إن كل من يعنى بالتطور السياسي والدستوري للمغرب يستغرب من كون بلادنا كلما كانت على موعد مع الانتخابات العامة، إلا وأعلن بها عن تأسيس حزب جديد، وغالبا ما تناط مهمة تسييره والسهر عليه إلى «رجل قوي» من الحكومة أو من المقربين للملك، أو من الزبناء السياسيين في حالة الأحزاب المواكبة أوما يسمى ب «أحزاب الرصيد الباقي». ويتعلق الأمر عادة بوزير للداخلية أو وزير أول أو وزير العدل يوظف طاقاته من أجل مجموعة من الأتباع لاهدف لهم سوى طلب القربى من موقع صنع القرار السياسي. هكذا، وبمناسبة الانتخابات التشريعية الأولى التي أجريت بتاريخ 17مايو 1963 لانتخاب أعضاء مجلس النواب، سيعرف المغرب تجربة «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» أو «الفديك»، في هذه التجربة كلف السيد أحمد رضا اكديرة - الذي بادر كما قلنا سلفا إلى تأسيس نادي سياسي أطلق عليه اسم الأحرار المستقلين - بإعداد الترتيبات اللازمة لتأسيسها. فالدور السياسي الكامل لرضا اكديرة لم يبرز حقيقة إلا بعد تنصيب الملك الجديد الحسن الثاني الذي كان اكديرة من أقرب المقربين إليه وهو ولي العهد. وهكذا، ومن 1961 إلى 1963، سيتولى الخصم الرئيسي لتنظيمات الحركة الوطنية، ودفعة واحدة، منصبي المدير العام للديوان الملكي ووزيرا للداخلية والفلاحة، وسيتصرف بالتالي كنوع من «الصدر الأعظم» أو «الوزيرالأول» ، فيسعى بالتالي إلى تحقيق فكرة مواجهة ما يزعمه خطرا متمثلا في «احتكار» تنظيمات الحركة الوطنية للمشهد السياسي مما يشكل - في زعمه دائما - خطرا على النظام الملكي نفسه.. وتكونت هذه الجبهة التي تأسست يوم 20 مارس1963 من حزب رضا أكديرة (الأحرار المستقلين) وحزب الشورى والاستقلال(حزب محمد بلحسن الوزاني) وأغلبية قادة الحركة الشعبية ووزراء في الحكومة انضموا إليها بهذه الصفة. واختير لها في الأول اسم «الجبهة من أجل الملكية الدستورية» وحتى لا يقحم شخص الملك في الصراع الدائر تدخل في آخر لحظة لتغيير الاسم وهو ما حصل بالفعل. ولقد كان هدف السلطة من إنشاء «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» منذ بداية الستينيات، أي منذ التجربة البرلمانية الأولى هو: - إنشاء كتلة سياسية يمينية تمثل «جهازا إيديولوجيا للدولة» قصد مواجهة أحزاب المعارضة / الحركة الوطنية وخلق توازن سياسي لمصالح السلطة. - دعم الواجهة الديمقراطية وخلط الأوراق في ظل دستور ينص على تعدد الأحزاب السياسية. - ربح الوقت حتى تتمكن السلطة من دعم قوتها وبسط نفوذها على كل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية وبناء الدولة العصرية بغض النظر عن مآل الديمقراطية وإمكانية إدماج المعارضة في المستقبل بعد «ترويضها». ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، وضعت رهن إشارة الجبهة وسائل مادية وبشرية هائلة،(جزء كبير منها محسوب على الدولة) والدعاية المغرضة المستعملة (حزب الملك). إلا أن نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 17مايو 1963 - التي دخلتها الجبهة تحت شعار«الاستقلال الوطني والمساندة للملك والدفاع عن المؤسسات الدستورية» - جاءت دون التوقعات بكثير: فلم تفز «الجبهة» إلا ب 69 مقعدا من أصل 244 ، و24 % من الأصوات المعبر عنها مقابل 41 مقعدا لحزب الاستقلال و28 مقعدا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية! وبناء على هذه النتائج يظهر أن محاولة لجم واحتواء بل وتكسير الحركة الاتحادية التقدمية قد باءت بالفشل. فسرعان ما سيتم إعفاء أحمد رضا أكديرة من مهامه كوزير للداخلية في يونيو 1963 ليتم - فيما بعد - تهميشه بالكامل ويدخل المغرب تجربة «الحديد والنار» وتبرز على الساحة شخصية الكولونيل الدموي: محمد أوفقير. هذه التجربة، تجربة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، سوف تتكرر إبان التجربة البرلمانية الثالثة، التي امتدت من 1977إلى1983 ، حيث تأسس في أعقاب الانتخابات البلدية والقروية عام 1976، التجمع الوطني للمستقلين، الذي ترأسه الوزير الأول آنذاك أحمد عصمان وبعض زملائه، والذين تم تنظيمهم بعد الانتخابات في أكتوبر1978 في التجمع الوطني للأحرار. فهذا الحزب هو الآخر قد خرج بدون شك من صلب الإدارة، واستفاد من رعاية الدولة ودعمها في النشأة والتطور، إذ أن مؤسسه،أحمد عصمان، كانت له علاقة مصاهرة بالملك الراحل الحسن الثاني ، وتولى رئاسة حكومتين متتاليتين ما بين سنة 1972 و 1979، ثم المجلس التشريعي في الفترة الممتدة ما بين 1984 و 1992، ولم يخف أبدا ارتباطه بالخيارات والإستراتيجيات الكبرى للدولة، حيث يقدم نفسه على أنه القوة السياسية المرشحة - أوالتي ترشحها الدولة - لتحقيق «التوازن» المرغوب فيه . ويشدد الحزب في أدبياته السياسية، على أنه اختار منذ البداية موقع «الوسط الاجتماعي التقدمي» . وأضحى يعرف نفسه كحزب «ديمقراطي اجتماعي ليبرالي» انطلاقا من مؤتمره الوطني الثاني المنعقد في بداية الثمانينات. وتبعا لهذا، فحزب التجمع الوطني للأحرار عندما ولد ذات يوم من سنة 1978، قال العارفون بخبايا السياسة والانتخابات أن ولادته كانت قيصرية ولم تكن طبيعية واحتاجت لطبيب مختص ليخرج المولود من رحم الإدارة في رمشة عين. ويمكن اعتبار حزب الأحرار، كما يقول أحمد الحارثي، محلل وباحث سياسي، أنه يمثل حالة متميزة تستدعي التحليل والمعالجة السياسية وتفرض الدراسة في مساره التاريخي. فالتجمع الوطني للأحرار الذي حاز على 81 مقعدا في الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب عام 1977و 59مقعدا في الانتخابات غير المباشرة (و شكل ما مجموعه 140مقعدا من بين 264 في مجلس النواب)، ما فتئ يؤكد على استقلاليته وطموحه لتثبيت موقعه كقوة رئيسية في البلاد. زيادة على ذلك ، فإنه أضحى يدعي ليس تبني الفكر الاقتصادي الليبرالي وتمثيل الليبرالية السياسية وحسب، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى باقي الأحزاب المسماة إدارية وبعض من الأحزاب الجديدة، بل أيضا وفي الآن نفسه تأصيل الديمقراطية الاجتماعية عبر محاولته استيراد مفهوم«اقتصاد السوق الاجتماعي». ويجزم المصدر نفسه بأن حزب الأحرار ليس مثله مثل بقية أحزاب اليمين الإدارية، إذ يبدو أنه ليس حزبا مساندا للدولة بدون قيد أو شرط، كما أن مرجعيته الأيديولوجية ليست مجرد تكيفية، وبرنامجه السياسي لا يختزل في برنامج تقني صرف، ويرى محللون سياسيون أنه إذا استمر الحال على ما هو عليه داخل الحزب نفسه الذي تتقاذفه أمواج عاتية، فإن الدولة ستشهر في وجهه ورقة «الطلاق»، وآنذاك سيصبح حزبا لا يغني ولا يسمن من جوع. هذا السيناريو، سيناريو خلق حزب أغلبي- سيتكرر قبيل الدخول في مسلسل الانتخابات البلدية والقروية التي أجريت بتاريخ 10 / 6 /1983والتي كانت ستعقبها الانتخابات التشريعية في نهاية صيف 1983 وأجلت مرتين، وحددت بالنسبة لانتخاب ثلثي أعضاء مجلس النواب القادم في 14شتنبر 1984، حينها بادر المعطي بوعبيد بإنشاء الاتحاد الدستوري الذي فاز بالأغلبية النسبية داخل مجلس النواب (81 من 316 مقعدا). فالاتحاد الدستوري هو حزب يميني أسسه رئيس الوزراء السابق المعطي بوعبيد بإيعاز من القصر سنة 1983، وقد ترأسه بعد ذلك جلال السعيد، ثم ترأسه عبد اللطيف السملالي، ويرأسه الآن محمد الأبيض. من خلال هذه النماذج من الأحزاب السياسية التي ارتبط ظهورها بالمناسبات الانتخابية، يمكننا القول أن هذه الأحزاب هي أحزاب لم تنشأ عن حاجات اجتماعية ملحة. وبالتالي فهي دون قاعدة شعبية عريضة، وبرامج سياسية واضحة. أحزاب «أطر» كان ولا يزال (حتى بعد تعيين حكومات تقنوقراطية) هدفها الدفاع عن البرامج الحكومية (مثل برنامجي: مخطط التقشف 78 / 83 . والتقويم المالي وإعادة الهيكلة 83 / 93) وهو ما ظهر أثناء مناقشات البرلمان، حيث كانت مبادرة تنشيط الجلسات متروكة بالأساس لأحزاب المعارضة سابقا، في حين تكتفي أحزاب الأغلبية بالتصويت والرفض الآلي لأية مبادرة تأتي من المعارضة، دونما حاجة حتى للنقاش أو التبرير. وهذا ما اتضح كذلك أثناء الحملات الانتخابية حين اكتفت هذه الأحزاب تارة بالتنكر لدورها في الحكومات السابقة، وتارة بالدفاع عن هذا الدور دون الإحساس بأي تناقض. وجدير بالذكر كذلك، أن الحقل الحزبي المغربي عرف في الفترة ما قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2002، ظهور أكثر من حزب في الشهر الواحد، بعضها أتى بمبادرة أفراد من المجتمع المدني أو السياسي وأحيانا بمبادرة فرد واحد، وهكذا خرج إلى الوجود «حزب القوات المواطنة» بزعامة عبد الرحيم الحجوجي الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب. كما ظهر «حزب رابطة الحريات» بزعامة علي بلحاج رئيس جمعية مغرب 2020، وقبل ظهور هذين الحزبين كانت الساحة الحزبية قد شهدت ميلاد ما يسمى ب «الحزب الليبرالي المغربي» بقيادة محمد زيان المحامي ووزير حقوق الإنسان سابقا. عدد آخر غير قليل من الأحزاب السياسية يصعب ذكرها جميعها من مشارب وباهتمامات مختلفة نذكر منها على سبيل المثال فقط «حزب التجديد والأنصاف».و«الحزب الوطني للجيل المستقل» برئاسة عمر بن سليمان و«جهاد الشعب» بزعامة المكي المالكي، و«الحزب الليبرالي الإصلاحي» بقيادة محمد ألواح، وقد اندمجت هذه الأحزاب فيما بينها لتشكل من جديد «وحدة القوى المجددة» بقيادة جماعية تتكون من الأمناء العامين لهذه الأحزاب. فتعداد ما يربو عن أربعين حزبا مع مطلع الألفية الثالثة، ينم في حد ذاته عن دينامية لايمكن فهم تجلياتها خارج تطور النظام السياسي المغربي، كما أن مبررات الوجود أو مسوغات الحرص على التموقع تختلف جذريا عن الإطار الطبيعي للممارسة الحزبية في المنظومة الديمقراطية، وإلا كيف يمكن فهم تناسل أزيد من عشرين حزبا في السنوات الأخيرة دون أن يكون لجلها السند الشعبي أو الضرورة المجتمعية التي يمكن أن تبرر فعل الوجود هذا؟ والملاحظ، أن هذه الأحزاب التي ظهرت قبيل الدخول في مسلسل الانتخابات التشريعية لعام 2002، لم يكن لها أي تأثير يذكر داخل البرلمان، عكس الأحزاب السابقة، إذ كان الهدف من وجودها هو ضبط لعبة التوازنات السياسية على مستوى الجهاز التشريعي بلعبها دورالاغلبية البرلمانية والحكومية، وكذلك تمثيلها النخب السياسية والمحلية والطائفية، وإيجاد تنافس ديموقراطي، يجنب المركز توترات المحيط حسب تعبير محمد معتصم. مما سبق يتضح، أن المشهد الحزبي يتميز في بلادنا بتناسل عدة أحزاب من شأنها تمييع الفضاء السياسي وعرقلة الانتقال الديمقراطي وزرع الخلط والالتباس في المفاهيم وإفراغ القيم النبيلة للسياسة من محتواها، مما يقود إلى فقدان الثقة في العمل السياسي، الشيء الذي ينعكس سلبا على مختلف الأصعدة، دولة ومجتمعا. إن التعددية الحقة تجد معناها الصحيح في تعدد الأفكار والبرامج لا في عدد الأحزاب وكثرتها. هذا من جهة، ومن جهة ثانية إن تعاطي الدولة مع الأحزاب بالشكل الذي سارت عليه (خلق كيانات سياسية من دون أن تستند إلى قاعدة اجتماعية، ولا أن تتوفر على برامج سياسية ومشاريع مجتمعية بعد أن وفرت لها الدعم السياسي والمادي واللوجيستيكي في مواجهة الأحزاب السياسية المعارضة سابقا: جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية سنة1963، التجمع الوطني للأحرار سنة 1977، الاتحاد الدستوري سنة 1983 ، بعض الحركات الإسلامية في التسعينيات لمواجهة اليسار الجديد، وحزب عرشان96 ...) كانت تتغيا من ورائه تحقيق توازنات سياسية، تمنحها القدرة على التحكم في المجال السياسي والحقل الحزبي، وهو ما تحقق لها على امتداد الأربعين سنة الماضية، وبقدر ما تمكنت من خلاله الدولة توفير نوع من الضبط، بقدر ما خلقت مسافات كبيرة بين النخب السياسية والمجتمع بإفرازاته المتعددة، الشيء الذي عمق من إفساد الحياة السياسية وبلقنة الأحزاب. أدركت معه الدولة وفق العديد من المتغيرات التي عرفتها البلاد، ضرورة إعادة هيكلة المشهد الحزبي، وتكييفه مع استراتيجية العهد الجديد وتوفير شروط إرساء خريطة سياسية على المقاس. ولهذه الأسباب في تقديرنا تم استنبات حزب أغلبي يناسب المرحلة ويتبنى برنامج الدولة والصيغ التي تراها قمينة بإنجاز انتقال ديمقراطي بدون كلفة سياسية أو تغيير دستوري.