، إن رواية « جيرترود «تتشكل وتتحرك وتحقق أهدافها الجمالية والوظيفية داخل اللغة. أقصد هنا ?تحديدا- المعنى الذي عبر عنه مرة كارلوس فوينتيس، في قراءة له لأعمال بارغاس ليوسا، حين قال إن رواية «البيت الأخضر» قد تتخذ كنموذج مثالي لرواية لا توجد خارج اللغة، وفي نفس الوقت -وبفضل اللغة- تعيد إلى وعينا وإلى لغتنا ذاتها الإحساس باستمرار عالم غير إنساني. على الذين يبحثون عن الواقع المغربي في رواية « جيرترود « أن يبحثوا عنه في معنى الانصراف من المغرب إلى المنفى الاختياري، ومعنى العودة بل «منفى العودة» كما توفق الأشعري في وصفه. أظن أن الرواية الجيدة، أي رواية جيدة كانت، تحتاج إلى قارئ جيد بالضرورة. لقد نَفَذَ محمد الأشعري بحسٍّ مرهف، في قراءته لرواية «جيرترود» إلى مدى حاجتنا في المغرب الثقافي والفكري إلى كتابة روائية تلامس علائقنا بالآخرين، وذلك عبر علائق زمننا بالكتابة التي وضَعَتْ أزمنة روائية وأزمنة لأسئلتنا. أسعدني أن الصديق محمد الأشعري أمسك بالجوهري في رواية «جيرترود» منبهاً إلى أنها تتحرك في المساحة الملتبسة لواقعنا الثقافي وفقرنا المعنوي من خلال رصد تعبيرات استراتيجية وتجاوز العلائق التقنية الصرفة في استيراد المعرفة وتبادلها، بل تجاوز الأسباب التي قد تجعل تاريخ الميتافيزيقا الغَرْبية يمس أعماقنا. وهل نستطيع ؟ أريد أن أقول إن ما يهم هذه الرواية - وأدرك أن لها حدودَها ونَقْصَها الخاص - هو أن تعثر في المغرب على قارئ مختلف، لا يبحث عن المغرب الذي يعيشه ويعرفه بداهة، وإنما يبحث عن المغرب الذي ينبغي أن يعرفه ويتمثله. { هل يفكر حسن نجمي في كتابة رواية أخرى بعد نجاحه في «جيرترود» ؟ أجل، سأواصل كتابة الرواية كلما كان ذلك متاحا. لعلَّكَ تعرف أنني أقرأ من الروايات أكثر مما أقرأ من الشِّعْر، بالرغم من أنني شاعر أساساً. وقد شَرَعْتُ في كتابة رواية جديدة قبل أكثر من عام، وفي نفس الآن أُخلّص بياض مجموعتي الشعرية الجديدة من مُسَوَّدَاتها. لقد صَدَرتْ «جيرترود» هذه السنة (2011)، وإلى جانبها مجموعتي الشّعْرية «أَذىً كالحب». آمل أن تَصْدُر روايتي الجديدة برفقة عملي الشِّعْري الجديد خلال السنة المُقْبلة. الله يرزق عَ الصحة والسلامة، ليقوس علينا شي حد ! هناك أكثر من مشروع سردي وشِعْري. ومع ذلك، ما زلتُ أتعلَّم - كُلَّ يومٍ - كيفَ أكتُبُ، وكيف أقرأ، وكيف أكون شاعراً أوكاتباً مُقْبِلاً. عليَّ أن أتعلم دائماً، فليس هناك أجمل ولا أعمق من قيمة التَّتَلْمُذ. أنا تلميذ دائم، وهناك أبقى.