يعيش حزب "التجمع الوطني للأحرار" (المشارك في الحكومة المغربية) هذه الأيام أزمة عاصفة، تنذر بانعكاسات قوية على مساره، ومن شأنها أن تقزّم حضوره على الساحة السياسية المغربية؛ وهو الذي كان ينعت إلى حد قريب بكونه "حزب القصر"، لأن ولادته قبل ثلاثين سنة ونيف كانت بمشيئة الملك الراحل الحسن الثاني؛ لكن هذه الصفة أُزيحت عنه لفائدة "الحزب الوافد" على حد تعبير بعض الصحف الحكومية حزب "الأصالة والمعاصرة" الذي أسسه فؤاد عالي الهمة، صديق العاهل المغربي ووزيره السابق في الداخلية، والأقوى بعد رحيل إدريس البصري. "" أزمة "الأحرار" التي يصفها عدد من المراقبين ب"النزيف الداخلي"، بلغت ذروتها أخيرا من خلال الفشل الذريع الذي مُنِيَ به الحزب في انتخابات رئاسة "مجلس المستشارين" (الغرفة الثانية في البرلمان المغربي)، حيث لم يتمكن عضوه القيادي المعطي بنقدور من البقاء على رئاسة هذا المجلس لولاية جديدة. وتعكس هذه النتيجة التراجع الملحوظ الذي أصبح يعيشه "التجمع الوطني للأحرار" حاليا، ومن أبرز علاماته حصوله على المرتبة الخامسة في نتائج انتخابات ثلث "مجلس المستشارين" التي جرت قبل بضعة أسابيع، بينما كان هذا الحزب لا يقنع إلا بمقدمة الترتيب (أو على الأقل بالرتبة الثانية أو الثالثة) في الاستحقاقات التشريعية منذ سنين متعددة. للأزمة التي يمر بها "الأحرار" وجهان، أحدهما ظاهر والآخر خفي، فالظاهر منها يتمثل في الصراع الدائر بين قيادييه حول إدارة شؤون حزبهم، ويتمركز الصراع خاصة بين جناحين، أحدهما يوصف بالتقليدي والمستبد والمتجاوَز، ويجسده مصطفى المنصوري (رئيس الحزب) الذي يرأس في الوقت نفسه "مجلس النواب" (الغرفة الأولى في برلمان المغرب)، والثاني يصف نفسه بتيار التصحيح والتجديد، ويقوده صلاح الدين مزوار (وزير الاقتصاد والمالية)، فيما يؤاخَذ هذا الأخير من طرف خصومه بكونه لا علاقة له بالحزب لا من قريب ولا من بعيد، بل جِيء به هو وأسماء أخرى ليتسلموا حقائب وزارية باسم حزب "الأحرار" عند تشكيل الحكومة المغربية قبل سنتين. أما باطن هذه الأزمة، فيتجلى في حقيقة التحالف أو الصفقة التي أبرمها حزب "الأحرار" (أو على الأقل بعض قيادييه) مع حزب "الأصالة والمعاصرة"، وهي صفقة خرج منها الأول بخفي حنين، والثاني بانتصار مدوٍ على ثلاثة مستويات: أولها حصوله على المرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية، وثانيها احتلاله المرتبة الأولى أيضا في انتخابات ثلث "مجلس المستشارين"، وثالثها ظفره برئاسة الغرف الثانية في البرلمان المغربي مع احتفاظه بموقع المعارضة للحكومة. واللافت للانتباه أن حزب فؤاد علي الهمة حقق هذا الاكتساح الساحق للحياة السياسية بالمغرب ولمّا يمضِ على تأسيسه سوى بضعة شهور. بينما خرج حزب "الأحرار" (ذي ال31 عاما) منهزما وخاسرا من تحالفه مع الحزب المذكور. وقد اتخذ ذلك التحالف مظهرين: تشكيل فريق مشترك في البرلمان باسم "التجمع والمعاصرة"، والتنسيق بين الحزبين قبيل انتخابات ثلث "مجلس المستشارين" خاصة على مستوى رئاسة مجالس الجهات. ونستشهد، هنا، بحالتين لهما دلالتهما العميقة: حالة الوزير محمد عبو (وزير تحديث القطاعات العامة) الذي شعر كما لو أن حزبه تخلى عنه في السباق نحو رئاسة جهة "تازةالحسيمة تاونات" وذلك لصالح مرشح حزب "الأصالة والمعاصرة". وحالة الصفقة التي أبرمت بين الحزبين على مستوى رئاسة جهة "سطات"، حيث قام حزب "الأصالة والمعاصرة" بدفع أحد كوادره إلى سحب ترشيحه في آخر لحظة لفائدة مرشح حزب "الأحرار"، ولم يكن هذا المرشح سوى المعطي بنقدور (الرئيس السابق ل"مجلس المستشارين") الذي خُيِّر بين أحد المنصبين، أو ربما أُجبر على الاختيار: فقنع برئاسة جهة "سطات". ولئن كان بنقدور دخل المنافسة على رئاسة الغرفة الثانية من البرلمان مع خصم/ حميم أو صديق/ لذود هو: محمد الشيخ بيد الله؛ فإنه كان يفعل ذلك للحفاظ على ماء الوجه ليس إلا، أو ربما للتظاهر بمصداقية اللعبة الديمقراطية، لأن النتيجة كانت معروفة مسبقا هي فوز بيد الله، الشخصية الصحراوية، والذراع الأيمن لفؤاد علي الهمة، والأمين العام للحزب الذي يجمعهما معا، ووزير الصحة السابق. شيء مؤكد، إذن، أن مهندسي الخارطة السياسية بالمغرب لم يعد يقبلون بوجود هيئتين سياسيتين مقربتين من القصر، وبالتالي كانت التضحية بحزب "التجمع الوطني للأحرار"، لاسيما وأن نفوذه كان مستمدا من رئيسه السابق ومؤسسه أحمد عصمان صديق الملك الراحل الحسن الثاني في الدراسة وصهره أيضا، وشخصيته المفضلة في أرفع المناصب السياسية وخاصة رئاسة الوزراء. ومثلما شكل تأسيس حزب "الأحرار" عام 1978 (من طرف أعيان ورجال مال وأعمال) أداة قوية للحسن الثاني في مواجهة أحزاب "الحركة الوطنية": "الاستقلال" و"الاتحاد الاشتراكي" و"التقدم والاشتراكية"، فإن تأسيس حزب "الأصالة والمعاصرة" جاء بالأسلوب والهدف نفسهما، وذلك لكسر شوكة الأحزاب التي أصبحت تزعج الدوائر العليا أحياناً، خصوصا عندما تلوح بورقة العودة إلى المعارضة وتعبئة الجماهير. ألم يقولوا إن التاريخ يعيد نفسه؟ الخلاصة أن "حزب التجمع الوطني للأحرار" سيجد نفسه حتى قبيل انتخابات 2012 التشريعية أمام خيارين أحلاهما مر: إما الذوبان في حزب صديق الملك الذي سوف يستأسد أكثر خلال الاستحقاقات الانتخابية القادمة أو ربما قبلها، أو الارتكان إلى موقع ظل صغير في مجرة السياسة المغربية الحبلى بالمفارقات والغرائب التي لا تحتكم إلى منطق الديمقراطية الحق.