أثارت قرارات التعيين الواسعة في وزارة الداخلية ليوم الجمعة الماضية تساؤلات كثيرة حول دلالاتها الأمنية والسياسية وانعكاساتها المستقبلية على الحياة الوطنية، باعتبارها مدخلا لهيكلة شاملة للمجال الأمني تستدرك الاختلالات التي كشفت عنها اعتداءات16ماي بالدارالبيضاء، وقد خلف الحدث الذي كان منتظرا منذ مدة، ردود فعل متفاوتة، وحدث من هذا النوع يقتضي تعاطيا شموليا ومتوازنا يضع الحدث في سياق التطورات الأخيرة التي عرفتها بلادنا والتحديات التي تعرفها والاستحقاقات التي تستعد لها، وتجاوز التعاطي معه بنظرة جزئية أو بقراءات سياسية ضيقة. فما طبيعة ودلالات هذه التعيينات؟ وأي انعكاس لها على التطور السياسي بالبلاد؟ طبيعة التعيينات اتسمت التعيينات التي أعلن عنها يوم الجمعة الماضية بالشمولية لقطاعات مفصلية في جهاز وزارة الداخلية، وتكشف عن رؤية لإحداث مراجعة في سير عمل الوزارة تستجيب لحاجة ملحة في النهوض بفعاليتها، ورغم الاستقطاب الإعلامي الذي عرفه حدث تعيين مدير الإدارة العامة للأمن الوطني الجنرال حميدو لعنيكري فإن التعيينات الأخرى لا تقل أهمية ودلالة بخصوص طبيعة التوجه المستقبلي لتدبير موقع وزارة الداخلية في العمل التنفيذي الحكومي، ذلك أن عمل وزارة الداخلية يرتكز على أربع مفاصل، أولا الإدارة العامة (الكتابة العامة والمصالح الخارجية، وتتضمن عددا من المديريات كالمديرية العامة للجماعات المحلية، ومديرية تكوين الأطر الإدارية والتقنية، ومديرية تنسيق الشؤون الاقتصادية، ومديرية الوكالات والمصالح ذات الامتياز، ومديرية الشؤون القروية، ومديرية الوقاية المدنية ومديرية الإنعاش الوطني...) ويتجاوز عدد موظفيها 30ألف موظف، وتمثل فاعلا أساسيا في بلورة وتنفيذ مجمل برامج العمل الحكومي ذات العلاقة بالتنمية، فضلا عن مسؤولياتها الأمنية، وثانيا هناك الإدارة العامة للأمن الوطني والتي يناهز عدد موظفيها 44ألف موظف، وبموازاتها هناك ثالثا المفتشية العامة للقوات المساعدة والتي يقارب عدد موظفيها عدد موظفي الإدارة العامة للأمن الوطني، ثم رابعا هناك المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، والتي لا يتجاوز عدد موظفيها الرسميين 3آلاف موظف. ويتجلى الطابع الشمولي في كون هذه التعيينات همت مجمل القطاعات الأساسية وخاصة الإدارة العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ومديرية الجماعات المحلية فضلا عن عدد من المديرين في مجالات الشؤون العامة والتعاون الدولي والانتخابات والولاة، حيث عين الجنرال حميدو لعنيكري مديراً عاماً للإدارة العامة للأمن الوطني خلفا لعبد الحفيظ بنهاشم ، وعين أحمد حراري مديرا عاما للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والذي كان يشغل منصب المسؤول السابق على مستوى جهة الدارالبيضاء في إطار مديرية مراقبة التراب الوطني، كما عين عدد من العمال والمديرين بالإدارة المركزية بوزارة الداخلية، وتمثل ذلك في كل من نور الدين بن ابراهيم الذي عين عاملا مديرا للشؤون العامة بوزارة الداخلية والشرقي ضريص عاملا مديرا لشؤون الولاة وإبراهيم بوفوس عاملا مديرا لمديرية الانتخابات وإبراهيم الزروالي عاملا مديرا للتعاون الدولي وإدريس الجواهري ورشيد الركيبي عاملين ملحقين بوزارة الداخلي، وكريم المنصوري كمدير جديد لصندوق التجهيز الجماعي ، كما تم تعيين عدد من المديرين بالمديرية العامة للجماعات المحلية، ويتعلق الأمر بزروق مديرة للشؤون القانونية والتعاون والتوثيق، ودينيا مديرا للماء والتطهير، والكزار مديرا للمالية المحلية، والشويحات مديرا للأملاك، والحوضي مديرا للتخطيط والتجهيز،وأوزكان مديرا للتقنين والحريات العامة بوزارة الداخلية وأبو طيب مديرا للشؤون القروية و خيضري مديرا إداريا وماليا. أية دلالات؟ يدفع الطابع الشمولي المثار آنفا للوقوف على خلاصة أساسية، تتعلق بالنقاش في موضوع المفهوم الجديد للسلطة، في ارتباطه مع ثلاث قضايا طرحتها هذه التعيينات، وهي الأمن والانتخابات والتنمية المحلية، وتكشف بالتالي عن ثلاثة رهانات تعزز من موقع وزارة الداخلية في الحياة السياسية الوطنية، وتعمل على إعادة تعريف دورها في الاستحقاقات الأمنية والانتخابية والتنموية للبلاد. 1 الدلالة الأمنية: لقد تم تداول قراءات متعددة في هذا المستوى ارتكزت بالأساس على أن التغييرات التي تمت تستبطن إرادة في إعادة هيكلة المشهد الأمني ودعم السياسة الاستخبارية التي عرفها المغرب منذ مدة ليست باليسيرة، سواء على مستوى الدارالبيضاء أو على المستوى الوطني، وتجلى ذلك بوضوح في خطاب وزير الداخلية أثناء تنصيب المدير العام الجديد للأمن الوطني، حيث تطرق لطبيعة المقاربة الشمولية التي ينهجها المغرب في مكافحة الإرهاب من حيث كونها مقاربة ذات بعد سياسي واقتصادي واجتماعي أمني في الوقت ذاته وأن دور قوات الأمن زاد أهمية بعد الأحداث الأليمة التي عرفها المغرب في 16 ماي الماضي، كما أشاد بكفاءة المدير الجديد وخبراته، ونذكر هنا أن المدير الجديد سبق أن شغل منصب نائب القائد العام للدرك الملكي، ثم شغل منصب نائب المدير العام لإدارة الدراسات والتوثيق (والتي تعد بمثابة مخابرات خارجية) منذ منتصف التسعينيات ثم عين منذ خريف 1999 مديرا عاما لإدارة مراقبة التراب الوطني(والتي تعد بمثابة مخابرات داخلية)، ونفس الأمر يطرح بخصوص المدير الجديد لهذه الإدارة الأخيرة والذي يعتبر أحد الذين اشتغلوا بفعالية إلى جانب المدير السابق لإدارة مراقبة التراب الوطني، فضلا عن التعيين الثالث والمتمثل في تعيين المسؤول الأمني السابق في نفس الإدارة السيد نور الدين بن ابراهيم في منصب مدير الشؤون العامة في وزارة الداخلية، والتي تطال مهامها الجوانب الاستخبارية والأمنية، وهي ثلاثة تعيينات تحيل على خلاصة أساسية وهي دعم السياسة الأمنية التي ارتبطت بهؤلاء المسؤولين، وخاصة بعد اعتداءات 16ماي من حيث ما اعتبر كفاءة في كشف الشبكات المتورطة ومحاصرتها واستباق وقوع عمليات أخرى، بل ذهبت يومية الشرق الأوسط في عددها ليوم 26يوليوزالجاري إلى القول بأن المراقبين يرون في هذه التغييرات عقابا لجهاز الأمن الوطني تحت الإدارة السابقة لعبد الحفيظ بنهاشم الذي لم ينجح في رصد تحركات مدبري أحداث 16 ماي التي أودت بحياة 44 شخصا قبل وقوعها، وحتى بعد أن وقعت تلك الأحداث بدأ تصرف هذا الجهاز وكأنه فوجئ بها. وكانت أول إشارة إلى إن هذا الجهاز لم يقم بدوره كما يطلب منه ذلك واجبه، وقد وردت بشكل ضمني في أول خطاب ألقاه العاهل المغربي عقب أحداث 16 مايو، فقد كان لافتا للانتباه عدم الإشارة إلى الجهاز ضمن أسماء الأجهزة والإدارات الأخرى التي أثنى العاهل المغربي على دورها في احتواء تداعيات تلك الأحداث الدامية، وبموازاة ذلك التحليل أحالت يومية الحياة اللندنية على مصادر ديبلوماسية بقولها بأن هذا التعيين دعم للتيار الذي يتزعمه(أي المدير الجديد للإدارة العامة للأمن الوطني) والذي ينادي بمحاربة الإرهاب والتشدد في مواجهة التنظيمات المتطرفة،مضيفة أن مسؤولين اعتبروا أن مهمته الراهنة تكمن في معاودة ترتيب البيت الأمني على خلفية التنسيق بين الأجهزة، ويمكن ربط هذا الأمر بمعطى ذكر في سياق التغطيات الإعلامية للحدث وتمثل في ما اعتبر مبادرة استباقية من طرف الجنرال حميدو لعنيكري حول التفجيرات حيث دعا في شهر مارس الماضي إلى اجتماع طارئ لكبار رؤساء الأجهزة الأمنية المغربية، وكان على رأس جدول هذا الاجتماع الطارئ نقطة واحدة، تتعلق بمعلومات مؤكدة حصل عليها تقول إن هناك خطرا وشيكا سيحدث بالدارالبيضاء. وحسب ذات المعلومات كان متوقعا حدوث عمليات كبيرة بإحدى المركبات السينمائية بالدارالبيضاء، وأدى التدخل المباشر إلى تجنب وقوع الكارثة، حسب ما أفادت به يومية الشرق الأوسط في العدد المثار آنفا. وتقدم هذه القراءة خلفية للتدليل على أن التعيينات التي تمت، تمثل منعطفا في مسار وزارة الداخلية، تعيد الربط بين جهازي الأمن الوطني وإدارة مراقبة التراب الوطني، الأول من حيث إمكاناته التنفيذية والثاني من حيث إمكاناته الاستخبارية، وهو ما أثار تخوفات بعض الجهات الإعلامية التي أحالت على التجاوزات الحقوقية التي عرفها المغرب منذ ربيع ,2002 والربط بينها وبين سلسلة من الأحداث المتزامنة مع التعيينات كانطلاق مسلسل المحاكمات المرتبطة باعتداءات 16ماي الإجرامية، كما ورد في سياق تحليل أسبوعية لوجرنال في عدد ليوم26يوليوز الجاري. 2 الدلالتان الانتخابية والتنموية: لا تقل هاتان الدلالتان أهمية عن الدلالة الأمنية، حيث ترتبطان بالاستعدادات الجارية للانتخابات الجماعية المقبلة عبرتعيين مدير جديد لشؤون الولاة ومدير جديد لمديرية الانتخابات من جهة أولى، وإعطاء دفعة لدور وزارة الداخلية في مشاريع التنمية المحلية، وذلك من خلال تعيين مديرين جدد لكل من صندوق التجهيز الجماعي وإدارة ملفات التعاون الدولي، والشؤون القروية، والماء والتطهير، والمالية المحلية، من جهة ثانية، فضلا عن مديرين آخرين في مجالات إدارية وتدبيرية. ذلك أن الانتخابات الجماعية المقبلة تكتسي أهمية استثنائية في تطور المسار الديموقراطي بالبلاد، حيث تكمن خلفها رهانات وحسابات سياسية تجعلها لا تقل أهمية عن سابقاتها الانتخابات التشريعية ل27شتنبر ,2002 وهو ما كشفته مختلف القرارات التي صدرت طيلة عملية التحضير للانتخابات المحلية، بدءا من تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة، وانتهاءا بالإعلان عن تواريخ إجراء مختلف استحقاقات هذه الانتخابات، مرورا بمراجعة الميثاق الجماعي، والمراجعة الاستثنائية للوائح الانتخابية، وتحديد التقسيم الجماعي، والمشاورات السياسية حول مسار الإعداد للانتخابات، ويمكن القول أن مختلف التطورات الأنفة كشفت عن تفاعل ثلاثة رهانات كبرى، أولا دعم التجربة الحكومية الراهنة، وامتصاص النقد المتصاعد لها، ولو اقتضى الأمر إجراء تعديل حكومي فيها، وثانيا تعزيز المصداقية الخارجية للعملية السياسية الانتخابية الجارية بالبلاد وصيانة الموقف الغربي الإيجابي منها، ووضع الطريق للارتقاء بما يسمى بالديموقراطية المحلية ومواكبة تطبيق الميثاق الجماعي الجديد والذي تمت مراجعته بعد أزيد من ربع قرن على صدور الظهير المنظم للجماعات المحلية في 30 شتنبر ,1976 فضلا عن كيفية التعامل مع حجم المشاركة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية والتي تثار حولها توجسات من الاكتساح في المدن الرئيسية رغم أن الحزب أعلن عزمه عن قرار ترشيد مشاركته في الانتخابات الجماعية، في المجلس الوطني الأخير له بداية شهر يوليوز الجاري. أما على الصعيد التنموي فوزارة الداخلية بمختلف أجهزتها مرتبطة بمشاريع مختلف في هذا المجال سواء من خلال مدرة الإنعاش الوطني أو من خلال مشروع التنمية الاقتصادية القروية للريف الغربي، ومشاريع الكهربة القروية الشاملة أومن خلال الاختصاصات الممنوحة للولاة في مجال الاستثمار أو من خلال المجال السياحي، وهي كلها ملفات ذات وزن في أولويات العمل الحكومي، والتي جاءت عدد من التعيينات الأخيرة لتطرح من جديد مسألة تفعيل الاشتغال فيها. خلاصة... تقدم الحيثيات التي ارتبطت بمجمل التعيينات عن وجود إرادة لإعادة هيكلة المجال الأمني ومراجعة كيفية تدبيره والعلاقة بين وحداته وأجهزته، وعن سعي لاستدراك الاختلالات التي يعرفها هذا المجال. مصطفى الخلفي