نبدأ من اليوم، في نشر سلسلة حوارات مع سياسيين، ومناضلين ومفكرين واقتصاديين وباحثين منشغلين باسئلة المغرب الراهن، علي ضوء عشر سنوات من العهد الجديد. ونحن نريد بذلك حوارا مع الفاعلين ومع تحولات هذا الواقع المغربي نفسه ، الذي بدأت ابدالاته الكثيرة تطرح نفسها على الحاضر والمستقبل. في السياسة كما في الاقتصاد أو في التمثل الثقافي، جاء العهد الجديد بالكثير من المتغيرات كما أنه يحافظ على الكثير من الثوابت..وكما يحدث في كل فعل تاريخي ، يكون الجوار الزمني بين الحاضر والمستقبل موطن افرازات وانتاجات، مادية وتاريخية تستحق المساءلة والاستنطاق. اليوم مع الحبيب المالكي عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، الاكاديمي والمثقف والمسؤول الحكومي سابقا.. ينهي الملك محمد السادس، في الأيام القليلة القادمة العشرية الأولى من حكمه، وتتزامن هذه الذكرى مع رفع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لمذكرة حول الإصلاحات السياسية والدستورية التي يراها مناسبة للدفع بمسلسل الإصلاح، أي معنى لهذه الخطوة السياسية في نظرك؟ اعتاد الحزب في كل مرحلة يعتبرها دقيقة من تطورنا السياسي أن يتقدم إلى جلالة الملك بمذكرة تثير الانتباه حول الأوضاع العامة، وتقترح أفقا جديدا يساعد على التأسيس لمرحلة جديدة تتميز بعلاقات متطورة بين الدولة والمجتمع. هذا نهج ميز العلاقات التاريخية بين المؤسسة الملكية والاتحاد ، إذ إن هذه الصيغة التخاطبية هي تكريس لتقليد ابتكرته الحركة الوطنية، ويشكل إحدى خصوصيات الثقافة السياسية في المغرب. إن الاتحاد يعتبر أن الصمت المكيَّف لا يخدم المصلحة العليا للبلاد، فمن واجبنا أن نبادر لأن وطنيتنا المتفتحة تفرض علينا ذلك ، خاصة أن مقترح الإصلاح في المجال السياسي والدستوري هو تتويج لمرحلة أنضجتها عدة مبادرات ملكية بالخصوص في مجال حقوق الإنسان، في مجال المرأة والطفولة، في مجال الجهوية وفي المجال الثقافي واللغوي. ونعتبر أن دسترة هذه المكتسبات خلال العشرية الأخيرة تشكل منطلقا جديدا من أجل مواجهة تحديات المستقبل. إذن ما قمنا به في العمق يخضع لمنطق التوافق لا لمنطق الصراع، وبالتالي فإن هذه الخطوة ستتلوها خطوات أخرى في الوقت المناسب لشرح أهمية مقترح الاتحاد من خلال محتواه وأبعاده. هل انتهى العهد الجديد إلى نفس الاختناق السياسي والديموقراطي، الذي كان قد جاء من أجل تجاوزه، لهذا أصبح لزاما دفع عجلة الإصلاح؟ إن الإصلاح مسلسل يستمد قوته من شموليته، وحركيته من التفاعل الايجابي لجميع مكوناته، لكنه يتعثر عندما يصبح انتقائيا بل يصبح مصدر تراجع، بل إخفاق عندما يُخْتزَلُ في بطاقة تقنية محدودة بطبيعتها. وأرى أن الإصلاح في مغرب اليوم مرادف للحداثة كمشروع متكامل، وكمنهجية ترتكز على الاشتراك والحوار والإقناع. لذلك، نعتبر أن إنجاز المشروع الحداثي مرتبط ارتباطاً عميقًا بتطوير أسس البناء الديموقراطي. والثنائية التاريخية (الحداثة/الديموقراطية) تشكل مصدر كل تطور لمجتمعنا. لذلك أيضا، فالحداثة الاقتصادية على سبيل المثال قد قطعت أشواطا مهمة تتجلى في الأشغال الكبرى الخاصة بالبنيات التحتية في قطاع الصناعة والخدمات الذي يكرس الانفتاح على العالم الخارجي، والتي تتجلى كذلك في تأهيل المدن. ورغم ذلك فإن هذه الحداثة الاقتصادية تبقى ناقصة وبدون أفق إذا لم تواكبها الحداثة السياسية. وهذا ما أدى إلى عدد من الانزلاقات والممارسات من شأنه أن يُحدث أزمة ثقة في كل ما هو مختلف ومنظم خارج الدولة أو تابع لها. الملاحظ أن الاتحاد الاشتراكي رفع مذكرته لوحده، وهو ما يحيل على المذكرة الثنائية التي وقعها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد والمناضل عبد الرحمان اليوسفي في بداية الاستقلال، باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية انذاك، هل هي عودة إلى لحظة التأسيس أم إعلان وفاة اطار الكتلة كفضاء لتدبير الإصلاح السياسي والدستوري في البلاد؟ أكدتُ في عدة مناسبات أن الكتلة توجد في حالة غيبوبة، حيث إنها غائبة في كل المحطات من انتخابات ومبادرات هادفة إلى فتح ورش جديد من الإصلاحات. إن غياب تنسيق جدي وتصور مشترك واضح جعل التشبث بالكتلة موقفا يتسم بنوع من النوستالجيا. وثقافتنا السياسية هي عبارة عن حنين مستمر إلى الماضي في غياب قدرتنا على ابتكار أشكال جديدة تساعد على فتح آفاق المستقبل. وهذا ما قد يقلص من مصداقية العمل داخل الكتلة، ولا يمكن إلا نأسف لذلك، خصوصا أن الأنانية الحزبية الضيقة أصبحت قاعدة في تدبير العلاقات بين مكونات الكتلة. ولنطرح السؤال: هل توجد الكتلة فعلا كقناعة وممارسة في فاس، في مكناس، في أكادير، في الدارالبيضاء؟ لقد تعقدت إشكالية التحالفات على ضوء الواقع الجديد الناتج عن الانتخابات الجماعية الأخيرة، إذ تمت إعادة توزيع الأوراق وبرزت خطوط معيّنة راجعت ما كان بالأمس قارًّا، وأصبحت الأقليات قيادية والأغلبية أقلية. ما سيتطلب منا التفكير الجدّي في كل ماله علاقة بتحالفات الغد انطلاقا من تجربة الأمس شريطة ألاّ يذوب الحزب في حسابات آنية. ألا يطرح هذا ضرورة الحسم في من يقود الإصلاح في المغرب في العهد الجديد أو على الأقل من يطالب به؟ إن الإتحاد منذ تأسيسه وهو يحمل رسالة التغيير عن طريق المطالبة بإصلاحات عميقة على مستوى الاختيارات العامة في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى مستوى المؤسسات . ولو تأملنا تاريخ مشاريع الإصلاح السياسي منذ الستينيات الماضية، لَلاَحَظْنَا أنها كانت في العمق نتيجة دينامية الاتحاد أو على الأقل كان الاتحاد محركا لها أو كامنا في جوهرها. وإن تجربة التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمان اليوسفي رغم قِصَرِ مُدّتها أعطت لحركية الإصلاح دفعة قوية في مسار المؤسسات وعلى مستوى الحياة المجتمعية. ورغم اختلاف المراحل أو الظروف التاريخية، فهي تذكرنا بحركية مماثلة عرفها مغرب ما بعد الاستقلال من خلال تجربة حكومة عبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والتي عمَّرت أقل من سنتين. في نفس السياق، وبمناسبة الانتخابات التشريعية الأخيرة حملنا شعارا مركزيا يتمثل في ضرورة انطلاق جيل جديد من الإصلاحات تهم الدولة والاقتصاد والمجتمع، وذلك من خلال تقديم إجراءات ملموسة تهدف بالأساس إلى التأسيس لمواطنة جديدة، مواطنة كاملة في مغرب جديد. لقد نجح الاتحاد في أن يجعل الفاعلين السياسيين يَتَبَنَّونَ مواقفه، مما ساعد على تأميم خطاب الاتحاد ومطالبه، إذ إن المفاهيم والمصطلحات المتداولة اليوم تشكل نقط التقاء وقواسم مشتركة بين عدد متزايد من الأطراف لدرجة أن المشهد السياسي المغربي أصبح باهتا لأنه يفتقد إلى التميز. وإذا كان هذا التحول إيجابيا على الأقل في شكله، فإن له كلفة فكرية وسياسية جعلت المواطن المغربي يعيش نوعا من الحيرة أمام هذا الوضع الجديد. ولقد كان الاتحاد دائما في طليعة المعارك من أجل التغيير والإصلاح، لذلك فهو مطالب اليوم بألاَّ يفقد قدرته على تجديد خطابه ومفاهيمه واختياراته وبرامجه حفاظا على ما يجب أن يميزه مقارنة مع الآخرين. نحن لسنا حزبا مثل باقي الأحزاب الأخرى، ولا يجب أن ننسى أن السياسة هي بحث مستمر عن تميز مثمر، وأن التخندق نقيضٌ لها. من المثير حقا أن تنتهي الدورة العشرية الأولى على « نوتة» توحي بالماضي أكثر ما توحي بالمستقبل وهي تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة وما عرفه من « صعود» انتخابي ، هل يمكن اختزال ما وقع خلال هذه الفترة في هذه الحالة وحدها؟ وقع تشويش كبير على مسلسل البناء الديموقراطي بكيفية سليمة، مما أدى أحيانا إلى التشكيك في استمراريته. فتحت غطاء التأهيل السياسي تمت «محاكمة « الأحزاب الوطنية من بعض الأطراف الذين يتعاملون مع التاريخ بدون ذاكرة. وتحت غطاء المصالحة وُظّفت بعض مكونات اليسار ضد اليسار. وفي المحطات الانتخابية تكونت شبكات احترفت الفساد وأصبحت تؤطر ، وتُوجه بورصة للبيع والشراء في الأصوات الانتخابية، إذ أصبحت الديموقراطية موضع متاجرة من طرف مجموعات ضغط مستعملة في ذلك وسائل مالية تخضع لمنطق ما يجري أحيانا في بعض بلدان أمريكا اللاتينية. والملاحظ أيضا أنه منذ الاستقلال، وفي كل عقد من تاريخنا السياسي، يبرز حزب جديد منذ الستينيات إلى اليوم. والتجربة أكدت محدودية أفق هذا التوجه وربما قصر نظر من يراهنون عليه.. نحن لسنا ضد تأسيس الأحزاب، لكن هناك محددات سياسية وسوسيو ثقافية وأخلاقية ، محددات تخضع لمنطق تاريخي معين بطبيعة الحال، ينبغي استحضارها في هذا السياق حتى يكون ظهور الحزب الجديد فعل إغناء وتطوير وإضافة نوعية لحياتنا السياسية، وليس مجرد ممارسة للعبث والخلط والضبابية. وبالتالي فإن ما نخشاه في العمق ليس أن ينضاف رقم حزبي جديد، وإنما أن ننساق جميعا نحو نوع من المخاطرة غير المحسوبة باستقرار الأوضاع وتعميق الخيبة واليأس والنفور في نفوس مواطنينا. هناك العديد من المفاهيم والايقونات الرمزية والخطابية التي هيكلت العهد الجديد ، منها المفهوم الجديد لسلطة، الانتقال الديموقراطي، المصالحة الوطنية، الملكية المواطنة... أين وصلت هذه المقولات على ضوء التطورات الحاصلة اليوم؟ الانتقال من مرحلة إلى مرحلة من منظور تاريخي يتطلب قطيعة ثقافية بالمفهوم الواسع، قطيعة تمس التشخيص وأدوات التحليل، وتؤثر في العقليات والسلوكات، وتساهم في إنتاج رمزية جديدة تشعر بأن التغيير واقعا. بطبيعة الحال ، هذه القطيعة هي نتيجة تراكمات متعددة وتناقضات وصراعات بين الثابت والمتحول. فعلا، نلاحظ على مستوى خطاب العهد الجديد جرأة في التشخيص، قدرة على إنتاج مفاهيم جديدة مع مرجعيات جديدة. خطاب حامل لمشروع مجتمعي، ديموقراطي وحداثي، خطاب يتغلب فيه العقل كمصدر للصرامة في الحكم، ووضوح في الرؤية. إن التحولات التي عاشها المغرب في العشر سنوات الأخيرة ساعدت على تقريب المسافة بين الواقع ومضامين عدة مصطلحات كالمفهوم الجديد للسلطة، المصالحة الوطنية، مفهوم القرب، غير أن التغيير كمسلسل معقد يعرف حاليا اختلالات وتطبعه ممارسات قد تكون قادرة على إرجاعه إلى الوراء. عدة أمراض أصبحت تزحف بسرعة داخل المجتمع والمؤسسات، وعلى رأسها الرشوة. كما يجب تسجيل بروز فئة جديدة من الأغنياء الجدد والتي تشكل الآن مجموعات ضغط نافذة، فئة جديدة تكونت على أساس انتشار الريع الاقتصادي الذي يحد من قدراتنا على الإنتاج وجعل المجتمع، في عدد كبير من مكوناته، غير منتج. لكن الخطر هو استعمال هذا الريع الاقتصادي لتوليد صنف جديد، ألا وهو الريع السياسي الذي ساهم في اختناق الوضع الداخلي وتضبيب الآفاق. على هذا الأساس ، فإن على الدولة أن تسائل الأسباب القريبة والبعيدة حول ما آل إليه مسلسل التغيير . وعلينا جميعا أن نتعبأ لتحسين كل مكتسبات السنوات العشر الأخيرة حتى لا يعبث بها المتلاعبون. هذا التحصين أصبح مطلبا وطنيا لتوفير شروط جديدة من أجل فتح أفق الأمل وإعادة الاعتبار إلى العمل السياسي النبيل الذي يعتمد القيم والأخلاق، وكذلك استرجاع الثقة في كل ما هو منظم على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي. عرف الحقل الإعلامي فورة في الحديث عن العائلة الملكية وعن الملك ، كما سلطت الأضواء على المربع الذي يدير القرابة مع ملك البلاد، إضافة إلى جزء من الحياة الشخصية للملك وأذواقه وتصرفاته. كيف تقرأ هذا « الانفتاح» على ضوء العلاقة بين الدائرة الشخصية والدائرة العمومية لملك البلاد؟ قد يكون جوابي عن هذا السؤال مفاجئا لك، ربما. فأنا شخصيا لا أنظر عموما إلى هذا « الانفتاح « نظرة انتقاص أو ارتياب، ذلك لأن الأمر يتعلق بانفتاح المؤسسة الملكية ذاتها، وعلينا ألا ننسى أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس حقق تحولا نوعيا عميقا، بالمعنى الثقافي والرمزي والاجتماعي، حين عقد قرانه على شابة مغربية من وسط اجتماعي معين، وخرج بحرمه إلى المجال العمومي حيث أصبحت للا سلمى فاعلا مألوفا ومحبوبا و مؤثرا. وهذا يُذَكِّر المغاربة بلا شك بقرار المغفور له محمد الخامس التاريخي حين دفع ببناته الأميرات إلى الانخراط في سلك التعليم تكريما للمرأة المغربية وتحفيزا لها على التمدرس، ما اعتبر آنذاك خطوة تحديثية جريئة. صحيح أن بعض الصحف لا تدرك من الانفتاح الملكي إلا جانب الإثارة الإعلامية أو بعد الظاهرة في بعض الإشارات القوية من لدن جلالة الملك أو محيطه العائلي ، ولكنني أتمنى أن تركز صحافتنا الوطنية على ما هو جوهري في كل فعل بروتوكولي أو رمزي أو سياسي، مما يخدم المصلحة العمومية أساسا. هذا رأيي شخصيا في هذا الموضوع. أما بخصوص الجانب الآخر الذي تشير إليه في سؤالك فدعني أصدقك القول بأنني تعودت أن أهتم بما هو مؤسسي أساسا ولا أركز عادة على الجوانب الشخصية . وأظن أن علينا أن نرتقي بمقارباتنا إلى هذا المستوى من النظر. ما هي أهم التحولات الثقافية الحاصلة في العهد الجديد، سواء من ناحية تدبير الحقل الثقافي أو من حيث قيمة وثنائيته وابدالاته؟ هذا سؤال مهم في الواقع، خصوصا وأن البعد الثقافي شكل رافعة أساسية لمشروع التحديث والإصلاح الذي انخرطت فيه بلادنا خلال السنوات العَشْر من حكم جلالة الملك محمد السادس. وأتحدث هنا كفاعل ثقافي وسياسي، وكمسؤول سابق عن قطاع حيوي كبير، قطاع التربية والتعليم، الذي لا أفصله مطلقا عن قاعدته الثقافية والفكرية. وأظن أن هناك ما يكفي من العلامات الأساسية التي عبرت عن تطور مهم في البنيات التحتية للقطاع الثقافي والتربوي، واتساع ملحوظ على مستوى التعبيرات والمنجزات والانتخابات الثقافية والأدبية والعلمية، وكذا إيلاء المزيد من الاعتبار للمثقفين والمبدعين المتميزين، وإطلاق سلسلة من المهرجانات والتظاهرات الفنية الأساسية ، خصوصا تمكين مكونات المجتمع المدني والقطاع الخاص من رعاية واحتضان هذه الفعاليات التي لا شك أن لها إسهاما في تطوير الأفكار، وإغناء الخيال الاجتماعي وتجديد الخطابات والعلاقات...إلخ. ولكن مع ذلك، ينبغي أن نعترف أن الحقل الثقافي ليس مرتبطا آليا بتدخل جهاز الدولة أو بسط نفوذه، فهناك مجال عمومي واسع يتاح فيه للجميع أن يسهم في الممارسة الثقافية. وأظن أن علينا جميعا، كأحزاب وكنقابات وكجمعيات وكمثقفين ، جماعات وأفرادا، أن نساهم في تطوير حقلنا الثقافي، وإنضاج وتنويع الأداء بهذا الخصوص، والرفع من المردودية الثقافية في الجهات والمناطق لا في الحواضر الكبرى أو في العاصمة وحدها. وهنا تحديدا يهمني القول بأن على حزبنا أن يعيد ربط العلاقة مع قاعدته الثقافية، وأن يعيد مد الجسور مع مثقفيه وأطره الفكرية والإبداعية الخلاقة ، وكذا مع الإطارات الثقافية للمجتمع. وظني أننا ابتعدنا عن هذه القاعدة الخلفية الهامة لحزبنا والداعمة لنضالاته ولأفقه الفكري الذي كان دائما متميزا ومجددا. لقد سبق لكم أن مارستم العمل الحكومي، ما هي طبيعة «الاحتباسات» التي عشتها على طول التجربة؟ حتى أكون صريحا ، وإذا ما أدركت ما يرمي إليه سؤالك لم أتلق تعليمات من جهة من الجهات طيلة التجربة الحكومية التي عشتها في عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي أو حكومة إدريس جطو . لم يعاكسني أحد في كل المبادرات التي اتخذتها، بل اشتغلت بكامل الحرية في إطار مسؤول رغم ضغط إكراهات مالية كبيرة وعلى سبيل المثال ، وعلى مستوى وزارة الفلاحة فقد قمت بتنظيم المناظرة الوطنية الثالثة منذ الاستقلال في يوليوز 2000 بالمعمورة، وذلك بمشاركة كل الفرقاء الاجتماعيين والأحزاب السياسية. مناظرة تُوجت بالإعلان عن استراتيجية التنمية الفلاحية والقروية في أفق 2020. كما وضعتُ ، في إطار لجنة وزارية، الإطار الاستراتيجي لمعالجة الجفاف كظاهرة بنيوية سنة 1999-2000، وخُصص غلاف مالي استثنائي لإنجاز سياسة مندمجة مع تدبير سريع لكل المساطر ساعدت على استقرار الساكنة القروية، وعلى الحفاظ على الماشية . فأصبحت هذه التجربة مرجعا ونموذجا لكل ما قامت به السلطات الحكومية فيما بعد. أما على مستوى التعليم، وفي إطار عشرية الإصلاح، فقد ساهمنا في جعل اللاّمركزية، من خلال تجربة الأكاديميات الجهوية، تجربة متقدمة مقارنة مع ما يجري في عدة قطاعات حكومية أخرى. كما أدمجنا الأمازيغية في نظامنا التعليمي بتنسيق مع المعهد الملكي للأمازيغية، مع إعادة تدريس الفلسفة التي هاجرت تكوين التلاميذ لعدة سنوات، وإصلاح الباكالوريا. إن المسؤول الحكومي منذ سنة 1998 لا يشتغل كفرد ، بل إنه حامل لمشروع سياسي يهدف إلى التغيير والإصلاح. وعلى هذا الأساس يجتهد لخلق فضاء معبيء يساعد على الرفع من العطاء الجماعي ضمن أفق لا يختزل في مجرد بقائه.