النبوة والتأسيس الشرعي للنسب "" كتعريف لغوي يقال :نسب الرجل وصفه ذكر نسبه إلى فلان:أي عزاه .وناسبه مناسبة:ماثله وشاكله ولاءمه ،أو شاركه في النسب وكان قريبه، والنسب والنسبة :القرابة أو إيقاع التعلق والارتباط بين الشيئين أو التماثل بين علاقات الأشياء أو الكميات. فهذان المعنيان الأخيران أشمل وأكثر تجردا معرفيا في تحديد مفهوم النسب الذي يعني نسبة الشيء إلى آخر -أي إضافته إليه- وهذه الإضافة قد تكون جوهرية أي ذاتية لها ارتباط عضوي لصيق بالمنتسب إليه أو شكلية ذات تقارب رسمي وجنسي غير أنها ليست عضوية رحمية ،أو تجمع بين الأمرين: جوهرية وشكلية في آن واحد،وهذا هو النسب الذي يؤسس له الشرع ويبني عليه أحكاما ثابتة سواء تعلق الأمر بالنسب الكوني بما فيه الحيواني والنباتي والجمادي أو النسب الإنساني وكذا الجني لما يطبعهما من خاصية التكليف وإلزامهما بالتشريع في تحقيقه،وهذا المعنى الأخير هو الذي يفهم من قول الله"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا "[1]. إذ النسب هو الذي يؤسس لما يصطلح عليه بالأرحام التي لا ينبغي تقطيعها أو بترها و إلا وقع الفساد في لحمة المجتمع وجذوره "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم،أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم و أعمى أبصارهم"[2]"وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"[3]. ذلك كما يقول ابن خلدون حول النسب والعصبية إن "صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة ،فان القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعا طب والمهالك ،نزعة طبيعية في البشر منذ كانوا... ومن هذا تفهم قوله صلى الله عليه وسلم "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة..."[4]. كما أنه المقصود بتأسيس الصلاح في المجتمع وتوارثه "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها،فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين"[5]. فمن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تتبين لنا معالم النسب وخصائصه وماله من أبعاد استدلالية في مجال العقيدة وارتباطه بالإيمان ارتباطا موضوعيا ووظيفيا ،كما يستشف من قول النبي صلى الله عليه وسلم :"ثلاث في الناس كفر :الطعن في النسب و النياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم"[6]وأيضا "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر "وفي رواية" من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام "[7] وأيضا "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين"[8]. باعتبار هذا البعد الإيماني للنسب وما يترتب عنه من نتائج سلبية على الفرد والمجتمع فإنه لا يقرر مقتضياته وشروطه وأحكامه إلا الشرع،ومن هنا يختلف عن الخلق المطلق- أي النسب العضوي المادي والغريزي المحض -بحيث أن هذا الخلق غير ذي قيمة في ربط الانتساب الأسري ببعضه وتوارث المصالح المادية والمعنوية بين الأفراد المتصلين به مادام لم يتأسس على قاعدة صحية وسليمة تضمن سريان الخيط الرحمي بين أصل النسب والمنتسب إليه ،وهذا ما لخصه الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي حينما عرف النسب بأنه "عبارة عن مرج الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع،فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا".وهو ما نقله عنه القرطبي في تفسيره: أحكام القرآنعند آية النسب من سورة الفرقان، ممصدرا بأن:النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين... فعند تحقيق هذا النسب بشروطه الشرعية تترتب حقوق وواجبات تحمي الطفل بالدرجة الأولى ثم أمه وأباه على حد سواء ،ولتحديد هذه الحقوق وتفريعاتها و توظيفاتها سيكون من حيث السبر والتقسيم أن البنوة لا تحتمل سوى وجهين وهما: البنوة الشرعية والبنوة غير الشرعية . أما التبني العادي فهو خارج عن هذا الإطار ويكون أقرب إلى البنوة غير الشرعية من حيث حكم منعه ؛اللهم إلا في اعتباره النفسي والتعويضي العاطفي مجازا أما حقيقة فلا... فالبنوة الشرعية كما عرفت في مدونة الأحوال الشخصية المغربية سابقا ،الفصل83"هي التي يتبع فيها الولد أباه في الدين والنسب ويبنى عليها الميراث وينتج عنها موانع الزواج ويترتب عليها حقوق وواجبات أبوية وبنوية ".وهذا الفصل صاغته مدونة الأسرة في المادة145 المتعلقة بالإستلحاق"متى ثبتت بنوة ولد مجهول النسب بالاستلحاق أو بحكم القاضي أصبح الولد شرعيا يتبع أباه في نسبه ودينه ،ويتوارثان وينتج عنه موانع الزواج،ويترتب عليه حقوق وواجبات الأبوة والبنوة". هذا التعريف يبقى قارا ومجمعا عليه لدى كل فقهاء الشرع مهما تغيرت صيغ القوانين ومدوناتها ، وهو المحور الذي يشكل تكاملا بين القاعدة الشرعية والقاعدة الغريزية النوعية (البيولوجية) مما يستوجب تبعات تبادلية بين عنصر الأبوة والبنوة تتحدد في الدين والنسب والميراث وموانع الزواج وحقوق وواجبات على عدة مستويات وبواعث . من هنا فلا بد من تحديد أحكام أساسية تتعلق بمفهوم البنوة الشرعية وهي مرتبطة بالزواج الشرعي أو غير مرتبطة به،إذ أن البنوة الشرعية لا تنحصر في الزواج الشرعي المتكامل الشروط والواجبات العادية فقط ،وإنما مجالها أوسع وأدق،فتشمل استثناءات وطوارئ ونوا ذر لا يمكن إقصاؤها من الحسبان عند التقاضي. لهذا فموضوع النسب قد يعتبر أهم من موضوع الزواج في حد ذاته لأنه يشمله ويزيد عليه،كما أنه يوسع للفقيه الآفاق للتغلغل في سبر التفرعات الاجتماعية و طوارئها ونوازلها واستثناءاتها. لكن الزواج مع ذلك يبقى هو محور النسب والمعطي الرئيسي له ،لأنه يبني عليه قاعدته ابتداء،كما أنه عرف منذ وجود الإنسان أي: منذ آدم وحواء عليهما السلام. فما نسل عنهما يعتبر شرعيا لأنه قائم على الزواج الشرعي الذي شرعه الله لهما بحسب زمانهما وظرفهما وبحسب قوة النسبة إليهما لأنه لا منازع لهما في هذا النسب،أي أنه لم يكن يوجد رجل ثان أو مزاحم في دعوى النسب حتى يحتاج الأمر فيه إلى إشهاد أو ولي ،وإنما آدم أصل لحواء عند بدء الخلق وحواء فرع من آدم بغير وسائط،ومع ذلك كان هناك مهر معنوي أو مادي بحسب الأخبار الواردة في هذا الموضوع ،كما أن آدم كان أصلا مباشرا لحواء ،أي أنه كان مانحا لها وجودها بجزء من ذاته ،وهذا في حد ذاته يعتبر مهرا غاليا جدا، إضافة إلى هذا فآدم كان نبيا؛ ومن ثم فهو مصدر التشريع والولي في زمانه ،إذ سيشرع لنفسه ولزوجته ولذريته بإذن ربه ،خاصة بعد حمل حواء وكبر ذريتهما ،مما يقتضي الحفاظ على بقاء النوع واسترساله ،وفي هذه الحالة سيكون من الضروري وجود تشريع لتحديد العلاقات الأسرية وضبطها والحفاظ على مفهوم البنوة الشرعية التي تعطي النسب والصهر والميراث معا. فحسب ما يحكى أن أول صراع بين بني آدم كان بسبب التزام المشروعية واختراقها في مجال الزواج واعتبار النسب ،والذي من خلاله سيتحدد القبول عند الله تعالى أو يرفض ،كما يصوره لنا القرآن الكريم إجمالا في قوله تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، قال: لأقتلنك،قال :إنما يتقبل الله من المتقين"[9]. بحيث كما يفسر ابن عباس وابن مسعود:" أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية،فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر،ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر،حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل ،وكان قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع ،وكان قابيل أكبرهما،وكان لهما أخت أحسن من أخت هابيل ،وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ،فأبى عليه ،وقال هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها،وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية،قرب هابيل جذعة سمينة،وقرب قابيل حزمة سنبل،فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها،فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل،فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ،فقال هابيل :إنما يتقبل الله من المتقين"..."[10] من هذا التفسير نستشف مبدأ التطور المحتمل في عالم الأحياء وظيفيا و تفريعيا،بحسب الزمان والمكان وواقع الكائنات في الاتصال والانفصال والتكاثر والتناقص ،وذلك دون الإخلال بالقاعدة العامة التي سبق وارتكزنا عليها في تعريف الولادة ،إذ يمكن أن تكون هناك خاصية لتوأمة متتالية فيها تحقيق لحكمة إلهية أراد الله بها أن يحدد وجه العلاقة بين النوع الإنساني وأفراده ؛تتحكم فيها قاعدة شرعية لا تصطدم مع سنن الله في الكون وتتقبلها العقول بفهم جيد وجلي ... من هنا فحينما جاء الاعتراض من طرف فاسدي النظرو قصيري الفكر على مسألة ولادة سيدنا عيسى عليه السلام من أمه مريم عليها السلام عن غير أب ،بدعوى أن هذا مستحيل وغير معقول أو واقعي ردهم الله تعالى إلى المبدأ الأول في خلق الإنسان الأول من غير أب وهو آدم عليه السلام ،وهذا أصعب من حيث العادة والتوقع من الوجود الثاني،لأنه مخلوق حي من جماد لا تجمعهما سوى جنسية الإمكان في الوجود ،لا الحيوية ولا النوعية ولا حتى الصورة الهيكلية تقارب بين الشكل الإنساني وأصله الطيني عند النظرة السطحية الأولى،كما نجد هذا القياس البرهاني في القرآن الكريم يفيد خاصية التحويل في الكائنات حيث يقول الله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"[11] فالقياس هنا مؤسس على الوجود والواقع ولكنه قياس الأولى أو الجلي ،لأن المقاس عليه أولى بالاستصعاب مع اعتراف الجميع بأصله الجسدي الطيني من المقاس به ؛هذا المخلوق من كائن حي قريب في جنسه ونوعه صورة ووظيفة وإدراكا، وهو ولادة الأم للابن بغير أب استثناء وخصوصية ومعجزة كما هو شأن سيدنا عيسى وأمه مريم عليهما السلام . ولهذا فالتسليم بالمقاس به واعتبار ه يقينيا وممكنا عقليا وواقعيا هو عين المطلوب وصلب البرهان. فلا غرابة إذن أن يكون التولد الإنساني عبر الأزمان الماضية قد عرف تطورات وظيفية -وأركز على هذه الكلمة -لا التطورات الجوهرية والخلقية المباينة ذاتيا لما هو عليه الكائن البشري في يومنا هذا . إذ من ضمن هذا التطور الحاصل هو ولادة حواء لذريتها على شكل دفعات منتظمة كتوائم ينفصل بعضها عن بعض كما عرفها المفسرون ب "بطن واحد" ،وهي غير ذات آثار سلبية على المورثات واختلالاتها الذاتية بسبب ما يعرف بزواج الأقارب في النسب ،وذلك حينما يبقى هذا الزواج محصورا بين أهل نسب أو سلالة واحدة يدورون في فلكه،وربما يؤدي إلى زواج المحارم وهو الأخطر والأضر لدى الشعوب وأصحاب الملل والنحل. ومن خلال هذا الفصل التو أمي في الولادة الأولى لحواء يكون المشرع هو الذي حدد وجه العلاقة والتزاوج فيما بين توأم دون آخر ،فيكون بذلك قد ضمن سلامة العنصر الإنساني من الأمراض والانقراض ،وبالتالي نظم العلاقة الرحمية فيما بين الأقارب بتقسيمها إلى رحمية محرمية ورحمية غير محرمية، ثم بعد ذلك تقرير النسب والصهر كما ذكره الله تعالى امتنانا على الإنسان وخاصيته الأسرية . فهذا الوضع الخاص للتطور الأولي عند الولادة الأولى لنوع الإنسان حسب ما ذهب إليه المفسرون للقرآن والأحاديث النبوية الشريفة ونقلوه أيضا من كتب سابقة قد يطرد بصورة علمية وبرهانية وشرعية الأوهام التي يثيرها رواد الشبهات والانحرافات والإباحية حول مسألة شرعية النسب الإنساني الأول بعد آدم عليه السلام!وذلك بزعم أن حفدة آدم وحواء عليهما السلام كانوا من خطيئة بمعنى أن الانسانية كلها ناتجة عنها ، وهذا توهيم وإضلال شيطاني وأهوائي منحرف لا أساس صحيح له من الناحية الشرعية المحدد الأساسي للنسب،وأيضا لا مبرر و لا مؤيد من الناحية الوظيفية والخلقية كما وسبق وبينا ،إذ مصطلح الخطيئة ليس من تحديد البشر وإنما المشرع هو الذي يقرر هل هذا الأمر حلال أم حرام ،كما يبن لنا القرآن الكريم هذا الجزم والاستفراد في التشريع وخصوصيته الإلهية وتبليغه النبوي بقوله تعالى"ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ،إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون "[12]"ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعزز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ،ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ،أم كننتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم،إن الله لا يهدي القوم الظالمين "[13]. إذ كما قد يكون التشريع بحسب الزمان والتطور الوظيفي لجسم الإنسان وتحملاته الخلقية فإنه يأتي أيضا بحسب تطوراته السلوكية والأخلاقية والعقدية ،حتى إنه قد يحرم عليه ما هو حلال عند غيره وكذلك العكس؛ ولو في نفس العصر أو الزمان الذي يوجد فيه هذا المجتمع أو ذاك،كما قد نجد هذا النموذج القطعي في قول الله تعالى "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوا يا أو ما اختلط بعظم ،ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون "[14]. من هنا فإنه يوجد في الشرع أيضا خصوصية تتعلق بالمشرع نفسه أي النبي صلى الله عليه وسلم بحيث قد أباح الله له أن يتزوج بأكثر من أربعة نسوة كما أباح له أن يتزوج المرأة إن وهبت نفسها له "يأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبيء أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين،قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما "[15]. في حين سيأتي النهي بعد هذا التحليل للنبي نفسه كتشريع خاص به صلى الله عليه وسلم وذلك تأكيدا لعقيدة حرية المشرع واستئثاره بالعلم والحكمة من شريعته التي شرعها للناس من أجل سعادتهم . يقول الله تعالى:"لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا"[16]. فالملاحظ على هذه الآيات تكرار مصطلح النبي ثلاث مرات ،أي هناك تركيز على جانب خصوصية التشريع عند الواسطة النبوية التي عنها يتحدد التشريع العام والخاص تبليغا وتطبيقا عمليا كما هو في موضوع التبني وإلغائه عمليا من طرف النبي نفسه،بمعنى أن المحدد لمفهوم الحلال والحرام هو الشرع المبلغ بواسطة النبي ،ومن ثم فما شرعه وأحله فهو الحلال وما حرمه فهو الحرام ،ولا مجال للحكم العقلي هنا إلا من باب سبر الحكمة والسعي إلى إدراك النعمة المنطوية تحت لواء هذا الحكم الشرعي أو ذاك . مع هذا يبقى النبي خاضعا للتشريع العام الذي يشمل المكلفين فيما يتعلق بأحكام العلاقات الرحمية والمحرمية التي لا تتطور إلا وظيفيا كما سبق وبينا حول ولادة حواء للتوأم ،كل توأم يضم ذكرا وأنثى لا يجوز التزاوج بينهما ،وإنما الذي يحل هو الذكر من توأم آخر على سبيل الفصل الذي كان قائما بين البطون ومحتوياتها وذلك على سبيل الخصوصية الوظيفية (الفسيولوجية والبيولوجية )في ذلك الزمان وبحسب التشريع الذي حدد حكمها في التزاوج من خلال آدم عليه السلام الذي كان نبيا ووليا وأبا للجميع. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخضع بنفسه للأمر الإلهي من حيث التحليل والتحريم ولا يلتزم إلا ما شرعه له الله تعالى أو أذن له بتشريعه لأمته فإن هذه الأخيرة يكون من باب الواجب والمفروض عليها الاقتداء به عقديا وتشريعيا مع مراعاة مراحل التشريع وما فيه من أمر ونهي وناسخ ومنسوخ وتقييد وإطلاق وتخصيص وتعميم... زواج المتعة والبناء المتهاوي للنسب إذ من باب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في باب النكاح ما يعرف بزواج المتعة الذي سيعرف جدلا كبيرا بين أهل السنة والشيعة حول مشروعيته،ومن هنا سيكون من الواجب تحكيم القاعدة السابقة في تخليص الحق من هذا الموضوع الشائك ألا وهي :التحليل والتحريم لا يكون إلا من المشرع. فزواج المتعة قد ورد النهي عنه تحريما كما هو وارد في الكتب الصحاح الراوية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من بينها على سبيل الاختصار ما أخرجه البخاري في صحيحه "باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرا"عن"الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله عن أبيهما أن عليا قال لابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر"و"عن أبي جمرة قال سمعت ابن عباس سئل عن متعة النساء فرخص فقال له مولى له إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه"و"عن جابر ابن عبد الله و سلمة ابن الأكوع قال كنا في جيش فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا .وقال بابن أبي حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا .فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة ،قال أبو عبد الله:وبينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ! "[17]. لا أريد أن أدخل في التفاصيل حول الخلاف الوارد في المسألة ولجوء الشيعة إلى تأويل بعض الآيات الظاهر فيها لفظ الاستمتاع وإسقاطها على زواج المتعة بدون مراعاة السياق كقول الله تعالى:"فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة[18]" .إذ الآية واردة في النكاح المعروف لا في نكاح المتعة ،لأن سياق الآية كلها في النكاح،فقد ذكر أول الآيات أجناسا ممن يحرم زواجهن وأباح ما وراء ذلك ،فيصرف قوله"فما استمتعتم به منهن"إلى الاستمتاع بعقد النكاح المعروف،وأما تسمية الواجب أجرا فقد ورد في القرآن تسمية الاستمتاع المهر أجرا،قال تعالى:"فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن"[19]... ويلخص ابن رشد سند هذا التحريم بقوله:"وأما نكاح المتعة ،فإنه تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم..."[20]. إذن، فقوة التحريم مؤسسة على التواتر والنص القطعي الدلالة كما في رواية البخاري، إضافة إلى المفارقة العجيبة في الرواية وهي: أن الراوي هو علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه -أي المرجعية الرئيسية والأصولية عند الشيعة أنفسهم -مما يجعلنا نضع علامات استفهام وتعجب عريضة حول تشبثهم بالمتعة دون سائر المذاهب الإسلامية ومخالفتهم للأمر النبوي والرواية العلوية وسلسلة آل البيت الواردة فيها والمؤكدة لنسخ حكمها كما سبق ورأينا!!!. كما أتحدى كل شيعي أو مجوز لزواج المتعة أن يثبت بأن علي بن أبي طالب الخليفة والإمام قد مارسها سواء بعد تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها في خيبر أو بعد نهي عمر بن الخطاب رسميا وبإجماع الصحابة من بينهم علي الذي كان يتقلد منصب القضاء والوزارة في عهده،كما أنه قد زوجه بنته أم كلثوم رضي الله عنها.ومن هنا فتكون مزاعم الشيعة في الاقتداء بعلي بن أبي طالب جد واهية وأشد وهيا حينما يتشبثون جماعيا بموضوع شهوي شائك ومحرج لإعطائه المشروعية رغم أن أنه قد حرم وهجر عمليا من طرف الخلفاء الراشدين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ! فأي إمام يتبع هؤلاء وأي مذهب يتبنون وأي شرع يطبقون؟ !!! بيد أن المسألة التي جرتنا لطرح موضوع زواج المتعة في هذا السياق ليس هو الاختلافات المذهبية بقدر ما هو الموضوع الرئيسي الذي نعالجه بصفة خاصة ألا وهو حق الطفل في النسب ومعه المرأة في زواج المتعة ،إذ أن هذا النوع من الزواج ،على فرض أنه جائز عند البعض ممن لم يريدوا التسليم بالنصوص لأسباب مذهبية تقليدية و أهوائية في نفس الوقت،سيكون مهدرا لحق الطفل واستقرار المرأة معا! بحيث حينما سيحدث حمل بزواج المتعة فمن سيقوم بشؤون هذا الطفل تربية ورعاية وتحقيقا نسبيا، إذ ربما قد لا يحضر الشهود في الزواج ويكون الدخول بغير إعلان كما سنرى حكمه لاحقا كما قد يكون نفي للحمل أو الزواج أصلا!،وهذا كله يدخل في حكم السر الذي لا يتم به زواج ،لأنه قد تتم المتعة في ظرف ثلاث ليال وهي غير داعية أو كافية لضرب الدفوف وإعلان النكاح!،ومن ثم قد يضيع الولد وتضيع أمه وتضيع الرابطة الحميمية والمودة التي تجمع بين الرجل والمرأة على سبيل التناسل والتواصل والاستمرارية،إضافة إلى أن المرأة ستصبح مادة للتداول الجنسي غير المحدد و عرضة للشبهات والقذف حينما يعمم هذا الإجراء في زمن: النساء فيه أكثر عددا من الرجال! في حين أن المجتمع قد يصبح عبارة عن مجتمع أيتام وأرامل مفتعلين حينما يتم أجل الاستمتاع ويغادر المستمتع البلد الذي تواصل فيه جنسيا مع المستمتع بها... من هنا فتحليل المتعة من المشرع في فترة ما لم يكن سوى تمهيد تشريعي لتفادي واجتناب ما هو أخطر وأسوأ كما ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أنكحة الجاهلية، وكما ورد الحكم في تحريم الخمر من البسيط إلى المركب ومن التنبيه على المضار والمنافع مع المقارنة إلى التحريم الصارم والناسخ لكل حكم سابق،وهذا حال حكم زواج المتعة المنسوخ نصا ،ولا نسخ بعد نسخ المشرع!!! ________________________________________ [1] -سورة الفرقان آية 54 [2] - سورة محمد آية 22-23 [3] -سورة الأنفال آية 76 [4] -ابن خلدون:المقدمة، دار إحياء التراث العربي ص 128 [5] -سورة لأعرف آية189 [6] -رواه مسلم [7] -رواه البخاري في كتاب المغازي [8] -رواه أبو دود والنسائي عن أبي هريرة [9] -سورة المائدة آية 27 [10] -محمد الصابوني:مختصر ابن كثير،دار القرآن الكريم بيروت ج1ص 506 [11] -سورة آل عمران آية 58 [12] -سور ة النحل آية 116 [13] -سورة الأنعام آية 144 [14] -سورة الأنعام آية 146 [15] -سورة الأحزاب آية 50 [16] -سورة الأحزاب آية 52 [17] -رواه البخاري في كتاب النكاح [18] -سورة النساء آية 24 [19] -أحمد أمين :ضحى الإسلام .دار الكتب العلمية.بيروت لبنان ط1 .2004 م-1425 ه ج3 ص185 [20] -ابن رشد:بداية المجتهد ونهاية المقتصد.ج2 ص61