تعتبر الانتخابات الجماعية المقبلة محطة أساسية في بناء وتمتين المسلسل الديمقراطي، وفرصة تاريخية للثورة على النمط القديم في تسيير وتدبير الشأن العام المحلي، وتتميز استحقاقات 12شتنبر بأهمية كبيرة، وذلك من أربع جهات: الأولى كونها أول انتخابات جماعية تجري في ظل العهد الجديد، والثانية أنها تأتي بعد أحداث 16ماي الإرهابية بما خلفته من تداعيات، والتي لا شك ستتأثر بها، والثالثة أنها ستنظم في ظل ميثاق جماعي جديد (معدل) وبمقتضيات جديدة من قبيل نظام وحدة المدينة ومجالس المقاطعات، والرابعة أنها تجري في وقت تعيش فيه قضية الوحدة الترابية وضعا حساسا يتطلب إجماعا وطنيا قويا، ويقظة كاملة لهزم وإفشال كل مناورات الخصوم والأعداء. فما هو الرهان الأساسي للانتخابات الجماعية المقبلة؟ وماهي التحديات المطروحة على الأحزاب السياسية ؟ وهل ستعمل الإدارة على ضمان شروط نزاهة وشفافية الاستحقاقات المقبلة؟ وأي دورللناخب المغربي في هذا كله؟ رهان الانتخابات الجماعية عبرت كل الأطراف المعنية بالانتخابات، سواء تعلق الأمر بالأحزاب السياسية أو الحكومة أو الدولة أنها ترغب في أن تشكل استحقاقات 12 شتنبر تجربة جديدة وحاسمة في بناء مسار المسلسل الديمقراطي والتنموي للبلاد، والرقي بتدبير الشأن العام وتنقيته من كل الشوائب التي علقت به طيلة التجربة الماضية، والتي اتفق الجميع على أنها كانت دون المستوى، ولم تقم بالمطلوب منها، وأنها عازمة على أن تجعل المجالس الجماعية المقبلة رافعة أساسية للتنمية المحلية، خاصة في ظل التعديلات التي أدخلت على الميثاق الجماعي ونهج أسلوب جديد في تسيير الشأن العام، قائم على التجميع، ويتمثل في توحيد تسيير المدن الكبرى مثلا، وجعل أمر تدبير شؤونها بيد مجالس للمدينة عوض نظام المجموعات الحضرية السابق، فضلا عن نظام المقاطعات، وما إلى ذلك من الأمور المستجدة على الميثاق الجماعي، التي يرجى من ورائها إعطاء دينامية صورة جديدة وفاعلة لتسيير الشأن العام المحلي. وأكدت كل الأطراف المذكورة في خطابات معلنة أنها ستعمل على أن تصون المحطة الانتخابية المقبلة من كل ما يمكن أن يمس نظافتها ونزاهتها، التزاما بتعهداتها وبمضمون خطاب العرش الأخير، الذي حث على الرقي بالعمل السياسي والحرص على نبله والارتفاع به عن التعاطي الانتخابوي الضيق. الإدارة: ضمانات الشفافية ومحك التنزيل. الإدارة الوصية على الشأن الانتخابي من جهتها أعربت بأنها ستعمل على تفعيل الترسانة القانونية لضمان سلامة النتائج التي تفرزها صناديق الاقتراع، وذلك بتمكين كل ناخب من التصويت بحرية لصالح المرشح أو اللائحة التي يختارها بعيداً عن كل تأثير أو تهديد أو إكراه، خاصة وأن مدونة الانتخابات تتضمن مجموعة من الأحكام الكفيلة بضمان التنافس الشريف بين الأحزاب والمرشحين وتهذيب وسائل الدعاية الانتخابية، وزادت على ذلك بأن وقعت منشورا مشتركا مع وزارة العدل لنفس الغاية وبقصد إشراك هذه الأخيرة في العملية، وتضمن المنشور توجيهات صارمة إلى العمال والولاة، ومن دونهم من رجال السلطة وأعوانهم باحترام القانون والسهر على تنفيذه وحمايته من أي خرق ومن أي كان. ورغم أن ثمة سلوكات صدرت عن بعض رجال السلطة في بعض المدن والقرى في فترة إيداع الترشيحات الانتخابية، خرقوا بها مقتضيات المنشور، ودخلوا في حملة مضادة وصريحة ضد حزب وطني، يبقى من السابق لأوانه الحكم على نوايا السلطة، إذ أن تصرفها في الأيام المقبلة على أرض الواقع، وإلى غاية تشكيل المكاتب والمجالس الجماعية هو الكفيل به. الأحزاب السياسية والتحديات الأربع راحت وعود أغلب الأحزاب السياسية السالفة الذكر أدراج الرياح، وسقطت أمام أول امتحان، ويتعلق الأمر باختيار المرشحين ووكلاء اللوائح الانتخابية وتزكيتهم، بحيث فشلت في إعمال الديمقراطية في ذلك بين أبنائها، وعجزت عن تدبير شأنها الداخلي قبل الشأن العام المحلي، ودون الدخول في التفاصيل التي لا تفتأ الصحافة الوطنية تتحدث عنها يوميا منذ انطلاق موعد إيداع الترشيحات، لأن المتتبع للطريقة التي دبرت بها أغلب الأحزاب أمر الترشيحات، وقف بشكل واضح على إخلافها لعهودها وانقلابها على التزاماتها الواردة في الخطب والتصريحات والحوارات، بحيث تحكمت في اختياراتها معايير الولاء والزبونية والانتقام، ومنحت التزكيات بدون إشراك الهيئات التقريرية. الأمر الذي انعكس على صفوفها الداخلية بالتصدع والاحتجاجات والانسحابات. وضرب الديمقراطية الداخلية في العمق، في حالة تبين أن الأحزاب المعنية لم تستوعب الرسالة الملكية الخاصة بها في خطاب العرش، والتي كانت تقتضي منها جلسة خاصة وإعادة النظر جذريا في طريقة تدبيرها لأمورها، حتى تكون في مستوى التحديات التي تنتظرها في تسيير الشأن العام، وتنتظر البلد بكامله. إن الانتخابات الجماعية المقبلة تضع الأحزاب، وهي تدخل مرحلة الحملة الانتخابية أمام أربع تحديات مركزية وهي كالتالي: أ القدرة على ضمان مشاركة مكثفة في الاقتراع تبقى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني هي الأخرى أكبر من يمكنه إقناع المواطن، الذي ترسخت في ذهنه مع توالي المحطات الانتخابية، إذا استثنينا استحقاقات27 شتنبر (التي قل فيها الإفساد الانتخابي) أن الانتخابات وإرادة الناخبين لا يمكن أن تسلم من التزوير والتلاعب، بضرورة المشاركة والإسهام في التأسيس لعهد جديد، إلا أن اللامبالاة التي طبعت سلوك المواطنين غير المنخرطين في الهيئات أو الجمعيات، مع فترة الترشيحات، وما عاينوه أو سمعوه وقرأوه عن طريقة تكوين اللوائح وتقديم الترشيحات داخل أغلب الأحزاب يجعل المهمة صعبة والقدرة على مواجهة المواطنين وتبرير ذلك أصعب، الأمر الذي قد يدفع المواطن إلى الاستمرار في عزوفه، والخوف مرة أخرى على مآل تدبير الشأن العام مع استمرار نفس العقلية الحزبية الضيقة والانتهازية. وهو ما يضع الأحزاب السياسية أمام امتحان عسير، ويفرض عليها القيام بواجبها ودعوة المواطن إلى ممارسة واجبه الدستوري والوطني، وعقاب من يستحق العقاب واختيار من يراه أصلح، على اعتبار أنه هو الآخر مسؤول وطرف أساسي في العملية ويمكنه أن يساهم في تفعيلها وتقويمها بمشاركته الإيجابية قبل الاقتراع وبعده بالمراقبة والتتبع للمؤسسات المنتخبة، ويبقى الرهان في هذا الموضوع بالأساس على الهيئات الشبيبة للأحزاب لتنزل إلى الميدان وتحارب ثقافة اليأس والإحباط، خاصة وأن القرار الملكي القاضي بتخفيض سن التصويت إلى 81سنة مد الجسد الانتخابي بكتلة شابة قادرة على أن تحبط بأصواتها مخططات سماسرة الانتخابات ومفسديها، إن هي أحسنت الاختيار، وهي قادرة على ذلك. دون إغفال دور وسائل الإعلام العمومية. ب محاربة استعمال المال ووسائل الإفساد الانتخابي بين مرشحيها لطالما تعودت الأحزاب السياسية إلقاء اللوم على الإدارة فقط، متهمة إياها بإفساد الانتخابات، وقلما توجهت بالاتهام إلى نفسها كذلك، وقد ثبت بالدليل أن الخروقات تبدأ من عند بعض مرشحي الأحزاب وداعميهم، باستعمال قوة العضلات والمال بالدرجة الأولى، وسكوت السلطة أو دعمها بالدرجة الثانية، ولئن كان السلوك المذكور ظل مقترنا بما يسمى بأحزاب الإدارة وأحزاب آخر لحظة، فإن التجربة دلت على أن أحزابا تقليدية لم تسلم من المرض نفسه، مع اختلاف الأشكال والصور فقط، وقد أبانت انتخابات 27 شتنبرذلك بوضوح. ويبقى على كل الأحزاب السياسية أن تكون في مستوى اللحظة التاريخية، فتتصدى للخروقات داخلها وتحترم شروط المنافسة الديمقراطية الشريفة بما يشرف العهد الجديد. لأن الله لن يغير ما بالأحزاب وما تشتكي منه إلا إذا غيرت ما بداخلها وسلوكها، ولا يمكنها أن تحتج على خروقات الإدارة أو حيادها السلبي، وهي أعرف العارفين بخروقاتها وتجاوزاتها. ج بناء تحالفات على أسس معقولة انبنت أغلب التحالفات الحزبية في المرحلة السابقة، سواء في المجالس الجماعية أوغيرها على أسس واهية سرعان ما أبانت عن إفلاسها، منها من انحلت ومنها من لم تبق منها إلا الصورة، وتحتاج فقط إلى إعلان جريء عن موتها، لكن رؤية جديدة لتدبير الشأن المحلي تسعى إلى أن تجعل، كما سبقت الإشارة، من المجالس الجماعية المقبلة رافعة أساسية للتنمية المحلية، خاصة في ظل التعديلات التي أدخلت على الميثاق الجماعي ونهج أسلوب جديد في تسيير الشأن العام، قائم على توحيد تسيير المدن الكبرى مثلا، وجعل أمر تدبير شؤونها بيد مجالس للمدينة عوض نظام المجموعات الحضرية السابق، تقتضي من الأحزاب السياسية بناء تحالفات قوية على أسس مبدئية وبرنامجية غرضها الوحيد إعطاء صورة جديدة لمدننا وقرانا، والنهوض بكل التحديات المتعلقة بتدبير الشأن العام المحلي، بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة، وخدمة المصالح الشخصية. وينبني ما سبق على تقديم الأحزاب التي كانت مسؤولة على التدبير والتسيير في المدن والقرى في الفترات السابقة بجرأة حصيلتها، بمالها وما عليها. د تقوية الجبهة الداخلية كما سبق الذكر يجري الاستعداد للانتخابات الجماعية في وقت تعرف فيه قضية الوحدة الترابية والصحراء المغربية تطورات في غاية الخطورة، تقتضي من أحزابنا السياسية أن تعمل على أن يخرج المغاربة من الاستحقاقات المقبلة أكثر قوة وصلابة، وذلك بالمساهمة في إفراز مجالس مدن ومقاطعات ومكاتب جماعات قروية وحضرية ذات مصداقية قادرة على القيام والنهوض بمسؤولياتها، وتقوية الجبهة المغربية الداخلية، وإعطاء الدرس لأعداء الوطن بأن المغرب القوي بوحدته، الصلب بديمقراطيته، قادر على أن يفشل كل خطط ومناورات أعداء مصالح المغرب وسيادته على كامل أراضيه. خاتمة إن طريقة خوض الأحزاب للانتخابات الجماعية المقبلة، ونوعية تعاطي الإدارة والسلطة وكيفية تدبيرها، وكذلك مدى تفاعل المواطنين المغاربة معها ومشاركتهم فيها، أمر حاسم في مستقبل تدبير وتسيير الشأن العام والديمقراطية في المغرب. فهل سيكونون عند مستوى التحدي؟ ذلك ما سيظهر بعد أسبوعين. محمد عيادي