قد يتراءى للملاحظ العادي أن القادة والحكام هم من يحددون مسار التاريخ، حسب ما يرونه مناسبا، بيد أن التحليل العميق يظهر أن جزءا كبيرا من سياساتهم وأفعالهم ليست إلا تنفيذا "للأوامر الصامتة"؛ والصادرة عن الاكتشافات العلمية والخبراء والمثقفين وذوي الشواهد المتخصصة. وبالتالي، فرجال الدولة والسياسيون الحاليون-خصوصا- ينفّذون أكثر وأكثر وبصمت، الأوامر التي يقدمها العلم لهم. وإن كان من المستبعد أن يطرح القادة ورؤساء الحكومات رؤاهم وتصوراتهم قبل إجراء استشارات مسبقة، فذلك يعني أن توصيات الخبراء "العلمية" التي تقدم، وبغض النظر عن طبيعتها الاستشارية وغير الملزمة "مهيبة لا تقهر". وتأسيسا على ذلك، فالتوصيات الدقيقة لعلوم الأرض والمجال والفيزياء والمناخ والبيولوجيا، وما يقدمه الخبراء في العلوم الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، وبدرجة أقل العلوم الإنسانية، هو الجزء الأكبر من مهام السياسيين. ما يدعوا للاعتقاد أن هذا التوجه يُنذر-ربما- بقرب اختفاء "السياسيين الحكوميين"، واستبدالهم "بحكومة الخبراء والعلماء"، وابتلاع وظائف السياسيّ بالتالي. كثيرا ما يتم استهلاك موضوع المرجعية الإيديولوجية الناظمة لعمل الحكومة. لكن ومثلا في المغرب، ما إن تطلع على برنامج الحكومة وسير عملها، حتى تجده خليطا من المرجعيات الليبرالية والاشتراكية والقومية والدينية. ولما يصعب الجواب عن المرجعية الناظمة، تجد الوضع وكأن أعضاء الحكومة السياسيين أقرب إلى "الدُّمى" والعمل الوظيفي. وبالتالي ما المانع أن تكون هناك حكومة خبراء وتقنوقراط، وليست بالضرورة عبر نظام "ديمقراطي" بشكله التمثيلي. إن كانت الديمقراطية لا تفرز نخبة سياسية ورجال دولة ذوي إعداد علمي كاف، (ربما استثناء بعض المعارف النظرية أو السطحية). فلم التشبث بنظام- من كسب إنساني- موسوم بالنسبية وتبويئِه مكانة فوق التاريخ. إن التساؤل يجد راهنيته اليوم، مما لوحظ ويلاحظ من أزمات للنموذج الديمقراطي، انبرى لها العديد من المفكرين، حتى أصبح اليوم الحديث عن النظام التمثيلي والحكومي كأسلوب معيب لا يسمح للأغلبية بالمشاركة في اتخاذ القرار الجماعي، ما يوجب مساءلة أسس هذا النظام "المغرق في اللامساواة".(يمكن العودة لكتابات:-مارسيل غوشي-برنار هنري ليفي-ميشيل تويمان-جون هولوراي-وستيفان روزي). ربما كانت حكومات السياسيين الشكل الوحيد المتاح للإدارة، لما كان العلم غير متطور، أما الآن فالنجاحات العلمية والتقنية تثبت عدم الحاجة القصوى للسياسيين، أو أن السياسيين-نظريا- وجب أن يعرفوا كل شيء عن أي شيء، وهم في الواقع "لا يعرفون ذلك". يجب أن يشتد هذا التوجه ويزداد قوة. وليست الغاية تغيير وظائف الحكومة، إنما منحها شرعية أخرى (علمية وأخلاقية). وإن كان يجب أن تخضع مناصب من سلالم بسيطة، لكل هذه المصطلحات الكبيرة (كالمساواة والمباريات والشواهد وتكافؤ الفرص...) فالقياس من باب أولى-كقاعدة فقهية وقانونية- توجب أن تخضع مناصب رئيس الحكومة والوزراء للمساواة والترشيح والشواهد. يفترض إذن، إقرار قوانين جديدة، تتطلب من المصوتين والمرشحين لمهمات ومناصب قيادية، مستوى جيد في الإدارة والقيادة والأخلاق، واستبدال قانون الانتخابات العامة، بلجنة محددة من الخبراء. لكن درءا لطغيان حكومة العلماء وطغمويتها، فيجب أن تزاوج بين العلم وإعمال القيم الروحية والرقابة الأخلاقية. مثل ما قال نبي الله يوسف: "قال اجعلني على خزائن الأرض. إني حفيظ عليم" [سورة يوسف. الآية55]. إن الحديث عن حكومة الخبراء ليس حديثا يوتوبيا -للاستهلاك-، وإنما فرضته عورات الديمقراطية، وعدم "عدلها". وفرضته الحكومات المادية الصرفة التي زاوجت بين السلطة، وغياب احترام القانون، وضعف الحوافز الأخلاقية، والتوريث الحزبي. من يدري !ربما سيأتي يوم نرى فيه حكومة السياسيين من أجل السياسيين، مثل ظاهرة نادرة كظاهرة الأسود البيضاء. لقد كتب التاريخ مأساة مشوقة، وسمها "بموت التاجر Death of a Salesman "، لكن ربما مات السياسي قبل أن يموت التاجر.