تكتسي الانتخابات الجماعية المقبلة أهمية استثنائية في تطور المسار الديموقراطي بالبلاد، كما تكمن خلفها رهانات وحسابات سياسية تجعلها لا تقل أهمية عن الانتخابات التشريعية لشتنبر 2002، وهو ما كشفته مختلف القرارات التي صدرت طيلة عملية التحضير للانتخابات المحلية، بدءا من تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة، وانتهاءا بالإعلان عن تواريخ إجراء مختلف استحقاقات هذه الانتخابات، مرورا بمراجعة الميثاق الجماعي، والمراجعة الاستثنائية للوائح الانتخابية، وتحديد التقسيم الجماعي، والمشاورات السياسية حول مسار الإعداد للانتخابات. هذا إلى جانب ردود الفعل الحكومية على تجدد الاتهامات بتزوير الانتخابات النيابية السابقة، والحديث الإعلامي حول الاكتساح الإسلامي المنتظر، والاستعدادات الانتخابية الجارية من طرفهم، بل والقيام بعمليات استقصاء لتوجهات الناخبين ومدى احتمالات تكرر نتائج انتخابات 27 شتنبر في الانتخابات المحلية المقبلة. ويمكن القول إن مختلف التطورات الآنفة كشفت عن تفاعل ثلاث رهانات كبرى: أولا دعم التجربة الحكومية الراهنة، وامتصاص النقد المتصاعد لها، ولو اقتضى الأمر إجراء تعديل حكومي فيها، وثانيا تعزيز المصداقية الخارجية للعملية السياسية الانتخابية الجارية بالبلاد وصيانة الموقف الغربي الإيجابي منها، ثم ثالثا التمكن من تطويق التعاظم المتزايد للحركة الإسلامية في المجال الانتخابي، لاسيما وأن الانتخابات المقبلة تطرح احتمالات تحمل الإسلاميين لمسؤوليات تدبير الشأن العام في عدد من المدن الرئيسية بالبلاد. وهي رهانات أثرت سلبا وبشكل حاد على البعد الديموقراطي للانتخابات الجماعية، أي في علاقتها برهان النهوض بالديموقراطية المحلية، والذي من المفروض أن يمثل الرهان المركزي لهذه الانتخابات. المؤشرات عن ذلك متعددة ويمكن رصدها في المحاور التالية: أ- قصور المراجعة الاستثنائية للوائح الناخبين لقد جرى الاكتفاء بمجرد مراجعة استثنائية للوائح الانتخابية، والتي نظمها القانون رقم 02.05 المصادق عليه في الدورة الاستثنائية لفبراير2003، في حين أن المطلوب هو الإقدام على مراجعة شاملة تمكن من وضع لوائح جديدة بشكل كلي وعدم الاستمرار في العمل باللوائح الحالية كأرضية، لاسيما وأن هناك تغيرات ديموغرافية واجتماعية وازنة عرفها النسيج الاجتماعي المغربي في السنوات العشر الأخيرة، تفرض مراجعة كلية للوائح الناخبين، بما يمكن من التطهير الشامل لها من حالات التكرار وتسجيل المتوفين، وتكوين صورة دقيقة عن القاعدة الانتخابية، والتي عرفت تحولا دالا مع تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة. ولقد تم تجاوز هذا المطلب في إبان الانتخابات التشريعية السابقة بداع من ضيق الوقت، وتم اللجوء لنفس العذر في الانتخابات الجماعية، هذا بالرغم من تأجيل موعد إجرائها بثلاثة أشهر كاملة، مما يتيح الوقت الكافي للقيام بالمراجعة الشاملة. والملاحظ أن الجهات المعنية لا تقدم تبريرات معقولة وواضحة، مما يترك مجال التفسير مفتوحا أمام التخمينات والتكهنات، بين رأي ينطلق من الخوف من زعزعة التوازنات الانتخابية لعدد من المناطق ذات الارتباط بالسلطة، ورأي يعلن وجود تخوف من انفضاح هشاشة المصداقية الشعبية للمسلسلات الانتخابية، بفعل تنامي نزوعات اللامبالاة والتجاهل لها في صفوف المجتمع، وهو ما كشفت عنه نتائج المشاركة في الانتخابات التشريعية السابقة، حيث شارك في التصويت 7 ملايين و165 ألف و206 صوت من أصل 13 مليون و884 ألف و467 صوت أي ما نسبته 51.61 في المائة مع الأخذ بعين الاعتبار أن نسبة الأوراق الملغاة بلغت أزيد من 15 في المائة، ثم ازداد اتضاحا مع ضعف الاستجابة للتسجيل في لوائح الناخبين والتي لم تتجاوز سقف إضافة حوالي المليون ناخب، رغم أن أعداد الشباب المؤهلين للتصويت بفعل تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة وحدهم يفوق المليوني شاب، أي أن حملة المراجعة لم تستطع تعبئة سوى نصف الشباب المفترض إضافتهم لقوائم الناخبين هذا دون إغفال بقية عموم المواطنين الذين بلغوا سن التصويت القديم . ب-تأجيل موعد الانتخابات الجماعية تم الإقدام على تأجيل موعد إجراء الانتخابات الجماعية من 13 يونيو إلى 12 شتنبر2003، وعملية التأجيل التي قدمها البعض على أنها مجرد عملية إعادة ترتيب لمواعيد المحطات الانتخابية المرتبطة بالغرف المهنية وانتخابات اللجان الثنائية وممثلي المأجورين، بما يجعل موعد الانتخابات الجماعية المحلية يصبح المحطة الثانية بعد انتخابات الغرف المهنية في 25 يوليوز2003، لتليها الانتخابات الجماعية ومجالس المقاطعات في 12 شتنبر2003، وبعدها انتخابات اللجان الثنائية وممثلي المأجورين في الفترة الممتدة من 10 إلى 19 شتنبر2003، لتختم بعملية تجديد ثلث مجلس المستشارين قبل افتتاح الدورة التشريعية لأكتوبر2003. والحاصل أن الأمر تعبير عن إرادة صريحة في التأجيل مادامت الولاية القانونية للمجلس الجماعية ستنتهي في 13 يونيو 2003، وهو أمر كان مثارا من طرف عدد من القيادات الحزبية منذ مدة طويلة، إلا أن الاستقبال الذي تم من طرف مستشاري الملك عبدالعزيز مزيان بلفقيه ومحمد معتصم في النصف الأول من فبراير الماضي لعموم القيادات الحزبية عبر عن الحسم الواضح لصالح احترام تاريخ إجراء الاستحقاقات الانتخابية، مما حتم على عموم الأطراف تركيز جهودها لصالح الاستعداد لهذه الاستحقاقات في تاريخها المحدد، ليقع بعد ذلك تداول فكرة التأجيل واستغلال تداعيات الحرب على العراق على المستوى الشعبي من أجل التسويق للفكرة وحشد الدعم لها، وهو ما تم الحسم فيه في اجتماع المجلس الحكومي الأخير، دون أن يخلف ذلك أدنى انتقاد أو احتجاج قوي من لدن القوى السياسية بالبلاد، وهو ما كشف عن تواطؤ شبه عام على هذا الموقف، والذي سيمثل سابقة سياسية غير سليمة. تحيل التحليلات المتداولة على سلسلة من الأسباب والدوافع التي حكمت هذا القرار، منها: - ضعف الاستعدادات الحزبية للتكيف مع التغيرات التي عرفتها المنظومة الانتخابية القانونية، لاسيما في المناطق الحضرية التي يفوق عدد سكانها 25ألف نسمة بفعل تطبيق نظام الاقتراع باللائحة فيها، وعدم اتضاح خريطة التحالفات الحزبية مما يحتم ترك المجال للقوى الحزبية من أجل بلورة خطط موحدة للدخول للانتخابات المقبلة، وهو مطلب عززه تسارع وتيرة اللقاءات التنسيقية سواء على مستوى أحزاب الكتلة (خصوصا أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية)، أو على مستوى العمل التنسيقي بين قوى اليسار المعارضة والملتفة حول حزب اليسار الاشتراكي الموحد أو على مستوى الأحزاب الحركية الثلاث (الحركة الشعبية والحركة الوطنية الشعبية والاتحاد الديمقراطي)، وهي تحالفات تراهن عدد من الجهات على نجاحها من أجل التمكن من موازنة النفوذ الانتخابي للإسلاميين، من ناحية أولى. - التعثر الكبير الذي عرفته عموم التحضيرات الحكومية للانتخابات، ولعل من المثير أن مشروع التقسيم الجماعي الجديد لم يحسم بعد، فضلا عن الاضطرار لعقد دورة استثنائية للبرلمان من أجل حسم مشاريع القوانين المتعلقة بالانتخابات( القانون رقم 01.03 القاضي بتغيير القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي، القانون رقم 02.52 المتعلق بتنظيم مراجعة استثنائية للوائح الانتخابية، القانون رقم 02.64 القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم9.97 المتعلق بمدونة الانتخابات، ومشروع القانون التنظيمي رقم 02.65 القضي بتغيير وتتميم القانون التنظيمي رقم 32.97 المتعلق بمجلس المستشارين)، مما أربك مجمل الاستعدادات للانتخابات وجعل حظوظ المشاركة الشعبية ضعيفة من ناحية ثانية. - هزال الأداء الحكومي والذي عجز عن تقديم نتائج ملموسة في الأولويات المعلنة في التصريح الحكومي لاسيما في قضايا التشغيل والاستثمار والتعليم وباقي الإصلاحات الموعودة في القضاء والإعلام والإدارة، وهو ما جعل عددا من الأطراف المشاركة في الحكومة تعبر عن نقدها للأداء الحكومي كما شجع الحديث عن مشروع تعديل حكومي لتجاوز ضعف أداء عدد من الوزراء، وفي الوقت نفسه طرح ضرورة منح فرصة إضافية للحكومة تعلن من خلالها عن نفس جديد للتغيير، لاسيما وأن بعض التوجهات تخوفت من أن يحصد الإسلاميون ثمار التصويت العقابي بفعل عدم مشاركتهم في الحكومة من جهة والظروف المساعدة لهم بعد الحرب على العراق من جهة أخرى . الخلاصة هي أن قرار التأجيل كشف عن بنية حزبية غير مؤهلة لاجتياز الاستحقاقات الانتخابية من جهة أولى، وحالة متردية لجهاز حكومي متوجس من نتائج الانتخابات من جهة ثانية، وسعي محموم لجهات متنفذة لتقوية الآليات القانونية الكفيلة بالحيلولة دون اكتساح الإسلاميين للانتخابات، وأخذ الوقت الكافي لتأطير توازنات المشهد الحزبي في علاقتها بالانتخابات من جهة ثالثة. ج-محدودية الإصلاحات القانونية وقصورها عن تأهيل الإطار المنظم للعمليات الانتخابية المحلية لقد شكل المحور القانوني مطلبا أساسيا للنهوض بالديموقراطية المحلية، ومعالجة الاختلالات الموجودة فيها لاسيما مع تقادم الإطار القانوني المنظم لعمل الجماعات المحلية، وارتهانه لحسابات وإشكالات مرحلة سياسية متجاوزة( صدر الظهير المنظم للجماعات المحلية في 30 شتنبر 1976 )، واعتبر ذلك أحد الأوراش الموعودة في مشروع الانتقال الديموقراطي بالبلاد، إلا أن نتائج هذا الورش لم تكن في مستوى المنتظر بل كانت أقل من نتائج الإصلاحات التي تمت على مستوى الانتخابات التشريعية، وهو ما برز بوضوح في مجموعة من النقط منها: - اعتماد نمط اقتراع مختلط يرتكز على نظام الاقتراع باللائحة في المناطق التي يتجاوز عدد سكانها 25 ألف نسمة، والاقتراع الفردي في المناطق التي يقل عدد سكانها عن 25 ألف نسمة، مما شكل تراجعا عن التحول الذي حصل في الانتخابات التشريعية والتي اعتمدت نمط اقتراع موحد، ولم تطرح آنذاك الإشكالات التي تطرحها وزارة الداخلية حاليا حول طبيعة المناطق القروية و قوة علاقة السكان بالأفراد بها، وانتشار الأمية فيها والخوف من ارتفاع نسبة الأوراق الملغاة بها، ولقد قدم بعض النواب في مناقشات لجنة الداخلية بمجلس النواب اعتراضا قويا عبر الإحالة على نموذجي الدارالبيضاء و سوس -ماسة- درعة ففي الأولى والتي تعد حضرية كانت نسبة المشاركة في التصويت 47 في المائة ونسبة البطائق الملغاة 22 في المائة، أما في الثانية والتي يغلب عليها الطابع القروي فقد بلغت نسبة المشاركة 51 في المائة أما البطائق الملغاة فقد بلغت 11 في المائة فقط، ولو أخذنا بعين الاعتبار حجم الأصوات الملغاة في كلا المنطقتين لوجدنا أن الفرق سيكون كبيرا، وإذا أضفنا لذلك أن الأساس الإحصائي المعتمد هو إحصاء سنة 1994 فإن الإشكال يزداد استفحالا رغم إدخال التعديلات الإحصائية التقنية. المؤكد أن الاقتراع باللائحة يحد من دور المال كما يقلص هامش السلطة في إسقاط الغضوب عليهم ويزيد من حظوظ التحكم في نتائج العملية الانتخابية إن على المستوى المحلي أو على المستوى الوطني بالنظر لكون عدد الجماعات التي سيعتمد فيها الاقتراع الفردي وبالأغلبية النسبية يبلغ 1388 جماعة مقابل 195 جماعة ضمنها 33 قروية هي التي سيعتمد فيها الاقتراع باللائحة وبالتمثيل النسبي وفق قاعدة أكبر بقية. - جعل مجالس المقاطعات ذات وظيفة استشارية مما يحد من إمكانات المساهمة القاعدية في تدبير الشأن العام، لاسيما بعد حذف إمكانية إسقاط رئيس المجلس الجماعي من يد المستشارين والإبقاء على إمكانية العزل بيد سلطة الوصاية، واعتماد بنود في الميثاق الجماعي تتيح للرئيس عقد جلسات سرية لدورات المجلس وطرد مخالفيه من المستشارين بدعوى عرقلة سير الاجتماع. - عدم رفع سقف عتبة نسبة الأصوات حسب ما تقضي المادة 209 المتعلقة بالعتبة في مدونة الانتخابات، حيث رفض مشروع تعديل للفريق النيابي لحرب العدالة والتنمية من أجل اعتماد 5 في المائة في احتساب العتبة المحلية من أجل الحد من تشتت الأصوات وتكوين مجالس متشرذمة والدفع في بناء تحالفات طبيعية، والمساعدة على إعطاء مدلول حقيقي للبرامج الانتخابية للأحزاب المشاركة، حيث اكتفي بنسبة 3 في المائة من الأصوات المعبر عنها، مع اشتراط حصول المرشح المعني أو اللائحة المعنية على عدد من الأصوات يعادل على الأقل خمس أصوات الناخبين المقيدين بالدائرة . - قصر حق المشاركة في العمليات الانتخابية المرتبطة بهيكلة المجلس الجماعي أو الجهة أو مجلس المستشارين في نظام وحدة المدينة على الأعضاء المنتخبين فقط بالمجلس الجماعي وحرمان غيرهم المنتخبين في مجالس المقاطعات( مثلا في الدارالبيضاء يبلغ عدد أعضاء المجلس الجماعي 131 عضوا من أصل 254 مستشارا في مجالس المقاطعات)، دون تقديم مبررات معقولة وواضحة لهذا المبدأ. الملاحظات الأنفة الذكر تكشف عن قصور كبير في توفير الضمانات القانونية الكفيلة بربح رهان الديموقراطية المحلية، وتدشين تجربة جديدة في العمل السياسي المحلي، وهو قصور تفسره غلبة الهواجس السياسية والأمنية على هواجس التنمية المحلية عند الفاعلين في تدبير الانتخابات المقبلة. خلاصة الواقع أن انتخابات شتنبر المقبل محكومة برهانات سياسية غير ديموقراطية، تهدد بحصول انقلاب على مجموع المكتسبات المحققة في المجال الانتخابي، مثلما حصل في الانتخابات التشريعية لنونبر 1997 عندما كانت الخريطة السياسية المنبثقة عنها مغايرة وبكل جذري لنتائج الانتخابات البلدية التي جرت قبلها في يونيو1997 ، لكن مع قلب الصورة حاليا. مصطفى الخلفي