تتعالى نبرة الجدل في فرنسا حول الهجرة والمهاجرين، فما تكاد تهدأ الضجة حتى تتفجر على نحو أقوى. فبعد الفضيحة التي أثارتها سخرية وزير الداخلية بريس ارتفو من العرب، تعالت أصوات حكومية تدعو لإصدار تشريعات جديدة تحرم ارتداء البرقع والحجاب، وأخيراً هاهو الحزب الحاكم (التجمع من أجل الحركة الشعبية)، يختار توقيتاً غير مناسب من أجل تطبيق قانون حول الأجانب، سبق أن أقره البرلمان ومجلس الشيوخ الفرنسيان في يوليو/تموز 2007. إلا انه جرى تجميده تحت ضغط ردود الفعل الواسعة، التي ثارت ضده واعتبرته غير اخلاقي. "" يقضي القانون بإخضاع المهاجرين الاجانب لفحص الحمض النووي في حالة تقديم طلب للم الشمل العائلي، وذلك تحت حجة التأكد من القرابة، في اطار مواجهة عمليات التحايل والغش التي يمارسها البعض لتسهيل استقدام مهاجرين غير شرعيين. وقد أثار هذا المشروع ضجة في حينه، ووقفت في وجهه جبهة واسعة من الاوساط الدينية والثقافية، وبعض الاحزاب السياسية، بما فيها شخصيات من الحزب الحاكم، وذلك من منطلقات مختلفة أجمعت على تحريم الأمر. لم يكن سهلا في البداية معارضة المشروع، في وجه الحجة الأساسية التي ساقتها السلطات لتبرير الاجراء، وهي إن اثبات صلة الدم، هي الوسيلة المثلى لقطع الطريق على الهجرة السرية، إلا ان رفض مجلس الشيوخ القانون في القراءة الأولى اثار الرأي العام ضد التشريع، والذي تحرك بسرعة، الأمر الذي جعل الحكومة تدخل تعديلات مست جوهر المشروع، ومع ذلك بقي نافرا وذا حمولة عنصرية عالية. الجديد في الأمر هو ان عددا من برلمانيي الحزب الحاكم طلبوا من وزير الهجرة والهوية الوطنية اريك بيسون نهاية الاسبوع الماضي، التوقيع على المشروع ليصبح ساري المفعول، لكنه رفض، الأمر الذي دفع البعض من هؤلاء النواب إلى فتح النار عليه. وجاء في طليعة المهاجمين رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم جان فرانسو كوبيه، الذي اتهم بيسون بأنه يحابي حزبه القديم (الاشتراكي)، وكانت المفاجأة ان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أيد موقف الوزير، واعتبر ان تطبيق القانون عديم الجدوى ولن يفيد في شيء، رغم انه هو نفسه الذي أوحى به قبل عامين. لم يفلح تدخل ساركوزي في تخفيف التراشق الكلامي والحد من غلواء المتحمسين للقانون، الذين يواصلون نقاشا في البرلمان لتشكيل قوة ضغط جديدة. وترى اوساط في المعارضة الفرنسية ان موقف ساركوزي ليس نابعا من تعديل جوهري في وجهة نظره تجاه المسألة، بقدر ما أملته سلسلة الفضائح التي تفجرت خلال الايام الاخيرة. بدورهم يعمل المعارضون للمشروع على تشكيل جبهة واسعة ضده، وينطلقون من اعتبارات اخلاقية في المقام الأول، وساقوا مجموعة من الحجج التي تتعلق بالمخاطر المترتبة على تحليل الحمض النووي، والتي يمكن ان تكشف عن مفاجآت غير مرغوبة في ما يخص البنيان العائلي للأسرة والأبوة. إلى ذلك يبدو الأمر عاديا اذا تم النظر اليه من الناحية الاجرائية، لاسيما ان فرنسا ليست البلد الأوروبي الأول ولا الأخير، الذي يعمل على تشريع هذا الاسلوب من أجل ضبط ومكافحة الهجرة غير المشروعة، لكنه خطير في بعديه الأخلاقي والسياسي،وتطبيقاته التي سوف تتجاوز المهاجرين الاجانب. . اللافت ان ردود فعل شخصيات من اليمين لم تقل حدة عنها لدى شخصيات اليسار، فرئيس الوزراء السابق ادوارد بالادور القريب جدا من ساركوزي الذي كلفه رئاسة لجنة لمراجعة الدستور، سجل موقفاً متميزاً، وقال “لوكنت برلمانيا لصوت ضد هذا القانون لأسباب اخلاقية”. أما البعد السياسي فهو يتركز في قرار فرنسا بأن تحديد الهوية ينطلق من عامل الدم، وهذا أمر لا يتعارض فقط مع الدستور الفرنسي، وإنما يتجاوز جانبه الاجرائي ليذهب نحو العنصرية مباشرة، حيث لا قرابة هنا غير قرابة الدم. بل تبدو مسألة البرهنة على هذا التوجه وكأنها تحصيل حاصل وعلامة مسجلة لفلسفة وعقلية الوزارة التي تقف وراء المشروع، وهي “وزارة الهجرة والهوية الوطنية”. وهناك جانب آخر للقانون يمس على نحو غير مباشر الحريات الفردية في فرنسا، من خلال بعده الرمزي القائم على قرابة الدم، ولكنه ايضا يثير الشبهة في السجلات المدنية لبلدان الهجرة، الأمر الذي قد يدفع هذه البلدان الى تطبيق اجراءات مشابهة على الفرنسيين طالبي التأشيرة. بالاضافة الى ذلك بات من المؤكد ان تطبيقات القانون مطاطة الى حد كبير، وسوف تمتد لتشمل الاجانب من طالبي الاقامة واللجوء السياسي، وحتى التأشيرة.