يلاحظ متتبعو صحافتنا اليومية والأسبوعية تأثيرها الملحوظ على عدة واجهات في الحياة السياسية و المجتمعية المغربية، وخلال أكثر من مناسبة تم تسجيل تفاعلها المعقد مع الأنشطة السياسية الجارية.. فهذا رغم المحدودية العددية للقراء، ونسبية انتشارها، حيث تذهب بعض التقديرات الجدية، و هي أكثر من تقديرات، نظرا لصدورها من قلب دور التوزيع، أن عدد كل الجرائد مجتمعة لا تتجاوز مائتي قارئ، يشتري جريدته مع إمكانية استفادة ما يقارب سبعمائة قارئ لا يشترون بالضرورة صحيفاتهم و يتوالون عليها.. لو تقاطعت هذه سبعمائة نافذ إلى الصحافة مع ما يحتويه الحقل السياسي من معنيين بالسياسة، لو تطابقت الأعداد، و ظهر أنها تشكل نفس الفئات، إذ ذلك أمكننا ذلك أن نرتاح للدرجة المحترمة للتسيس التي بلغها مجتمعنا. لكن الخوف، كل الخوف، أننا بعيدين عن ذلك. "" ورغم الضعف الذي يطبع قدرة الصحافة المغربية على تغطية مهنية للحقل السياسي خبرا وتحليلا، و كذلك رغم العيوب التي تعتري الاستجابة المختصة للحاجة الإعلامية تجاه طبقتنا السياسية و مواطنينا عامة. ورغم ضعف المستوى التحليلي لمجمل مضامينها ورغم بروز وارتقاء بعض الأقلام في الداخل و أحيانا في الخارج، رغم أن كل هذا فإن الفعل الصحافي يكتسي اليوم أهمية خاصة في الساحة السياسية، فإنه يشكل أكثر فعل في حد ذاته من تشويش بالنسبة لعدد من الفاعلين إنه ينم عن فعل سياسي في حد ذاته و يتجلى هذا التأثير في عدة مظاهر فيه ما يمكن اعتباره ايجابي و ما يكن اعتباره سلبي، ولكنه في كل الأحوال ، فإنه بات يغذي تهافتا على بناء مواقع منبرية سواء من طرف الدولة أو من طرف الفاعلين.. بدون أن يعني ذلك أن عدد العناوين تعدد تحريري فعلي كما أنه تشكل سوق إعلامي بموازاة مع سوق الإعلانات بمناصبهم للتشغيل و منهجيات تدبيرهم وإشكالاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن المثير يكمن في هذا الخلط بين السياسي والصحافي، والكثير من هذا كونه يطرح كشيء عادي و طبيعي، عن وعي أو عن غير وعي، و ذلك عبر خطاب متكامل في الموضوع، يتشكل من عدة مفاصيل. تؤكد هذه الرؤية عزمها على المساهمة في صيرورات الانتقال الديمقراطي وترى نفسها كإحدى تلك قوى الدفع التي تسهل مخاض الانتقال الذي قد يبدو في رأيها في كثير من الأحيان متعثرا.. والكثير من تلك الصحافة تدافع عن حقها في تركيز قيم التحديث والدمقرطة وإقرار التعددية.. البعض يربط بين هذه الاهتمامات و فن إدارة الحوار بين كل أطياف المشهد السياسي والفكري والإيديولوجي، وأطراف الصراع الاجتماعي والاختلاف الثقافي..: أقل ما يمكن أن نقوله هو أن هذا الجانب من البرنامج طموح وواسع و ثقيل... بعض تلك الصحافة تذهب إلى حد طرح على نفسها مواكبة التحولات العميقة التي تمس بنيات المجتمع المغربي في صيرورتها المختلفة، و تفاعلاتها في السياسات العمومية و في المشاريع الإصلاحية، والمساهمة في تعرية الاجتماعي متقمصة دور الباحث السوسيولوجي وعالم السياسة، بل ومواقع المصلحين، بالإضافة لكل الوظائف المنبرية التي تقوم بها في شتى المجالات. كما أنها تحدد لنفسها مهمة مراقبة التحولات الجيوستراتيجية وتتبع العلاقات الدولية الحالية وأجندات القوى العظمى القائدة والصاعدة، والمواقع العربية والإسلامية، بما فيها الأوضاع الأقليمية المغاربية.. بدون إغفال القضية الوطنية وتدبير سياساتنا الخارجية... كذلك لا تتردد هذه الصحافة لتحديد مهمة إضافية لنفسها وهي دعم المجتمع المدني عن طريق تغطية نشاطاته و التعريف بمجالات اشتغاله.. هكذا نرى أن آفاق التدخل التي تحددها الصحافة اليوم لنفسها واسعة وفيها عدة مجالات و تخصصات: للاستراتيجة والثقافة العميقة، للسياسة للقضايا الاجتماعية.. إن المشكل يكمن في صبغة التدخل الصحافي، تارة يأخذ طابعا أكاديميا ومرات أخرى يصبح الصحافي استراتيجي، أو منشط ثقافي والجامع خاصة عندما يسلط الضوء على قضايا و موضوعات قديمة (القضاء المستقل، محاربة الرشوة، الهوية وحوار الثقافات) أو جديدة نسبيا (كإدماج المرأة في التنمية، البيئة، الطفل، الحكم الجيد، العولمة و آثارها، اقتصاد السوق، التكافل الاجتماعي...) كل هذه العناصر تشكل ملامح حركية نشيطة جدا وغير معهودة للصحفي "الجديد" كفاعل "نضالي" متعدد الأبعاد و الأكاديمي المختص في أكثر من مجال المعني بكافة العلوم الدقيقة والأخرى أو الوسيط في النزاعات ذات الطبيعة المختلفة، أو المنشط الثقافي المستفز، الموسوعي... و تضع الممارسة الصحافية نفسها في مفترق طرق تخصصات تعني كافة العلوم بما فيها، الاجتماعية، الإستراتيجية، السوسيولوجية، السياسة النظرية والعملية، الثقافية... لن تصف هذه الممارسات بأنها تخلط بين مجالات و تخصصات جد مختلفة، أكثر ما يمكن أن تتحمل مجموعة من الصحافيين. حتى عندنا تتوفر على متعاونين... لكن هذا التعدد الذي قد تفرضه عوامل عديدة يطرح مجموعة من الأسئلة: هل تملأ هذه الصحافة فراغا تكون قد تركته قوى معارضة ولجت في نهاية الأمر إلى دوائر الحكم، أو بالتدقيق إلى مستويات تنفيذية، أو جيوب داخلها...؟ هل الانهاك الذي أصبحت تعيشه القوى السياسية جعل صعبا بالنسبة للنمط السياسي التقليدي الذي يمثله إنتاج إعلام (الإعلام الحزبي) بالقيام بالأدوار التي تتطلبها المرحلة...؟ هل يعبر كل ذلك عن إعادة هيكلة الحقل السياسي... يبرز بشكل أفضل الأدوار الجديدة التي تجسدها ما سمي مثلا بالصحافة المستقلة يمكن أن نصفه إعلام الديمقراطية؟ ما مدى مساهمة الإعلام في التغيير السياسي بالمغرب؟ هل يقود الإعلام الحر إلى ديمقراطي أم أنه نتيجة لها؟ هل تعني تعددية الإعلام أنه حتما ديمقراطي ومتى يكون الإعلام خطرا على ديمقراطي هل هناك معايير أخلاقية متفق عليها لتحقيق إعلام ديمقراطي في المغرب؟ ما مدى مهنية التحالف بين المؤسسات الصحفية المناسبة لممارسة الضغط على السلطة؟ إلا أن جدلية المناخ الديمقراطي و حرية الصحافة تنبني على الاستفادة المتبادلة والتفاعل. فصحيح أن الصحافة الحزبية، بالشكل الذي هي موجودة عليه اليوم، لعبت دورا كبيرا في الماضي اعتمادها تغطية الأنشطة الحزبية إلا أن حسها النقدي يصطدم باكراهات المنحى السياسي الذي ينهجه الحزب وارتباطاته وتوجهاته، كذلك لكون هذه الأحزاب و كون الأحزاب تغيرت انتقلت إلى الحكومة، ومشاركتها في جدالات حيث ترد الصحف على بعضها و كأنها تتصارع على أصوات مواقع برلمانية... يمكن قراءة التجربة المغربية على أنها تبين أن جرعات الحرية الممنوحة، المتنازل عنها من طرف السلطة كهبة آتية من أعلى لا تلغي ما يمكن انتزاعه عبر تناقضات ومواجهات وضغوطات وصراعات ونضالات... فهي تجسد فتح مكتسب نهائي مضمون مستقر.. إن أنماط جديدة للرقابة يمكن أن تظهر في أي وقت، كما أن حدود غير منتظرة يمكن أن تبرز كذلك بشكل غير منتظر، عبر مختلف قوانين و تنظيمات تقدم نفسها على أنها وضعت من أجل تطوير العمل الإعلامي، مع أخد بعين الاعتبار كل وجوه العامل الخارجي.. ففضلا على انتشار لهجة ولغة ومواضيع جديدة وغير معهودة حول مختلف السياسات حيث تعددت زوايا تناولها وإنتاج الأخبار فيها وتحليلها أصبح الإعلام كذلك يتسم بخصائص الفاعل شبه المباشر وهكذا تم البدء بفتح ملف غير مسبوق بالشكل الذي اتخذه بالنسبة للحقل المغربي، يتعلق هذا الملف بالحدود التي لا يجوز تجاوزها في ما ينشر من أخبار و ما ينجز من ملفات و ما يكتب من تحاليل حول السياسة المغربية. إنه يتعلق بما أصبح يصطلح على تسميته بالقضايا الجدلية أو الممنوعات: الدستور، الملكية، المخزن وصلاحيته، حكومة الظل، الديمقراطية، التدبير الديمقراطي، الصحراء، الأحداث المرتبطة بها، تصورات الصحراويين، الأداء الدبلوماسي، العلاقات مع الجزائر، الأحزاب السياسية، الرجال الأقوياء للنظام (السابقون والجدد) الدين و السياسة، الأمازيغية، الجنس، الثروات وشفافية تراكمها. وبدا للبعض أن عدة قضايا أصبحت تحتل في الإعلام المغربي مساحات أكبر مما يستحق، ويعود ذلك، أحيانا لأسباب تنافسية بحثة و أحيانا يبدو ذلك استجابة لانتظارات قراء متعطشين لاستقبال أي ممنوع، و يعتقد البعض أن ذلك يرجع لمطالب المجتمع و لما لرغبة الصحافة الجديدة أن تخدم مصالحه بشكل مقصود هناك من يذهب إلى حد التساؤل هل يجب أصلا أن نفكر بمنطق الممنوعات و المحرمات عندما نتحدث في موضوع الصحافة... مسؤول ملتزم و واضح الرؤية. في هذا الإطار طرح سؤال "الخطوط الحمراء" التي لا يقبل تجاوزها، هل كل الأنظمة السياسية لها حدودها الخاصة بها وبالتالي ن الطبيعي أن تكون له خطوطه الحمراء؟ و هل الحدود ترسم عبر امتحانات القوة المتتالية ترتبنا اليوم ضمن صنف الأنظمة الديمقراطية؟ كل هذا يمكن أن يمارس عبر خطاب نظري يعطي أهمية خاصة لمكانة الممارسة الصحافية بشكل مقبول ومقنع ومؤثر التي يمكن أن نلخصها في بعض محاور: الاستقلالية المهنية و الأخلاقيات. - الاستقلالية: هذا ادعاء لا يمكن نعته إلا "بالفوضوي" خارج السلطة وأحيانا ضدها.. والسلط هنا تحيل في نفس الوقت إلى سلطة الدولة والمؤسسات العمومية والمواقع الحكومية وسلطة الأحزاب إنها تعني كذلك سلطة المال أو المجموعات المالية، وكل المصادر التي تمول الصحافة. حول هذه النقطة الأخيرة بالضبط يمكن أن نصادف إعلاما خاص مستقل ماليا، ولو في بلاد الندرة النسبية كما هو الحال بالنسبة للمغرب... و إذا كانت كذلك مستقلة ماليا فعلا، فهل هذا يعني أنها مستقلة تحريريا و سياسيا؟ إن تعبير "مستقلة" لا يعني "ضد" و إنه يحيل إلى تأسيس المصداقية الحقيقية، ومحاولة تكوين رأي عام على أساس امتلاك المعلومات والأخبار التي تخول إمكانية تكوين رأي وحكم في ما يجري. - المهنية: التي تتجلى أساسا في الاقتراب من مسرح الأحداث والنزول المستمر إلى الميدان وتشجيع التحري والتحقيق. كما تستدعي كذلك الفصل بين الرأي والخبر، إعطاء الأولوية للأخبار والتحلي بالموضوعية والنزاهة والمصداقية في نقل الأخبار والتأكد من مصادرها والاتصال بكل الأطراف المعنية والاستماع إلى كل الآراء... إن المهنة تفرض عدم تسخير المطبوعة لخدمة هذه الجهة أو تلك ولكن في نفس الوقت تجاوز الرقابة الذاتية والتحلي بالشجاعة دون تهور أو تهويل أو إغفال لهذا الحدث أو ذاك ومع أن الشجاعة ليست دليلا كافيا على المهنية.. - الالتزام بأخلاقيات المهنة: عن العنوان الكبير لهذه الأخلاقيات يكمن في التقيد بالقانون واحترام عقول وأعراض وأذواق الناس، مع الاعتذار للمتضررين من الخطأ الصحافي، أو للقارئ، الحرس على ألا تنقل من الإشاعة الشفوية إلى المكتوبة، الابتعاد عن الإثارة لرفع المبيعات والترفع عن الهاجس التجاري ومخاطبة الغرائز، كما عن إرضاء الجمهور وإرضاء صاحب القرار أو الممول بأي ثمن. يبقى أنه الحد الفاصل بين الممارسات الصحفية الخارجة جدا عن المعقول و الاجتهاد المبدع والخلاق، ليس له أي أساس آخر غير الحس السليم و التوجهات التي يحكمها العقل والأخلاق... لكن هذا لا يبرر المقاربات المحافظة أكثر من اللازم و الغارقة في الأوضاع القائمة وفي الروتين القاتل و الابتعاد المستمر عن الحياة السياسية الحقيقية.