كواحدة من ليالي السبت الدافئة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، برزت تلك الفرقة الجزائرية الفرنسية «ياسمين» تحت الأضواء بأدواتها الطبلة والمزمار والغيتار الكهربائي والطبلة المشدودة بحبل طويل إلى العنق، فيما احتشد الجمهور داخل نادي تانكونو الخالي من النوافذ. توافدت العائلات مع أطفالها، والشباب من محبي الموسيقى، والعشرات من الشباب الفرنسي من البوهيميين في ملابسهم الغريبة. "" وقال نبيل أسيف بالفرنسية عضو الفرقة الموسيقية: «سوف نبدأ بأغنية تقليدية (موسيقى تقليدية مغربية) لكنها أكثر حداثة فهل أنتم راغبون في سماع الأغنية؟» ربما يواجه هذا السؤال في أي مكان آخر في فرنسا بصمت مطبق، لكن الأمر ليس كذلك هنا في مارسيليا. كان الرد عبارة عن صيحات إعجاب طويلة أثارت ضحك الموسيقيين، الذين بدأوا في عزف الأغنية، التي تعزف منذ قرون في شمال وغرب أفريقيا. ونظرا للعلاقة بين مارسيليا وشمال أفريقيا والتاريخ الفرنسي الاستعماري، الذي انتهى في الستينات، ربما تكون مارسيليا أكثر ارتباطا بالمغرب وتونس والجزائر أكثر من أي مدينة أخرى غير أفريقية. وتضم هذه المدينة ما يربو على 120.000 إلى 150.000 من هذه الدول الثلاث التي تعرف باسم المغرب حيث يقطن تلك المدينة الساحلية والميناء نحو 800.000 شخص. ومن ثم فإن رياح شمال أفريقيا الواضحة، يبدو أنها ستهب على تلال تلك المدينة، حيث يرتفع القرميد البرتقالي، لأسقف منازل المدينة، التي يعود تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، وينخفض كموج البحر الأبيض المتوسط المجاور لها. وتنتشر في المدينة المقاهي والمطاعم المغربية ومحلات المعجنات التونسية ومحلات اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية في شوارع المدينة، كما تترد في مقاهي الأرجيلة اللغة العربية والكبيلي لغة البربر الجزائريين. وقالت زيفورا ناتشيتي، منظمة الاحتفالات، المولودة في الجزائر، وهي تصب الشاي في مقهى فانتازيا، الذي يشتهر برواده من شمال أفريقيا: «يجعلك تشعر وكأنك في الجزائر أو في كازابلانكا». وقالت عن الموسيقى الشعبية الجزائرية، يمكنك سماع موسيقى الراي في الشوارع، كما يعد الكسكس الطبق الشعبي في فرنسا وخاصة في مرسيليا. وللاحتفال بعمق العلاقة بين الشعب المغربي والأعراق الأخرى، بدأت ناتشيتي في عام 2008 مهرجان البحر الأبيض المتوسط، وهو احتفال أقيم في الهواء الطلق للأغنيات والحرف والطعام، وقد أقيم المهرجان مرة أخرى في ماي الماضي، ويعد الاحتفال أحد أهم التطورات الحديثة في الفرق الغنائية والمحلات والفنادق والمجتمعات، التي تعزز المكانة الثقافية لشمال أفريقيا في مارسيليا، وتسهم في تحويل المدينة إلى صحراء حقيقية على البحر. ما يرغب الجميع هنا في قوله، هو أن هذه المدينة لا تعاني من مشكلات المدن الكبرى، فقد تجاوزت نسبة البطالة معدل البطالة في فرنسا ب 5 في المائة، وتعاني المدينة من سمعتها السيئة بأنها مدينة الجريمة، فقالت صحيفة «لو بوين» الأسبوعية في عام 2007 عن مارسيليا «إن المدينة مرتبطة في أذهان الفرنسيين بالمافيا والفارين واللصوص». وأضافت الصحيفة أن ثاني أكبر المدن الفرنسية تأتي في الترتيب السابع عالميا في الجريمة هذا العام. لكن مارسيليا لم تشارك في أعمال العنف، التي اجتاحت بعض الأحياء التي يقطنها مهاجرون في العاصمة باريس في 2005. وبالنسبة لنورا بريزيوسي، المولودة في مارسيليا لأبوين جزائريين وكبيرة مساعدي عمدة المدينة، فإن السبب الرئيسي لتناغم المدينة يكمن في اندماج حياة الشارع بها. وقالت مشيرة إلى مناطق الإسكان العام في باريس: «إنها لا تشبه باريس، حيث تجد أحياء سكنية في الشمال والجنوب منفصلة بصورة جغرافية عن وسط باريس، وهو ما أدى إلى استيعاب تلك المدن الصغيرة المتهدمة الكثير من أفقر مهاجري باريس وأبنائهم. أما هنا في مارسيليا فنحن مجتمع واحد فسواء كنا شمال أفريقيين أو أرمن أو يهودا أو أي جنسية أخرى فنحن في الأساس مارسيليون». والنشيد غير الرسمي لمارسيليا «تحت سماء مارسيليا» غناه مطرب جزائري شاب، كنزا فرح، باللغتين الفرنسية والعربية والأغنية ثناء على التنوع الثقافي للمدينة. تقول كلمات الأغنية: مارسيليا، أنت كالأم بالنسبة لي تقابليني بذراعين مفتوحتين مارسيليا يا مزيج الألوان يا من تواسي كل المعذبين أي رحلة إلى الجانب المغاربي من المدينة يجب أن تبدأ من شارع مارشي دي نواي بجوار محطة مترو نواي. وتعد سوق الفاكهة والخضر الموجودة بالمدينة مركز المدينة، حي شمال أفريقيا الأكثر حيوية، الذي يقع في قلب وسط مارسيليا. في صباح أحد أيام الثلاثاء من شهر مايو (آيار) خرجت النساء في أثوابهن التقليدية وأغطية الرأس يشترين البرتقال والبطيخ والبازلاء الخضراء من بائع مغاربي، كان ينادي «يلا، يلا» وأمر أحد الباعة الجائلين مساعده باللغة العربية «هيا بنا هيا بنا» بعد أن أبطأ في تكييس بعض الخضراوات لبعض الزبائن. بعد ذلك قام أصحاب المحال بتنظيف شارع رو لونغ دي كتبوتشين، حيث تبدو كل بوصة خالية من الشارع ملصقة بملصق ضخم يعلن عن المهرجان القادم لموسيقى سوق وسهرة شرقية مع شيبي ومعلوف. وعلى بعد بنايات قليلة في شارع رو دي لا أكاديمي، تشير بعض النساء مرتديات القفاطين متجهات إلى حمام رفيق، فيما كان الرجال الذين يرتدون الطرابيش والقلنسوات، يخلعون أحذيتهم ويحتشدون داخل مسجد في الناحية الأخرى من الشارع. في وقت الغداء يتجمع السكان في شارع رو دي موزي، الذي يضم أشهر مطاعم مارسيليا، مطعم لا فيمينا، الذي افتتحه شاب جزائري من منطقة ريفية عام 1912 ويديره الآن حفيد حفيده مصطفى كاتشتل. وقال مصطفى، خلال دخول عدد من الفرنسيين إلى المطعم: «نحن نقوم بأعمال الطهي المنزلي مستخدمين وصفات توارثناها من الآباء إلى الأبناء، ومن الأمهات إلى البنات. وفي المطبخ وقفت النساء يرتدين القمصان يقلبن المزيج الذي يغلي على النار ويقطعن الخضراوات، وأشار إلى إحداهن مبتسما وقال: «هذه أختي». زادت شهرة المطعم من خلال براعته في إعداد طبق بسيط هو الكسكس المصنوع من السميد المجروش، ويستورد المطعم سميد الشعير من الجزائر، ويطهوه على البخار ثم يغطيه بخليط من اللحم المطهو. ومع وجود عدد كبير من صفوة المجتمع الفرنسي، بين رواده مثل جيرارد ديباردو والكثير من الساسة الفرنسيين ربما يكون لو فيمينا أشهر المعالم الثقافية في المدينة. لكنه يحظى بالكثير من الزائرين هذه الأيام، خاصة من عالمي التصميم والضيافة، فشباب شمال أفريقيا من الفنانين وأصحاب الشركات يتركون أثرهم على المدينة ويحدثون عن عادات العالم القديم لمشاهدي أوروبا الحديثة. وتميل ريم علاوي، التي عمل جدها في صناعة الموزاييك في فيز، تلك المدينة المغربية التي اشتهرت بفنانيها. واليوم تفتتح ريم، التي تبلغ من العمر 36 عاما معرض آرت إي سود، الذي تبيع فيه لوحات الموزاييك التي صنعها فنانون من المدينة مسقط رأس جدها. الطاولات الجانبية وموائد الطعام واللوحات الجدارية الملونة والأرضيات كلها تتوهج بالألوان الزاهية والأشكال الهندية البراقة. يجتذب لي باين دي حريم، أكثر منشآت شمال أفريقيا تقليدية الذي تحول إلى منتجع راق كامل الخدمة، الجميع بدءا من نجم البوب الفرنسي أميل بينت (الذي ينحدر من أصول شمال أفريقية) إلى ستينغ. وبعد ظهيرة أحد أيام شهر ماي استرخى الشاب ذو الملامح الأوروبية، الذي يبلغ الثلاثينات من العمر، في غرفة البخار التي زينت أرضيتها بلوحة موزاييك. وبعد تدليك بصابون الياسمين وزبدة شيا وملح البحر. وفي الخارج استرخى زوجان فرنسيان على وسادتين فاخرتين وتناولا الفطائر في غرفة الاسترخاء المزينة. في قاعة الشاي جلست مالكة الحمام ساندرين أبو قراط، التي ولدت في مارسيليا، وقد استلهمت فكرة حمام الحريم من خروجها مع جدتها اليهودية مغربية الأصل فقالت: «بعد ظهر يوم الجمعة كانت جدتي تمر علينا في منزلنا لتأخذني أنا وأمي إلى الحمام العام». بيد أنه ربما لا يحاول أحد المزج في مارسيليا بين شمال أفريقيا والحياة العصرية، أكثر من فتيحة أوتشو، التي ولدت في المغرب وتربت في باريس. وقد قامت فتيحة، مسؤولة التسويق والجودة، بخطوتها الأولى عبر «لو رياد» الفندق ذي الغرف التسع، الذي افتتحته في وسط مارسيليا عام 2005 وهو ما كان عبارة عن منزل للضيوف على الطريقة المغربية في منزل فرنسي تقليدي. خلال العام الماضي زادت فتيحة أوتشو من المزاوجة بين الأسلوبين المغاربي والغربي، عندما تقدمت خطوة أخرى وافتتحت محل «إنسبيراشن رياد»، وهو مكان متسع حوائطه بيضاء وسقفه عال، يشعرك المحل وكأنك في معرض للفنون. لكن المعروضات الموجودة على الأرفف البيضاء تتكون من مزهريات السيراميك، التي تشبه مواقد الطواجن وأجربة الهواتف الجوالة المصنوعة من الجلد، تحمل التعويذة الإسلامية من الحسد (اليد المنقوش عليها بأدعية) والقفاطين الأنيقة التي تحمل تطريزا عربيا. وقالت فتيحة، إنني أحاول رفع صورة الصناعات اليدوية المغربية، التي يربطها غالبية الناس بالأشياء منخفضة الجودة في السوق». * نيويورك تايمز