كانت إحدى مُدمّرات بحرية المغرب من الراسيات على ميناء مدينة (بريست) الفرنسية؛ في اليوم السّابق لأكبر احتفال سنوي يجمع مراكب العالم الشراعية، والفرقاطات الحربية، وسُفُن البحوث العلمية والعسكرية؛ أتت من كل حدب وصوب؛ كنت من بين أفراد الطاقم؛ أستعظم هياكل عملاقة عائمة؛ بثلاث سوار وأربع، ونموذجا مصغّرا لأخرى بخمس لمشروع بنائها، وأشرعة منشورة؛ باسقات في الجو عاليا؛ بمئات الأمتار المربعة؛ إنه مشهد للرقي، وثمرة الخلق، والتجديد، وتراكمات مئات من السنين؛ فالبحر محك الأمم، وحاجة ركوبه تتطلب الإبداع، وتستلزم التفكير في كيفية مهادنته، أو مغافلته أو مقاومته، ومعرفة طبيعة سطوحه وأعماقه؛ ثقافة خاصة تستوجب الإلمام بها، والجهل به هلاك لا مُزاح فيه، كما أنه محط منافسة وسباق لارتياده، وللانقضاض من البحر بزحف، وهو لنا نحن في ضفة البحر الأبيض المتوسط الجنوبية؛ قاب قوسين أو أدنى، وترقب لما قرُب، ولم ينأ لنسلم. مهد المهرجان الطريق، واستنهض الهمم، وأجج الرغبة في ارتياد الآفاق؛ فتلاقت في خليج (بريست) نماذج ما يُكوّن أساطيل الدول من القطع البحرية، ونظر طواقمُها إلى مستوى ما يبحرون به، وإلى الآخرين، وطُرِح السؤال: «هل نحن قُرناء وأنداد؛ أم لا طاقة لنا بهم، والخير في العودة ومراجعة الذات؟». كان الاحتفال بغير حدود؛ فإلى جانب استعراض مستوى ما وصلت إليه البلدان من بناء للهياكل العائمة؛ القديم منها والجديد، وتطوير صناعةٍ، واستخلاص كيميائي لمواد تركيبها وتغشيتها، والقابلة للصيانة؛ محاضرات تُلقى في تاريخ الملاحة البحرية، وفي تقنيات الإبحار، وغناء بحناجر ذكورية؛ في خشونة صوتها رمز لمنازلة هيجان البحر؛ الذي يُزمجر؛ فلا يُلاطف. إن كان ما أقصه تجري أحداثه على سطح البحر وليس في أعماقه؛ فلأن ما وقع من مَوجان لم يسبق أن حييته من قبل؛ في بحر الغرب من (جبل طارق)، ونحن في طريق عودتنا من مهرجان (بريست) البحري، وكنا قد شاركنا بسفينتنا الحربية، وبمظهر بلاد بحرية لا تُقهر؛ في ذهابنا سكن البحر؛ كان وديعا؛ ناعم الملمس؛ ننتشي بإذعانه لسير هيكل المركب؛ فقد أراد أن يختبر جَلْدنا ومدى قوتنا ومعرفتنا به، وهل نحن على ما أبديناه لمنافسينا في الشمال؛ فلم تكن غضْبته سريعة؛ تلاها رجوع؛ فصفح؛ بل أتى محيطُنا المائي بما قد يهلكنا به بالتدريج. كانت شمس إحدى الصباحات من شهر أبريل ساطعة، والأشعة شآبيب أدفأت الجو؛ فسعدت النفوس ومرحت، واستجابت أعضاء الأجساد لبيئة وضّاءة دافئة. ما حجب الشمس في أحد الأوقات غمامة، وهبّ نسيم بارد؛ فسرت فينا قُشعريرة. رفعت رأسي نحو السماء، فرأيت تجهّما في صفحتها، ونظرت وراءنا في أُفق الشمال الذي نُودّعه؛ فشاهدت ظلال سحب سوداء تُقبل، وزاد تكاثف الغيوم، وأطبق حجاب رمادي اللون على البحر، وأُسدلت أستار من الجو، وتماهت في بعضها، واكتنف غيْهبٌ عالم مدى رُؤيتنا، ثم أحاط بنا من كل جانب، فلم نعد نميز خط الأفق؛ وكأن هوة عالم آخر غير أرضنا ابتلعتنا، وأعقب ما امثتل أمامنا هبوب رياح؛ تخيلتها وهي تقتلع أدواح اليابسة اقتلاعا، وتعصف بأعمدة المدّ الكهربائي عصفا، وتُطوّح بصفائح السطوح وتعلو بها، وتُهدّم ما لان من أطيان الحيطان، وتهدّم تماثيل من تفننوا في نحث طلعات أعلامها وشخصياتها، وما شمخ من أسلاك وقضبان؛ كان يُتلهّى بما تعرضه من ألعاب، وتُبعثر أنادر حصاد الحقول، وتُرعب الطير؛ فينتظم في أسراب ويُهاجر، ومن يحتويه الخضمّ كما نُبحر نحن الآن ولا قدرة له على المكافحة؛ هل سيبقى أم سيُبتلع؟ سقطت قطرات قوية على وجهي وعلى ظاهري يدي؛ قلت: «كل هذا ما أمطرت، ولا مطر غيره»، وجُلت بهامتي في أرجاء عليا؛ كانت بطون السحب الثقيلة سُطوحَها؛ مُستطلعا ومُتمنّيا أن لا تَدْفق بما تشبّعت به من أبخرة وذرات ماء؛ غير أن ما انهمر هو سيل ملأ دنيانا، ولا يُشك في أنه جرف بناءات عقود من الزمن، وأغرق الكائنات الآدمية والحيوانية والنباتية، وأماتها، واختفت قرى، وشُوّهت بنيات المدن التحتية؛ فلم ندر هل تطفو سفينتُنا على ماء، أم ترفعنا بساطات الغمام؟ لم يَبْد لي البحر في ذلك الوقت، وكما ألفنا يغضب سريعا؛ ثم يرجع بمثل ذلك؛ فيرفِق بنا؛ فلا نرتاع منه، ونصادقه، ونستأمن جانبه. جلْجل؛ فبث الروع في نفوسنا؛ فارتفع الموج؛ فهُو بسطوح مُتغضنة تُلاعبنا، وتُميلنا؛ ثم هو بقمم جبال علت؛ فكانت بعشرة أمتار أو أكثر؛ لها انحدارات تهوي بنا، وقعور يتراءى لنا أننا سنُدفن فيها وإلى الأبد، والجميع صامت. أحاط بالقائد من يختص في قراءة طقوس الأجواء، ومن يعرف كيف يُراوغ الأمواج الصّواعد، ويوجه مقدمة السفينة لتخترقها، وتمهّد لإبحارها، ومن دفعته حماسة الاتحاد؛ فقدِم ليُؤازر؛ فلم تش العيون المنفلتة من المحاجر بغير الخوف الشّديد؛ الذي خيّم؛ من مخاطر ثلاثة؛ صِدام بإحدى سفن الشحن العابرة للمحيط الأطلنتي؛ لا ترانا لعُلوّ عِمارتها، ولا شيئا يُتيح التدقيق في مدى بُعدها أو زحفها علينا، أو شاطئ صخري يُفكّك مركبنا، ويُهشّم صفائحه وضلوعنا وجماجمنا، أو لا تنفع طوافات السفينة؛ فيحتوينا البحر، ويُغرِقنا في أعماقِه. نطق القائد بما زاد في يأسنا؛ قال: – في أي اتجاه نحن؟ نظر الممسك بموجّه الدفّة إلى شاشة الإبحار الإلكترونية وإلى البوصلة؛ فلم يجب؛ كان ما يمعن في دلائله مُبهماً. قد غادر القبطان رداء ذلك الشّخص الذي تعلم وتدرب، وألقى بسلاحه واستعدّ بعزم لا ينفع؛ فسأل مرة أُخرى: – هل نُبحر في اتجاهنا؛ أم تجرفنا تيارات مضيق (المانش؛ Manche)، أو تتوغل بنا المياه في شمال المحيط الأطلنتي؟ هل يجد القائد بيننا من يُجيب؟ فانمَحَق. سمعنا نداء يستغيث، ومن تنبّه لما هو أخطر في آن؛ أقبل بحار وقال: – أحدنا تلتفّ ساقاه بقُضبان درابزين جانب السفينة؛ ويتدلّى رأسه؛ يصفع الموج جمجمته. قال الثاني: – إننا أيها القائد لا نسير؛ فالمراوح تدور في فراغ مُنحدرات الأمواج، وتتخبّط في بحر لا مسطحا له؛ فلا نتحرّك قيد أُنملة. أسرع بحّاران؛ فأُسعف من تدحرج وكُسِرت رجله وأُلقي، وكاد أن يُلتقم، واستدعى القائد تقني المحركات؛ فأمره قائلا: – ما إن يعتلي المركب سطح موجة؛ سأُعطي إشارة فتُسرّع المحركات؛ لتَثْبُت المراوح في الماء؛ فتنخفض المؤخّرة، وتعلو المقدّمة لينتظم بنا الإبحار. وكذلك فعلا بإصرار وترقب؛ فنجحا. – إننا أيها القائد في اتجاه جنوب -جنوب -غرب. صاح من أمعن النظر، وشاهد، وفكّر، ثم ضبط؛ فأُديرت الدفّة؛ لقد رأى الذي حذّر أن السفينة تنأى عن شواطئ إفريقية إلى الغرب؛ فأمر القائد قائلا: – لن نتابع طريقنا إلى ميناء (الدارالبيضاء)؛ فقد أنهكتنا العاصفة؛ سنُبحر في مياه البحر الأبيض المتوسط ونرسو في ميناء (الحسيمة). وصلنا اتصال من القاعدة البحرية العامة؛ أُعلمنا بأن أعطابا أصابت أبراج بث الصوت والتقاطه، وقد أُصلحت، وأننا بأعين المهتمين، ولا تُحلق حوامة المعاينة والإغاثة إلا بعد أن تهمد العاصفة؛ فهي في البر أشد وطأة من البحر؛ فقد عطّلت كل شيء. أنِف أفراد الطاقم؛ فهُم في ساحة الوغى. ذهبت نبرات الصوت الآتية من بعيد أدراج الرياح، وجاءت خافتة. كان هبوب الريح وتلاطم الأمواج أحَدُّ وأقوى؛ وإن طرقت الآذان؛ إلا أنّنا لم نُعر اهتماما. هل يفشل القائد والفيلق فيُسْخر منه ويُصبح أضحوكة؛ ويبرح منبر البِحار ذليلا؟ ولم يُحسن ولم ينفعه ذكاؤه ولا ما لُقّن ولا ما خَبَر، وفي كل نفس عنصر منا إباء؛ إذا ما حلقت الحوامة، وأرسلت حبال الإخلاء؛ فلتعُد من حيث أقلعت؛ فقد أبلينا؛ إما نحن أبطال يعتلي هاماتنا الغار؛ أو محاربون تقهقروا؛ يجرُّون ذيول الهزيمة. هل نخذل هذا المجسم الحديدي الذي بدا جوادا نمتطي صهوته، ويجري بنا بصبر لا شكاة فيه، ونتركه طعمة سائغة للبحر الهائج. رفرفت الحوامة بأجنحة مراوحها؛ فردها القائد على أعقابها، ومضى يقرأ خرائط التنبؤ الجوية، ويقيس ما بقي من أميال المسافة التي تفصلنا عن الميناء؛ فاستبشر بما لاح من بعيد؛ ما تبقى من أفول السحب الزاحفة إلى عمق القارة الإفريقية؛ فهدأت الريح وانقشعت الغيوم؛ فظهر الأُفق، وأهدت الطبيعة لأفراد الطاقم شريطا حريريا بخيوط اختلفت ألوانها، وامتد بقوس معلق في قبة السماء؛ من مشارق الأرض إلى مغاربها؛ إنه قوس قزح، وحلق طائر النورس في الفضاء؛ فكان علامة على قرب الساحل، وأظهرت عدستا المنظار المكبر علامات اليابسة. انسابت المدمرة ببطء، واحتضنتها أرصفة ميناء (الحسيمة) بحنان، واتكأت بجانبها الأيمن على أحدها؛ فهنّأنا بعضنا البعض، وشدّ القائد بحرارة على أيدينا، وقال: – لن اختال بعد اليوم بما أنال من رتب ونياشين وأوسمة؛ فأنا بحار بينكم لا غير، وسيظل هذا السفر الذي ماج فيه البحر مستسلما لطبيعته ولدوره؛ في أعظم فعل لها، وهو أنها تعيد توازنها للبيئة المحيطة بنا؛ لأننا آذيناها، ودمرنا أفضية منها، ولم نذود عنها. حُرّر تقرير يُفصّل في ظروف الرحلة، وبُعث به إلى قيادة البحرية العامة، شاع بين بحارتها، فنظروا إلينا دوما بتعظيم، وتبجيل.