بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مغرب الشهوة والتعصب
نشر في المساء يوم 02 - 03 - 2016

إذا كان مجال الدراسات الاستشراقية الفرنسية قد نال نصيبا كبيرا من الاهتمام ومن البحث ومن التجميع، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للدراسات الاستشراقية الإسبانية إلا في حدود ضيقة. وإذا كان مجال الكتابات الغرائبية الفرنسية قد نال قصب السبق في استكناه العوالم العميقة ل»المغرب الذي كان» حسب التعبير الأثير للكاتب والتر هاريس، فإن ضعف تداول النصوص الإسبانية ذات الصلة قد حرم الباحثين المعاصرين من فرص هامة لاستكشاف الكثير من العناصر الفكرية والثقافية الاستشراقية، التي تحكمت في مجمل الصور النمطية التي يحملها الإسبان عن المغرب والمغاربة. وتزداد أبعاد هذه الوضعية وضوحا إذا أخذنا بعين الاعتبار السياقات التاريخية التي تحكمت في الوجود الإيبيري فوق الأرض المغربية، وهي السياقات التي تعود إلى مطلع القرن 15م عندما تمكنت البرتغال من احتلال مدينة سبتة سنة 1415، ثم إسبانيا من احتلال مدينة مليلية سنة 1497، مع ما تبع ذلك من سقوط متتال للعديد من الثغور المغربية المتوسطية والأطلنتية، مثلما هو الحال مع مدن طنجة وأصيلا والعرائش ومازكان وأزمور وأسفي وموغادور وأكادير وسيدي إيفني. لقد هيأ هذا الاحتلال الممتد في الزمن الطويل للقرون الخمسة الماضية الكثير من عناصر الكتابة والاشتغال على «ورشة المغرب»، باعتباره حقلا خصبا للتأمل وللقراءة وللتفكيك، ثم للاستيعاب. ومع توالي تطور الحضور الإيبيري فوق التراب المغربي انبثقت موجة من الاندهاش الغرائبي التي بحثت لنفسها عن شروط إشباع نهم القارئ الإسباني والبرتغالي للاطلاع على مجالات «مغرب السكون»، «مغرب التقليد»، «مغرب الحريم»، باختصار «مغرب ألف ليلة وليلة» كما فهمته واستوعبته وجسدته كتب الرحلات، التي استهدفت سبر أغوار مجاهل إفريقيا. ومع تزايد النزوعات الانبهارية المؤطرة لرحلات الاستكشاف العلمي للمغرب، وخاصة خلال القرنين الماضيين، بدأت الكتابات الإسبانية التدوينية المهتمة بهذا المجال تكتسب عناصر الابتعاد عن اللغة التقريرية أو التسجيلية المباشرة، لترتقي إلى مصاف الكتابات الإبداعية التخييلية، بأدواتها التأملية الفاحصة وبرؤاها الجمالية الواسعة، ثم بآفاقها الكولونيالية الفاقعة.وبغض النظر عن كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات حول الدور الذي قامت به مثل هذه الكتابات في تكريس صورة المغربي/ المورو «المتوحش» و»المتخلف» في أذهان إسبان الأمس واليوم، فالمؤكد أن العودة إلى قراءة النصوص التأصيلية لمثل هذه الأحكام تظل عنصرا ناظما لكل محاولات الكشف عن ثوابت المواقف الإسبانية تجاه المغرب، هذا «الجار المقلق»، حسب التعبير المتداول إعلاميا على نطاق واسع بإسبانيا الراهنة. لقد صنعت هذه الكتابات تخريجات نمطية وأضفت عليها قيما سلوكية تستجيب لنهم القارئ الإسباني في استكشاف مجاهل المغرب، وفي فهم أسرار بنياته الاجتماعية والذهنية والأنتروبولوجية المتداخلة، وهي البنيات التي سعت الرؤى الكولونيالية إلى تطويعها وفق ما يستجيب لضرورات المصلحة الاستعمارية الإسبانية الآنية. وفي المقابل، تبدو العودة الحالية لقراءة متون هذه الرحلات الاستكشافية مدخلا لتحقيق قيم مزدوجة في كل محاولات تقييم الحمولة المعرفية والتأريخية لهذه الكتابات. ترتبط أولى هذه القيم بالإمكانات الهائلة التي تتيحها الكتابات السفارية في التوثيق لإبدالات الذهنيات الإسبانية على مستوى تعاطيها مع الشأن المغربي في جوانبه ومكوناته وأبعاده المتشعبة. وترتبط ثاني هذه القيم بغنى نفس النصوص في التوثيق للكثير من الخصائص المجتمعية التي قد لا نجد لها أثرا في الكتابات التاريخية الكلاسيكية الوطنية، إما بسبب انتظامها خارج نسق اشتغال المؤرخ الإسطوغرافي التقليدي، وإما بسبب تركيزها على قضايا «المحرم» أو «الطابوهات» أو «المسكوت عنه» داخل مجالات التفكير والفعل المغربي العميق. ومن هذه الزاوية بالذات، يبدو تركيز الكتابات السفارية الإسبانية على قضايا مثل الجنس ووضعية المرأة وتعدد الزوجات والدعارة، من الأمور الدالة التي تساعد على التقاط التفاصيل «الأخرى» المنفلتة من بين متون النص الإسطوغرافي المغربي التقليدي. وهي قيمة لا شك أنها أخذت تحفز باحثي المغرب المعاصر للانفتاح على عوالمها، تجميعا للنصوص وتعميما لترجماتها، وتمهيدا لاستثماراتها التأريخية والسوسيولوجية العلمية الأصيلة. في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور الترجمة الإسبانية لكتاب «مغرب الشهوة والتعصب» لمؤلفته أورورا برترانا، ضمن منشورات معهد الدراسات الإسبانية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط، سنة 2009، في ما مجموعه 230 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، الذي ساهم في ترجمته من اللغة الكطلانية إلى اللغة الإسبانية كل من رجاء الخمسي وفرناندو كارسيا مارتين، يقدم نصا أدبيا شيقا كتبته صاحبته عقب زيارتها للمنطقتين الخليفية والسلطانية من المغرب خلال سنة 1935. وقد نحت فيه إلى البحث في قضايا وضعية المرأة المغربية، عبر اختراق عوالمها الحميمية المرتبطة بطابوهات متداخلة في هذه العوالم، مثل تعدد الزوجات والدعارة والسلوك الإنجابي ووضعية الدونية النسائية وما يرتبط بها من قضايا الاستغلال الذكوري متعدد الأوجه والأبعاد والتمظهرات. وللاستجابة لهذا الأفق العام، قسمت المؤلفة كتابها إلى قسمين مركزيين، اهتمت في أولهما برصد العوالم الشهوانية وطقوس التعصب التي كانت تكبل واقع المرأة المغربية بالمنطقة الخليفية من خلال نماذج منتقاة من مدن تطوان وأصيلا وشفشاون. واهتمت في القسم الثاني بنفس المنحى بالمنطقة السلطانية لمرحلة الاستعمار من خلال نماذج منتقاة من مدن فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش وبعض المناطق المتاخمة للأطلس وللصحراء، والتي لم تكن قد خضعت بعد لسلطات الاستعمار الفرنسي المباشر.لقد استطاع الوصف الذي قدمته المؤلفة أن يكشف النقاب عن الكثير من خبايا «الحريم» وعن تمثلات المغاربة تجاه قضايا «الشهوانية» ومنغلقاتها الصارمة، مما يقدم متنا شيقا لا شك أنه يستحق أن يكون موضوع قراءة متجددة واستثمار متواصل، مادمنا لا نجد ما يشفي الغليل داخل مصنفات المدونات الكلاسيكية المتداولة. وإذا أضفنا إلى ذلك حرص المؤلفة على ربط تجميعها لمواد كتابها بمجمل التطورات السياسية الميدانية التي كانت تجري بإسبانيا وبالمغرب خلال ثلاثينيات القرن الماضي، أمكن القول – وكما انتبهت إلى ذلك الأستاذة فتيحة بنلباه في كلمتها التقديمية، إلى «أننا أمام عمل غير مسبوق، استطاع أن يستوعب خصوصيات التطورات الميدانية السياسية والعسكرية بإسبانيا وبالمغرب، من أجل اكتساب أدوات ربط الظواهر ببيئاتها الحاضنة والتوثيق للتمثلات المتبادلة بالمغرب وبإسبانيا تجاه قضايا المرأة والجنس. إنه انبهار عجائبي، أكتفي في هذه العجالة، بالاستدلال على تمظهراته الفريدة بالوصف الرائع الذي قدمته المؤلفة – على سبيل المثال لا الحصر – لعلاقات باشا مدينة أصيلا بنسائه الأربع، أو بعوالم حي بوسبير الشهير بمدينة الدار البيضاء، حيث شَرْعَن الاستعمار الفرنسي للذة المحرمة في إطار عوالمها المحررة للجسد وللشهوة في أبعادهما الوظيفية المؤطرة لشروط التحكم الاستعماري لعقود النصف الأول من القرن 20».
سامي بن عامر وأركيولوجيا المادة وغنائية الأثر
يعرض الفنان والناقد التونسي سامي بن عامر جديد قماشاته الصباغية، برواق «غاية» Ghaya بقرية سيدي بوسعيد طيلة الفترة الممتدة بين 10 مارس و10 أبريل 2016. وقبل أسابيع جالست الفنان بمرسمه الكائن بتونس العاصمة وواكبت المراحل التحضيرية لهذا المعرض وأنجزت المقاربة الأولية التالية:
1- المرئي وسؤال الذاكرة..
على امتداد زمني يتجاوز ثلاثة عقود من الممارسة الفنية المرتكزة بالأساس على الكولاج بنوعه الضوئي (الصورة الضوئية المجمّعة) والكولاج التصويري والكولاج المصطنع، تمَّ عرضها السنة الماضية ضمن معرض استيعادي برواق الفنون في البلفدير مع إصدار كتاب مونوغرافي يوثق لهذه التجربة، نجد الفنان سامي بن عامر يدخل غمار تجربة تشكيلية أخرى، تجربة الرسوم الناتئة والفضاءات الفيزيائية والجنينية Fœtales وتحت الأرضية. ففيها يسعى إلى طرح سؤال المرئي واللامرئي من خلال محاورة المواد والخامات والاشتغال على الموجودات فنيّاً ومورفولوجيّاً.. أعماله التي تؤرِّخ للمراحل المذكورة تطوير للوحات التي جادت بها معارض فنية سابقة أهمها معرض «الأرض البكر» (2009) وهي تعكس افتتانه بالمادة وبمساراتها النشوئية التي يغذيها بقدرات لونية مطواعة، تحوِّل اللوحة إلى سطح خشن تحيا فيه النتوءات والبروزات الناتجة عن استعمال خلائط وعجائن لونية تتبادل المواقع والأدوار. مثلما هي أيضاً امتداد لأركيولوجيا الذاكرة، وتوظيف المأثورات والمتروكات والنبش في تجاويف الأزمنة الغابرة بواسطة استعمال كتابات تجريدية ذات العلاقة بمادوية اللوحة التي تحتمل التبسيط والتعقيد في آن واحد. إنها نوع من التجريد الناتئ الذي يطرح مشكلة الشكل والملمس Texture من زاوية تعبيرية ويعالج علاقة الكتل بالفراغ وتنشيط فعل الإنشاء والتكوين القائم على الصلابة والخشونة وانصهار اللون في لجة المادة. «المادة التي تفرض شكلها على الشكل»، كما يقول هنري فوسيون Focillon H . في كتابه الموسوم ب»حياة الأشكال» (1947). في عمق هذا الاهتمام، وبكثير من العتاقة، يظهر ارتباط الفنان بالأرض والجذور التي يعبِّر عنها بواسطة مواد وخامات (أتربة، جس..) تعيد الإنسان إلى أصوله الأولى، وكأنه بهذا التوظيف يشاطر رأي التشكيلي السوري الراحل فاتح المدرس: «الرسم يبدأ بمحبَّة الأرض ومن عليها».
2- تشذير العلامات الخطيَّة
يسعى الفنان سامي في العديد من قماشاته الصباغية إلى الابتعاد عن تقاليد الرسم السابقة، إذ نجده يستعمل خامات وألوانا خالصة بميسمها الطبيعي التي يحشدها بآثار متنوعة متلاحقة تمنح اللوحة تضمينات حروفية متشعبة، دورانية، عميقة وممتدة تتوحَّد نحو المركز والجوهر.هي، بلاشك، متاهة الكتابة العابرة التي تتمتع بقوَّة التأثير المرئي، تتحرَّر على إيقاعاتها السطوح لتغدو لغة تشكيلية جديدة في مسارب الفن. إثر ذلك تمسي الكتابة لديه رمزاً وحركة مهيكلة للوحة، كما يقول الفنان الذي أبرز دلالة هذا التوظيف الكاليغرافي في مداخلة بعنوان: «الكتابة وأبعادها التراثية والمفاهيميّة في ممارسته الذاتية» كنت تابعت أطوارها بمناسبة مشاركتنا قبل أشهر في فعاليات الملتقى المغاربي الثاني للنقد والإبداع، بالقلعة الكبرى بمدينة سوسة تحت شعار: «المأثور الشعبي في الأعمال الإبداعية الحديثة». ولأنه يؤمن إيماناً قطعيّاً بأن حركة اليد تملأ الفراغ وتسدُّه، فإن الفنان سامي يستغل اليد في إبداع لوحات صباغية تنطوي على مضمون تعبيري وتشكيلي داخل تراكيب أثرية وحروفية متباينة، مربعية ودائرية لا تخضع سوى لسلطة الفكر والجسد.هكذا، وبحركات رشيقة يبني الفنان لوحاته بدمج كبير للعلامات والكتابات «التعزيمية»، الطلسمية غير المقروءة (أدبيّاً)، لكنَّها تحمل معاني جمالية تجعل القطع الفنية التي يبدعها فضاءات للحوار والتأمل.. ومساحات لاستنباط الألوان والرموز المعتقة المنبعثة من الذاكرة والتاريخ..في سحر هذه اللوحات يتحوَّل التجريد إلى أثر.. ويصير الأثر شذرات لونية هاربة ومتلاشية في هيئة طحالب وأشكال غير دالة متعاقبة على تضاد الكثافة والمحو وسط غابة لونية مفتوحة على المونوكروم أحياناً.. وعلى باليت (مَلْوَن) مشبعة بالأحمر القاني والبرتقالي والأصفر الساجي والأزرق النوراني والكوبلتي أحياناً أخرى، فضلاً عن السواد والبياض وتضاعيف الرماديات الملوَّنة Gris colorés التي ينتقيها الفنان بعناية لغايات إبداعية صرفة. بهذا الفهم، يُمارس الفنان لعبة الأثر باعتبارها ذاكرة للمحو، ضمن مجال التجريد التعبيري الذي يتفاعل فيه الظاهر والباطن لتبدأ الكتابات والحروف المتشابكة في التحوُّل والتشكل داخل تنويعات لونية خصبة، راسمة بذلك مسالك المعنى على إيقاع تناسج المواد. من ثمَّ، تتشظى مكوِّنات العمل الفني بحسٍّ إستتيقي متأصل يقود المتلقي إلى مركز اللوحة المحموم بتواشج الرموز والتباس العلامات.
3 – تنويع السند
ولأن الصباغة تختبر اليوم طاقتها الذاتية، كما يقول فاسيللي كاندانسكي Kandinsky W.، فإنها تبدو في لوحات الفنان سامي موضوعاً للاختبار والتجريب، إذ كثيراً ما نجدها، لديه، تستوعب النماذج المرسومة داخل وحدة متكاملة من الترنيمات الخطية والعلاماتية مهما تنوَّعت الأسناد والحوامل.ولهذا يظل اللافت للنظر في هذا معرض وجود بعض الأعمال الفنية التي اتخذت قطع الآثاث المنزلي (الطاولات تحديداً) سنداً للاشتغال، وهوبهذا يجمع بين الوظيفتين النفعية والجمالية بأسلوبه التشكيلي الخاص..طاولات/لوحات.. ولوحات طاولات دائرية الشكل تحتضن بصمات لونية متشاكلة.. متداخلة على وقع غنائية صدَّاحة تحمل إمضاء الفنان رغم تعديد تقنية الاشتغال المطبوعة بالكشط والتغرية والدعك والتبصيم..ولا شك أن إنتاج الفنان المتواصل هو الذي أوصله إلى هذه المحصلة الإبداعية المشرِّفة التي تجعله بالتأكيد من المبدعين العرب القلائل الذين يستطيعون إنتاج خطابات حول أعمالهم التشكيلية بأسلوب سلس، جاد وجدِّي مقنِع.
«نوميديا».. شعرية السرد وتشكيل لذاكرة الذات والواقع
يعتبر الحضور القوي للرواية المغربية في المحافل العربية تجسيدا للتقدم الملحوظ الذي يعيشه الأدب المغربي على مستوى التجديد في البنى السردية والرؤى للعالم والواقع. ومما يلفت الانتباه أيضا بروز أسماء روائية شابة استطاعت أن تجد لنفسها مكانا داخل كوكبة الروائيين التي استمر الانتصار فيها دائما للأسماء أكثر من الأعمال. ولعل حضور رواية «نوميديا» لطارق بكاري ما هي إلا إيذان بربيع عربي يحتفظ لنفسه بفهم جديد ومختلف للواقع والإبداع. هكذا إذن استطاع هذا الشاب أن يلفت إليه الانتباه بروايته الأولى التي لم تكن عملا بدئيا تجريبا يسعى صاحبه إلى بناء الذات الساردة، بل ولد في مرحلة متقدمة من النضج والوعي أثبت من خلاله أن الرواية جنس أدبي يمثل امتدادا لوعي المبدع وانتصارا لقيمه وهمومه وأفكاره.وبالرغم من أن الرواية تعرض العديد من القضايا الفنية والثقافية، وتكشف عن واقع المجتمع المغربي في مستويات عدة، فإن دلالة الرواية ترتبط عادة برؤية القارئ واهتماماته. لذلك انصرف انتباهي إلى نقطتين أراهما من المقومات الأساسية في هذا العمل، هما شاعرية السرد وتحولات الإيقاع السردي بين الاستباق والاسترجاع. شاعرية السرد في رواية «نوميديا» يزاوج طارق بكاري بين كتابة الشعر والرواية، وهو الأمر الذي جعل «نوميديا» تأخذ نصيبا وافرا من الشاعرية، التي برزت في اختيارات أسلوبية نزحت باللغة النثرية نحو دلالات مغايرة، وهو ما أثمر صورا جميلة زكت المعنى ومنحته فرصا أفضل في الحضور والتلقي. إن البعد الشاعري في اللغة السردية عند صاحب «نوميديا» ما هو إلا تقدير لقيمة التأثير الجمالي في بناء المعنى وترسيخه في ذائقة المتلقي، وبالتالي تغدو الشعرية حيلة سردية تقدم المعنى في حلة مختلفة عن المعتاد ومخالفة للمتوقع. وتظفر الشعرية داخل هذا النص بوظائف سردية دقيقة من قبيل التكثيف الدلالي الذي تبثه استعارات متعددة تحمل دلالات خاصة تفسرها الأحداث المعروضة داخل النص، أي بروز استعارات ذات دلالات ممتدة لا تنكشف إلا داخل النص، فتكون بمثابة مقاطع سردية استباقية تحول النسق السردي وتصوره تصويرا متوترا كما يحضر في ذاكرة السارد التي تسترجع أحداثا من الذاكرة. إن الصور في رواية «نوميديا» تبني في مخيلة القارئ احتمالات متعددة من الفهم. لكنها تبني ذلك الفضول القرائي الذي يدفع القارئ إلى متابعة القراءة بغية تفسيرها. إن اشتعال فتيل الذاكرة هو استعارة ممتدة لا يمكن فهمها إلا عبر قراءة الرواية كلها، التي لن تكون سوى إعادة بناء أحداث الذاكرة المحرقة لحاضر ساردها صاحب القلب المعطوب. كما أن التقيُّؤ لا يمكن أن يُفهم إلا من داخل الرواية التي هي تفسير لمعناها. فكيف تتقيّأ المرأة وليدها إلا إن كان لقيطاً؟ إن الجواب هو الرواية نفسها، لذلك تكمن مهارة السارد في تقديم هذه الصور الجميلة باعتبارها تكثيفا لمضمون النص، فتتحول البداية إلى تلخيص للرواية، فيما تختص الرواية بتفسير هذه الاستعارات. تتقلد الصور، إذن، وظائف مهمة في البناء السردي ل»نوميديا». لكن وظيفتها لا تقتصر على بناء الدلالة، بل إنها أيضا تظفر بوظائف جمالية لا تنفصل عن الوظائف الأخرى باعتبار الإمتاع وإثارة الإعجاب يدخلان ضمن اهتمامات الروائي، مهما انفتحت آفاق الرواية ومقاصدها التي تحمل رسائل مهمة وتروم بناء قيم مفقودة وتعالج قضايا شائكة يتخبط فيها المجتمع المغربي. ومن هذه الصور البديعة التي جعلت معلما من معالم الثقافة المغربية لوحة فنية، وصف الرواية مشهداً دقيقاً يحضر في ذهن كل مغربي دون أن يجعله أحد موضوعَ تأمل وملاحظة، يقول السارد في وصفه الشاي المغربي : «الإبريق وهو يطاول السماء، ويهوي شَايُهُ في نقطة ثابتة من الكأس، فَتَكْبُر عَمَامتُه البيضاء كلّما ابتعد الإبريق وحلّق عاليا». وكثيرا ما تحضر الصورة لتزكية المعنى والمشاركة في بنائه تلميحا، كما حضر ذلك مقطع يسأل مراد جوليا عن حبه، فتبكي الشموع الورود والسرير والسقف والنبيذ بحرقة وعربدة، إشارة إلى سذاجة السؤال وتكذيب الجمادات لهذا الحب المفتعل. لذلك كان بكاء كل ما في الفضاء السردي يمثل صورا مشاركة في إضفاء الحزن على تلك الليلة التي التقى فيها البطل المظلوم مع قاتلته ومعذبته التي استغلت جروحه ولم تر فيها غير مشروع رواية. الذاكرة السردية وإعادة بناء الذات والواقع تعبر «نوميديا» عن تجربة إنسانية فريدة، عن حياة إنسان يمشي بين خط التعقل والجنون، وبين ماض مشوه وحاضر مخرب، يحتضر فيه البطل ويسترجع ماضيه تارة بإرادته وتارة بإرادة صوت روائي مثلته الكاتبة جوليا. وداخل هذا النسيج أثار انتباهي ذلك الترابط في بناء أحداث الرواية وانتقاء الوقائع وترتيبها ترتيبا يخضع لمواقف سردية خاصة وكذلك يخضع لمسار الرواية ومقصدها. بمعنى أن السارد قبل إيراد حدث معين كان يوجد لنفسه مسوغا للسرد، مما يمنح الأحداث تماسكا سببيّا مقنعا. لقد اختار الكاتب مدخلا سرديا بدأه بربط السرد بالشفاء من خلال رحلة شفاء نحو الماضي عبر الذاكرة. ذلك أن طبيبه سيوجهه نحو الرجوع إلى القرية التي تحمل ذكرياته المؤلمة. ذكريات الجروح والندوب العالقة بجسده، والتي تسعى الرواية إلى تنظيمها في نسق سردي متوتر ينفلت من الترتيب الكرونولوجي التصاعدي إلى الاستباق الذي يصف السارد فيه ما سيقع وصفا مثيرا لفضول القارئ، وإلى استطرادات سردية تفرضها مناسبات في حاضر السرد توجه الذاكرة وتنتقي منها ما يناسب اللحظة السردية. وبالرغم من أن الذاكرة تنتقي الأحداث حسب المناسبات المسوغة لذلك – وهي مناسبات مقصودة من السارد أيضا- فإنها تنصرف في النهاية إلى بناء صورة متكاملة للذات الساردة المحطمة و»المريضة»، وكأن السرد ما هو إلا جواب عن سؤال ضمني يثار ببداهة في ذهن القارئ، وهو ما سبب مرض البطل؟ وما هو سبب أزمته النفسية؟ إن الرواية تجيب عن هذا السؤال، وتكشف عن جوانب متعددة من حياة البطل مراد، تتناوب أصوات الرواية على سردها (السارد ومذكرات خولة ومسودات جوليا). وتنكشف أزمات متنوعة مرتبطة بثنائية الحياة والموت، حيث ارتبط الحزن بإحساس مراد بتسببه في موت أحبابه، خولة ومصطفى، ثم تحوله لمساءلة الواقع والعالم كما يحضر من زاوية حياته، ذلك أن محورية ذات السارد في الرواية لم تلغ جوانبها الثقافية والتاريخية المهمة، فقد أثارت «نوميديا» قضايا في غاية الأهمية، خصوصا ما تعلق منها بقضية الهوية والتداخل العربي الأمازيغي، ثم الحضور الغربي في الثقافة المغربية، الذي تمثل في استيطان اللغة الفرنسية الثقافة المغربية، وكذلك موضوع الاستشراق الذي أثاره بحث جوليا حول الثقافة الجنسية عند الإنسان الشرقي، وتطور داخل الرواية في بحثها عن حياة الرجل الشرقي وعقليته وهمومه، تمثلت في مشروعها الروائي الذي تلاعب بأحزان البطل مراد، وقضية الإرهاب والتطرف الديني وما تضمنه من نقد ساخر للخطاب الديني الذي يبني عالم الظلام، ثم النفاق الاجتماعي ونظرة المجتمع المغربي للجنس، ثم دور الأساطير في بناء الثقافة الشعبية وما يترتب عنها من قناعات ومواقف، ثم الكشف عن أزمة القيم التي يتخبط فيها المجتمع المغربي الذي برز في سلوك الطبيب الخائن والخيانة الزوجية ومعاملة الأطفال غير المرغوب فيهم.. مع ما يصاحب ذلك من وجهات نظر البطل تجاه هذه القضايا، والتي لم تتسم بالحيادية، بل حاولت بناء موقف منها يتسم بالنقد الساخر تارة وبالتحسر تارة أخرى، ويضمر دعوة إلى التحلي بالقيم الإنسانية البعيدة عن التعصب للدين والانتماء واللغة، والانتصار للإنسانية دون شروط.
«دالاص».. صورة مرآوية لمعانات السينمائيين
«دالاص» شريط سينمائي يطرح، لأول مرة، خبايا ما يجري وراء الكاميرا، من زوايا متعددة: اجتماعية، اقتصادية، نفسية ومهنية، حيث برع المخرج الشاب محمد علي مجبود، في إبراز أهم القضايا، بمعاناتها وشغبها وفتورها وعفويتها وارتجاليتها بالنسبة للمخرجين والممثلين والتقنيين والمنتجين بالمغرب. بقاعة ميغاراما بالدار البيضاء كان للجمهور، مؤخرا، أول لقاء مع هذا الشريط من إنتاج (إيماج فاكتوري)، في نسخته ما قبل الأولى، بحضور الفنانين والنقاد والإعلاميين، في انتظار فرجة قلبت موازين المشاهدة الروتينية والمملة والغامضة لجل الإنتاجات السينمائية المغربية، التي عهدنا في عدد من نسخها الاهتمام بالمواضيع التافهة التي لا تمت بصلة إلى انتظارات المشاهد المغربي، ولا تطرح الإشكاليات بعمق فكري عميق، ولا ترقى لمستوى الدعم الذي يخوله لها المركز السينمائي المغربي، ليطل علينا هذا الشريط كاستثناء، إلى جانب الاستثناءات الأخرى والقليلة، التي عرفتها القاعات السينمائية المغربية حديثا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، شريط «القمر الأحمر»، «الوشاح الأحمر»، «خلف أبواب مغلقة»، «الشعيبية»، «مسافة ميل»…من الصعب أن يغامر مخرج كمحمد علي مجبود، بهذا النوع من الأعمال الذي يقتصر على النخبة، ومن غير المعتاد أن يقوم مخرج بهذا الرهان استنادا إلى موقف ربما يحتاج إلى شجاعة نادرة، وإلى مرجعية ثقافية معينة لطرح قضايا من واقع مسكوت عنه في السينما المغربية، انطلاقا من المطبخ الداخلي لكيفية التصوير والإدارة والإنتاج، معتمدا أسلوبا نقديا لاذعا للوضع المتردي لسير الأشغال أثناء التصوير، وتسلط بعض الطفيليين من المنتجين الأغنياء الذين لا ينتمون لعالم السينما على كل المقومات والمكونات المتعلقة بإنتاج الأشرطة السينمائية، مع التحكم في اختيارات المخرج على مستوى الموضوع وتغيير خط الأحداث المتسلسلة للسيناريو، واستبدال ممثلين بآخرين بطريقة مزاجية تخضع للزبونية والمحسوبية، وتتوخى أهدافا لا تخدم القضايا السينمائية تقنيا وموضوعيا، بقدر ما تعمل على تحريف وتشويه الحقائق التي تسير في منحى مغاير للفكرة الإجمالية للشريط، وهذا ما حاول المخرج إثارته كأسئلة جوهرية من خلال شريط «دالاص»، الذي كان فيه الممثلان عزيز داداس وأمل الأطرش متألقين إلى جانب كل من إدريس الروخ وكمال كاظمي وعصام بوعلي وغيرهم. ينقسم الشريط إلى زمانين: زمن قبل وبعد موت الممثل، زمن واقعي وآخر خيالي رمزي، وإلى فضاءات محدودة، منها ما هو مغلق كالحانة التي كان يرتادها البطل بين الفينة والأخرى بعدما كان يعاني من البطالة، وبين مكتبه، ثم حجرته بالفندق، ومنها ما هو مفتوح كبيت المنتج قبل بداية الاشتغال، يليه مكان التصوير أو البلاطو، مع الانفتاح على فضاء أوسع في نهاية الشريط، ذلك المكان الذي اتخذه المخرج رمزا للحرية والفرار جمع فيه بين زمانين تاريخيين مختلفين. إن شريط «دالاص» تضمن متواليات خطابية مسترسلة لا يحس فيها المتلقي بالملل، نظرا لقوة وبنية نص الكتابة السينمائية أو ما يسمى بالسيناريو، مع العبور والانتقال من مشهد إلى مشهد أو ما يسمى بسلم اللقطات échelle des plans بدون تعثر سمعي أو مشهدي، وبطريقة تبهيتية fondu، في إطار التقاء حركي hiatus بين جثة الممثل الميت والساهرين على إكمال المشاهد عنوة بتواطؤ مع المخرج، الذي أصر بأن يكمل الشريط، مع إكراه لمعارضيه من التقنيين والممثلين، بحبسهم وإجبارهم على إتمام الشريط، كحالة ثورية وانتفاضة هستيرية على كل الشروط المجحفة التي سطرها إدريس الروخ، الذي لعب دور المنتج في الشريط، لأجل تحقيق رغبة شخصية في تشويه حقيقة تاريخية والعمل على تلميع صورة أبيه المتوفى. وبهذا يكون هذا الشريط بمثابة انتفاضة هو الآخر، لينذر بتردي وضعية الفنان السينمائي بكل اختصاصاته، وقيمة إبداعية مضافة ومتميزة استطاع من خلالها المخرج محمد علي مجبود، بأن يطرح أسئلة تتعلق بهوية الفنان ومعاناته في علاقته بالمنتج، ومدى تأثير هذه الوضعية على الإنتاج السينمائي المغربي.
إبدالات الرواية المغربية: الذات.. الذاكرة والمتخيل
قراءة في رواية إمارة البئر 1/2
ارتبطت الرواية المغربية، وترتبط الآن، منذ نشأتها وعلى مدى ما يقارب ثمانية عقود من عمرها الأدبي، الفني، الجمالي، سواءٌ منها المكتوبة بالعربية أو بلغات أخرى، داخل المغرب وخارجه، بجملة قضايا وأسئلة وإشكالات في ضوء التراكم الكمي والنوعي الذي يفوق ما كانت عليه هذه الرواية طيلة العقود الأخيرة من القرن الماضي. وهو التراكم الذي يعمل البحث الجامعي، كما النقد الأدبي الموازي لهذا البحث، بالمعنى السوسيولوجي والثقافي، على إبرازها في ضوء ما تقترحه مناهج تحليل النص والخطاب الروائيين مشفوعين بأفق التنظير والتأويل، وفي مقدمة هذه القضايا والأسئلة والإشكالات قضية التكون (La genèse)، أي ما يجعل هذه الرواية، في حدود أصول نشأتها وتبلورها وكتابتها، من خلال نصوصها ونماذجها ومتخيلاتها ولغاتها ورؤياتها ومرجعياتها، رهينة بضرورة التركيز، في خلفية أي قراءة أو مقاربة، على السياقات التي كُتبت ونُشرت فيها، مرتبطة بهُوية كُتابها من حيث حضور الذات والذاكرة، ومن حيث رغبة هؤلاء الكتاب في الكشف عن مكنون ما يصدر عنهم في ممارسة فعل الكتابة وفي اختيار شكل روائي ما أو أسلوب أو لغة أو فضاءات وشخوص وموضوعات (تيمات Thèmes). دون أن ننسى ارتهان هذا السعي بضرورة أخرى هي إبراز البعد المجتمعي لسبر أغوار التحول الاجتماعي، أفقيا وعموديا، ما دمنا نعلم أن الرواية، كما جل الأنواع الفنية، يبقى المجتمع هو سيِّدُ التجاوب معها، باعتباره بوصلة، يعيش الكاتب على هديه/هديها ويحيا ويتنفس ويحس ويعبر ويفكر استنادا إلى ما يتحصل لديه وإلى الذاكرة الجمعية؛ إذ يتحول إلى ربان يقود سفينة المتخيل (متخيله هو ومتخيل المجتمع)، مما يدفع إلى اعتبار النص الروائي «نصا ثقافيا» وفق نزوع جمالي يسعى إلى الاقناع بجدلية بناء شكلٍ روائي وصبِّه في قالب يغري بالقراءة والتلقي. استنادا إلى هذا التصور الفطري العام يمكن القول بأن كل نص روائي، بل كل نص إبداعي، أو أثر فني، في مجال الأدب وغير الأدب، متى كان مُحكما وجديرا بالانتماء إلى جينيالوجيا الإبداع، لا يأتي من فراغ، بل ينبئ لحظة قراءته الأولى ثم قراءاته المتوالية، عن قلق أنطولوجي تتحكم فيه الذات بكل ما تعنيه هذه الذات من حضور ضمني، مكشوف أو خفي، في صياغة رؤية العالم بكل أبعادها في تصور الواقع والصراع بين الأفراد والجماعات من أجل بحث ممكن عن قيم أصيلة وعن «حلول» لما يعتَورُ المنظومة الاجتماعية والنسيج المجتمعي من توترات وتصدعات، وأعتقد أن هذا هو المحور الذي يصب فيه، أو يقود إليه، على الأقل، نص «إمارة البئر: رواية من ثنائية السيرة والإخلاص» (محمد سالم الشرقاوي، دار أبي رقراق – الرباط، 2015، 302 صفحة). إنه محور مركزي، لكنه، في نفس الآن، محور تتوزعه عدة محاور أخرى تابعة له، تغذيه، وتبرز تشعباته، لأنها بمثابة وقود مضمر قابل للاشتعال/الانطفاء في كل وقت، في كل لحظة متوحشة بحكم طبيعة الكائن أصلا في أي صراع مادي أو رمزي، وتلك هي حالة «إمارة البئر»، ليس الرواية – النص التي نقرأ فقط، بل أيضا الفضاء الصحراوي والشخوص التي تتحرك فيه وتؤثثه والعلائق والعواطف والأحاسيس والتطلعات التي تظهر وتحتفي لتظهر مرة أخرى متشبعة بموقف آخر/ مواقف أخرى، رغبة في الأمن والاستقرار في مواجهة رغبة مناقضة مسكونة بهاجس السيطرة، مع ضرورة الاستمرار في الحياة المشتركة والاحتكام إلى العقل قصد التعايش. هما رغبتان مستبدتان تجعلان نص الرواية محكوما بوتيرة لا محل فيها للحياد السلبي أو المراوغة والمداراة مادام المصير مشتركا ولا مجال لمبايعة منطق الربح – الخسارة: إنه منطق محايث (Immanent) يدير دفة «إمارة البئر» كرواية يريد لها صاحبها أن تصب في نهر الرواية المغربية المعاصرة بحمولة ثقافية – معرفية – جمالية ترص عالما (كونا) مجهريا مصغرا ويكاد يكون مغلقا إلى غاية حدث المسيرة الخضراء بقصد الإشارة إلى أن هذا الحدث السياسي الوطني البارز غيَّر الكثير من النوازع والأفكار لصالح أهداف وغايات سامية، وجعل الناس في منطقة من مناطق الجنوب الشرقي، هي «بئر السبع»، يقتحمون بروية تاريخا غير الذي كانوا عليه دون التخلي عن هويتهم الثقافية – الاجتماعية، أي التعامل بالحسنى والإيثار واحترام حدود المقدس بالمعنى الرمزي لا العُرفي الفطري أحيانا. ومن ثم: تتحول رواية «إمارة البئر» إلى «رواية أفكار» أكثر مما هي «رواية شخوص» مثلا، أو رواية «تاريخية» بالمعنى الحرفي حيث يحضر «المحكي التاريخي» (Le récit historique) حضورا فعليا ومكثفا كما نجد لدى أحمد التوفيق أو بنسالم حميش أو كمال الخمليشي أو زكية داود. نعم: إن التاريخ مكون من مكونات نص «إمارة البئر»، كما هو شأن روايات سعيد بنسعيد العلوي، مثلا، أو روايات محمد برادة ومحمد الأشعري، إلى جانب نصوص روائية مغربية معاصرة تستمد متخيلاتها من التاريخ الحديث والمعاصر على السواء، ويتم ذلك، بالنسبة إلى نص محمد سالم الشرقاوي من خلال سيرة أبرز شخصية في رواية «إمارة البئر»، أي القبطان منصور السِّيود، لكنه، التاريخ، ليس مركزيا، وعندما أذهب إلى القول بأن هذه الرواية «رواية أفكار»، فلأنها تراهن على جعل خطاب المؤلف/الكاتب موجها عن قصد لجعل القارئ – المتلقي، ومعه الباحث – الناقد، يميل إلى تغليب كفة أطروحة مفادها أن العبرة لا تكمن في التمسك بالهُوية من أجل التمسك بها، هكذا، في المطلق، بل في ضرورة التحول الهادئ بما يقنع بالتجديد والتحديث والخروج من دائرة الانغلاق إلى دائرة الضوء مشفوعا بضرورة تطوير سبل الحياة: التعليم، الصحة، الإدارة، الانتخابات (الديمقراطية) وغير ذلك مما يستدعي الحرص على التآزر والالتفاف حول الهوية الوطنية. ولعل انتماء الكاتب إلى مناخات ثقافة الجنوب الشرقي المغربي هو الذي وفر/ يوفر له المادة الروائية من خلال وقائع وأحداث مرت في بلدة «بئر السبع» من بداية الرواية إلى نهايتها، كما سيوفر له محتملات محكي تالٍ في الجزء الثاني الذي يعلن عنه في الصفحة الأخيرة (انظر ص 302). ويحق لنا، في هذا الاتجاه، أن نتحدث عن سُلطة الذاكرة في تفعيل التخيل عندما يتعلق الأمر بذلك النزوع الدائم الذي يقود الكاتب إلى استثمار ما «يعرفه» (يعلمه) لصالح ما «يتخيله» ويجعله ممكنا للتخيل في حدود توليد «قصة» (حكاية Histoire) وإلا تحول النص إلى ضرب من ضروب السيرة ومتوالياتها المعروفة في سجل السرد الذاتي، أي الإخبار عن حياة «فعليّة» عاشها الكاتب ويمررها إلى السارد بنوع من الحكمة المقصودة، علما بأن «السيري» (ما هو «سيري» حسب شرط الكتابة) يخترق عدة نماذج، منها الكتابة التاريخية أو الكتابة السياسية أو الكتابة الفكرية أصلا، في الكثير من أغراضها، سيرةٌ بالمعنى الفلسفي – الميتافيزيقي. ولنشر مثلا إلى كتابة أبي حيان التوحيدي وجبران خليل جبران وفريديريك نيتشه وإيميل ميشيل سيوران، دون أن ننسى عبد الفتاح كيليطو في نص مثل «أُنبئتُ بالرؤيا» أو عبد الله العروي في «السنة والإصلاح» و»من ديوان السياسة»، مثلا. 2- الذاكرة معبدٌ من معابد الكتابة، الذات فيها هي المؤطر، ومنذ نص «الزاوية» (التهامي الوزاني، 1942) إلى الآن، بالنسبة إلى متواليات الرواية المغربية الحديثة والمعاصرة، لم تتوقف ذاكرة المؤلف عن ضخ وصهر دمائها في مجرى الكتابة السردية لتتحول إلى إبدال (Paradigme) من الإبدالات الكبرى المتعالية التي توجه دفة المحكي والمتخيل. ولا يشذ نص «إمارة البئر» عن هذا المؤشر المحايث، إذ من شأن الذاكرة أن تستعيد دون توقف ما يساعد على توليد الحكاية من منظور ثقافي كنصوص موازية ومناصصات وتناصات قوامها المسموع والمقروء والمرئي، وفي هذا يحفل نص «إمارة البئر» بالنص الديني (القرآن والحديث النبوي) والنص الشعري والنص الحِكمي والنص الإديولوجي والنص السياسي، أي ما يمكن أن نسميه إجمالا «النص الثقافي» أو «النص المعرفي»، وكل هذه النصوص المندغمة، متصلة كانت أو منفصلة، في طيات النص الروائي الذي يتشربها (حسب قول جوليا كريستفا المشهور المتداول)، وهي ما يُسمى عادة المتناص (L'intertexte) في تصور محاورة لغة الرواية لنصوص حاضرة – غائبة، بالتصريح تارة، وبالتلميح تارة أخرى، أي ما يترتب عن تفاعل النص المركزي مع غيره (لغات، لُغيات، خطابات) إذ يشكل هذا الأخير ما يشبه تقاطع كل النصوص الوافدة والمتحركة لإنتاج المعنى والدلالة من خلال تقاطع مضامين هذه النصوص لمنح نص الرواية، رواية «إمارة البئر»، في هذا المدار، إمكانات تحويل النص ذي لغة أدبية منفتحة على ما يدور في فلكها – تدور في فلكه، يحاورها وتحاوره بتدخل من سلطة المؤلف وقصدية الكاتب واستعداد السارد والشخوص لتملك الملفوظ (L'énoncé): المؤلف صوتٌ متعالٍ، يجند السارد الذي يوظف الشخوص ويجعلها «تتكلم» و»تعمل» (أو تفعل) في نفس الآن، كما في النص المسرحي (En action) حسب أرسطو، وهي تصدر فيما تقوم به عن «وجهة نظر» نابعة من تكوينها وثقافتها ونفسيتها وخبرتها (اتها) وتجاربها في الحياة، على أن المتحكم في إدارة هذه «المقاولة النصية» (بالمعنى المجازي) هو المؤلف الذي يسمو على عملية توزيع «الكلام» (التلفظ) مع مضاعفه (Son double)، أي الكاتب على مستوى انسجام النص وإيقاعه واتساقه. يظهر هذا في شبكة ما يفوح في «توزيع» هذا النص إلى فصول وضمان التوازن فيما بينها، إلى جانب اختيار عنوان الرواية وعنوانها المتفرع عنه «رواية من ثنائية السيرة والإخلاص» بنوع من الإيحائية المكثفة (سيرة من؟ وإخلاص لماذا؟)، ثم كذلك عناوين الفصول وعناوين مقاطعها. هذا يعني أن فعل الكتابة تتجاذبه ويتحكم فيه أمران، أو «حافزان»، هما: ضرورة الكتابة (المؤلف) ووعي الكتابة (الكاتب). ضرورة الكتابة تفد من وازع الرغبة في التعبير عن شرط إنساني – وجودي – وجداني – نفسي وعاطفي بالمعنى الذاتي، بينما وعي الكتابة تتدخل فيه، إلى جانب الرغبة، إكراهات الصنعة وما نسميه «ثقافة المؤلف» بالمعنى الحِرفي، فهدف الإقناع بحق وجدوى النص في التداول وفي قراءة محتملة وخلق ما يسمى «أفق الانتظار» (Horizon d'attente) لدى المتلقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.