أولا : خلفيات الغرور والتغاير. "" هذه الخلفية لها مقدمة ونتيجة، فمقدمتها حالة نفسية ومرض أخلاقي داخلي عبرنا عنه بالغرور وما يندرج في صفه من الرذائل كالعجب والكبر والرياء وحب الظهور والرياسة والحسد. أما نتيجتها فهي حالة سلوكية ظاهرية عبرنا عنها بالتغاير الذي يتمظهر على صورة منافسة غير محمودة، وتصعيد للغيرة في غير محلها قد تؤدي إلى عكس غايتها وهي : الوقوع في شرك التبرج بدافع المعاندة والمنافسة والرد بالمثل، إلى أن تتورط المرأة في دوامة التحاسد والتباغض لحد خلع الحجاب حسا أو معنى، كما يقول الغزالي عن الحسد بأنه "قد يعظم في الشخص ويقوى قوة لا يقدر معها على الاخفاء والمجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة"[265]. 1/ التبرج بالغرور والتسويف المستقبلي : والغرور باعتباره مقدمة للتغاير وخلفية للتبرج قد يكون على مستوى الأعمال والآمال والجمال. أما الغرور بالأعمال فهو ناتج عن رؤية النفس وحظوظها عند القيام بالطاعات وتطبيق الشعائر الدينية، وهذا النوع من الغرور يتداخل مع موضوع العجب ويرتبط به بشدة، قد يصل مستواه إلى حد الإدلال بالعمل، والذي عرفه المحاسبي بأنه الرجاء الذي زايله الخوف. بحيث أن بعض النساء بمزاولتهن وقيامهن ببعض الأعمال الدينية الظاهرية قد يشبنها بصور من العجب النفسي والاستشعار بأنهن موفيات ما عليهن من واجبات على أكمل وجه وأحسنه، فيغترن بهذا الموقف النفسي لحد أن يهملن القيام بالوظائف الأخرى الواجبة عليهن، إما استسهالا أو رجاء وتمنيا في غير محله، وهو المنهي عنه شرعا كما في قول الله تعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولايغرنكم بالله الغرور، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"[266]. وعن الإدلال بالعمل والإغترار به لحد الوقوع في التبرج من هذا الباب يورد المحاسبي قصة عن امرأة من المهاجرات قالت وهي عند عائشة رضي الله عنها : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أشرك ولا أسرق ولا أزني ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان أفتريه بين يدي ورجلي ولا أعصيه في معروف، فوفيت لربي عز وجل ووفى لي، فوالله لا يعذبني ربي. فأتيت في النوم فقيل لها أنت المتألية على الله ألا يعذبك؟ فكيف بقولك فيما لا يعنيك، ومنعك ما لا يعنيك؟" . وفي حديث آخر "أنه أتاها ملك فقال لها كلامك تزجين وزينتك تبدين، وخيرك تكدين، وجارك تؤذين وزوجك تعصين"، ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها فقال : خمس بخمس ولو زدت لزدناك. قال: فأصبحت وأثر الأصابع في وجهها..."[267]. وهذه القصة قد أوردها ابن قيم الجوزية في كتاب "الروح" رواية عن الحارث بن أسد المحاسبي وأصبغ وخلف بن القاسم وجماعة عن سعيد بن مسلمة بصيغة "كلا إنك تتبرجين، وزينتك تبدين..."[268]. وقد تضمنت إحدى أهم الخلفيات وراء تبرج كثير من النساء رغم ادعائهن الالتزام بالعمل الشرعي الظاهري، لكن إغفالهن للمراقبة الباطنية أدى بهن إلى الوقوع في هذا الخطأ والمتمثل في الاغترار ببعض الأعمال على حساب الأخرى من باب العجب والغرور. أما الغرور بالآمال فهو قريب من الغرور بالأعمال إلا أنه لا يستند عليها ابتداء وإنما يرتكز على مبدأ التسويف أو توقع التغيير المستقبلي على سبيل التأجيل في تطبيق الأحكام الشرعية، وهو غرور صادر في أكثر الأحيان من عوام المسلمين وعصاتهم، ويعرفه المحاسبي بأنه "خدعة من النفس والعدو، يذكرون -أي المغرورين- الرجاء والجود والكرم يطيبون بذلك أنفسهم فيزدادون بذلك جرأة على الذنوب، فيقيمون على معاصي الله يظنون أن ذلك رجاء منهم..."[269]. ويقول الغزالي عن الفرق بين الرجاء والأمنية "أن الرجاء يكون على أصل، مثاله من زرع زرعا واجتهد وجمع بيدرا ثم يقول : أرجو أن يحصل لي منه مائة قفيز فذلك منه رجاء، وآخر لا يزرع زرعا ولا يعمل يوما عملا فذهب ونام وأغفل سنته فإذا جاء وقت البيادر يقول: أرجو أن يحصل لي منه مائة قفيز فيقال له من أين لك هذا الرجاء وإنما ذلك أمنية بلا أصل؟ فكذلك العبد إذا اجتهد في عبادة الله وانتهى عن معصية الله تعالى يقول : أرجو أن يتقبل الله مني هذا اليسير ويتم هذا التقصير ويعظم هذا الثواب ويعفو عن الزلل وأحسن الظن فهذا منه رجاء. وأما إذا غفل عن ذلك وترك الطاعات وارتكب المعاصي، ولم يبال بسخط الله تعالى ولا رضاه ولا وعده ووعيده، ثم أخد يقول : أرجو من الله الجنة والنجاة من النار فذلك منه أمنية لاحاصل تحتها سماها رجاء وحسن ظن وذلك منه خطأ وضلال. وقد نظم المعنى القائل : ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس[270]. وهذا النوع من التمني والاغترار به قد يكون أحد خلفيات التبرج لدى كثير من النساء اللاتي يأملن أن يتغير حالهن في المستقبل دون عقد العزم على ذلك بجدية وصدق نية، وذلك بتأجيل الالتزام بالحجاب بعد أن يستنفذن شبابهن ونظارتهن مع علمهن بوجوبه شرعا، إذ من أهم أسبابه وغاياته هو الحد من الاثارة الشهوية في الرجال حتى لا يقعوا في المحظور، كما أن المطلوب شرعا هو السرعة في الامتثال بالحجاب كما عبر عن ذلك عمليا نساء المهاجرين والأنصار وبناتهم وأخواتهم... عند نزول الآية الخاصة به. وإذا لم يتم الاسراع بالعمل الشرعي والطاعات بالنسبة إلى المؤمنين والمؤمنات وخاصة في موضوع الحجاب، فإن نتيجة التباطؤ ستكون هي فتح باب الحيل والمخادعات من الشيطان الرجيم، لأنه إذا وجد لدى العبد إصرار على عمل الطاعات من باب إيمانه بها فإنه يلجأ بعد أن يعجز في تشكيكه بأصلها ومشروعيتها إلى الضرب على أوتار الأماني والتسويف، كالتغرير بتأجيل العمل بها في المستقبل بعد استنفاذ مرحلة الشباب، وإيهامه بأنها مرحلة اللهو واللغو ينبغي استغلالها ثم التفرغ بالكلية في النهاية إلى العبادة والاستقامة باعتبارها مرحلة الكهولة والشيخوخة. ومن هذا التوهم يتسلسل التأجيل إلى حين لدى كثير من الناس حتى يلقوا الله عز وجل وهم على إصرارهم بالمعصية من باب التسويف، يقول الله سبحانه وتعالى عن خلفيته ودور الشيطان فيه: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. والتسويف في باب الحجاب قد يضيع على النساء حظهن في الثواب وأجرهن في مجاهدة الهوى والنفس والشيطان، خاصة إذا وصل بهن غرور الآمال إلى سن الشيخوخة أو ما قرب منها، بحيث تصبح المراة عندها لا إثارة شهوية فيها، إذ الحجاب في هذه المرحلة لم يعد واجبا بالقوة كما هو على النساء الشابات المثيرات للرجال بالتبرج، لأن الباعث الجسدي للتشهي وتحريك الغرائز الجنسية قد أصبح ضغطه ضعيفا بل شبه معدوم، وفي هذه المرحلة جوز الشرع للمرأة المسنة أن تكشف بعضا من جسدها غير الجانب الخاص بمحدداتها الأنثوية وإن كان الامتناع عن التكشف هو الأفضل، وذلك في قول الله تعالى :والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم[271]. قال المفسرون : القواعد هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ولا مطمع لهن في الأزواج... والمراد قعودهن عن حال الزوج وذلك لا يكون إلا إذا بلغن في السن بحيث لا يرغب فيهن الرجال. والمراد بالثياب ها هنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: أن يضعن جلابيبهن، وعن السدي عن شيوخه "أن يضعن خمرهن" رؤوسهن، وعن بعضهم أنه قرأ : أن يضعن ثيابهن. وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب، ولذلك قال "وأن يستعففن خير لهن" وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة"[272]. وإذا كانت القواعد من النساء بحكم واقعهن النفسي والجسدي قد تتخلصن من الغرور المؤدي إلى التبرج كخلفية، فإنه على العكس من ذلك قد يقع لدى غيرهن من النساء الشابات في كثير من حالاتهن غرور جسدي يتمحور كله حول الغرور بالجمال وما يتبعه من الزينة والحلي، وهو أدعى إلى حب الظهور والتبرج عند الغافلات عن إيمانهن والمعجبات بأنفسهن، إذ الجمال يكون من أهم الأسباب إلى الكبر والعجب مما يترتب عنه في النهاية التحاسد والتغاير. فكما يقول الغزالي عن صورة عجب الانسان بجماله وكبره "أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صوته وبالجملة تفصيل خلقته فيلتفت إلى جمال نفسه وينسى أنه نعمة من الله تعالى، وهو بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار باطنه وفي أول أمره وآخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع"[273]. وهذا العجب بالجمال والاغترار به قد يسبب لدى كثير من النساء التصنع في إظهاره والحفاظ على استقراره حيث لا استقرار له، وذلك بتنويع الأصباغ في الوجه وصرف الأموال الباهضة والأوقات الثمينة في سبك البشرة ودلكها لحد الظهور بمظهر الدمية البراقة، كما نجد لدى أبي طالب المكي في كتابه "قوت القلوب" وصية بعض العرب لبنيه جمع فيها صورا متنوعة لبعض مظاهر السلوك النسوي المعتل ومن بينها التكلف في إظهار الجمال حيث يقول : "لا تنكحوا من النساء ستة : أنانة ولا منانة ولا حنانة ولا حداقة ولا براقة ولا شداقة، تفسير ذلك : الأنانة وهي التي تعصب رأسها كثيرا وتكثر الأنين والتوجع والتشكي، والمنانة التي تمن على زوجها تقول فعلت بك وفعلت فأنا أفعل، والحنانة تكون على وجهين : تكون ذات ولد من غيره فهي تحن إليه، وقد تكون ذات زوج قبله فيحن قلبها إليه، وقوله حداقة هي التي تومىء بحدقتها فتشتري كل شيء وتطالب زوجها بما تشتهيه من كل شيء، وقد تلحظ الرجال كثيرا كما يلاحظ بعض الرجال النساء، والبراقة تحتمل تأويلين : أحدهما أن تكون غضوبا في الطعام فتبرق لقلته أو لسوء خلقها، ولا تكاد البراقة للمأكول أن تأكل إلا وحدها لشرهها، وتكون أيضا تستقل نصيبها من كل شيء وهذه لغة يمانية نعرفها فأشبه عندهم يقال : برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عليه، والوجه الثاني من البراقة أن تكون من البريق، أن تكثر صقال وجهها وإخضابه فتتصنع في بروقه أبدا، وأما الشداقة فهي التي تشدق بكثرة الكلام وتكون ذربة اللسان مفوهة في النطق"[274]. وحينما يصبح جل هم المرأة هو جمالها وزينتها فإنها ستجد نفسها أمام مزاحمات لها في نفس ما تعجب به وتتكبر، ومن هنا فإنها ستغار من جهة على من تريد أن تستأثر بنظرته إليها ومن جهة تغار على نفسها وجمالها من أن يزاحم في ظهوره، بل إنها تود لو أنها حازت الجمال من كل أوجهه لتوهمها باستحقاقها الذاتي له على سبيل العجب كما يقول الغزالي : "والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على الذميمة القبيحة فتعجب وتقول :كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك القبح، ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال وبين القبيح مع الغنى لآثرت الجمال..."[275]. وهذا النوع من العجب والغرور بالجمال قد يأخذ صورة التحاسد والتنافس غير المحمود، إذا هو اقتصر على مجرد الاعتبار الشهوي سواء كان جسديا أو معنويا. كما يقول المحاسبي عن التحاسد بصفة عامة أنه : "يبعث عليه الرياء وغيره، فأما ما كان من الرياء فحسدا ونفاسة أن يدرك غيره من المنزلة أكثر مما يدرك، ومن حمد الناس أكثر مما يدرك من الحمد، فيحب أن تزول عنهم النعم لئلا يعلوه بها أحد فيكون دونهم عند إخوانهم وغيرهم. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي أمية : لا أبقاني الله وإياك إلى زمان يتغاير فيه على العلم كما يتغاير على النساء"[276]. 2/ التبرج بالتغاير والمزايدة الشاذة : والتغاير بهذا المصطلح قد يعني التحاسد وقد يعني الغيرة المضادة على وجه الاعتبار النفسي المحض، وهو على وزن تفاعل أي فعل من فاعلين قد يكون بين أكثر من شخصين، ولهذا فقد يأخذ من حيث مظهره صورة جماعية على مستوى السلوك والممارسة. فالتغاير يكون من جنس التفاخر والمباهاة، ولهذا فقد يحصل لدى الرجال كما لدى النساء إلا أنه عندهن يكون أكثر حضورا، خاصة إذا تعلق الأمر بالاعتبار الجسدي والجمالي والتفاخر به. وكما يكون التغاير بين الرجال والنساء فقد يكون التغاير بين النساء على الرجال، إذ التغاير المبني على التحاسد والمباهاة والتفاخر سيأخذ مسارا شاذا عكس ما تقتضيه الغيرة الحقة من الاستئثار بالمغار عليه وحجبه عن مشاركة غيره فيه بخصوصيته. وهذا الشذوذ في الغيرة لدى النساء خاصة قد يكون سببه إما الجهل المركب أو المراودة والمكايدة لأنهن يتنافسن ويتحاسدن بإبراز مفاتنهن ضدا على بعض المراودات والمكايدات بالتبرج، أو ضدا على الجهل الغالب على كثير من النساء الأخريات بالحكم الشرعي الناهي عن التبرج، فيقعن بهذه المنافسة المدفوعة من باب الغيرة النفسية في تصعيد ظاهرة التبرج، بحيث أنه حينما ترى امرأة متزوجة غيرها متبرجة فقد تلجأ من باب الغيرة غير السوية أو الشاذة إلى العمل بتقليدها قصد صرف انتباه زوجها إليها عنها، وذلك بإبداء كل ما يمكنه أن يثير زوجها والحيلولة دون تأثره بمنظر امرأة كاسية عارية أو متبرجة لحد الاثارة الشهوية. وهذا التبرج الذي تلجأ إليه المرأة من هذه الخلفية يكون في خارج البيت خاصة، لأنه إذا كان داخل البيت فقد يكون عملا محمودا وغيرة حقيقية وسليمة، لأنها بذلك تكون قد كفت زوجها النظر إلى غيرها، ومع ذلك فقد يبقى التفات زوجها إلى غيرها رهينا بمستوى إيمانه وتقواه، وبالتزامه الضوابط الشرعية المحافظة على استقرار خياله كما هو الشأن في مسألة غض البصر ومعالجة استدراك نظرة الفجأة واللجوء إلى زوجته في حالة وقوع امرأة في نفسه كما مر بنا في الأحاديث الخاصة بهذه العلاجات. أما إذا كان الزوج غير ذي تقوى أو ذي علم بالأحكام الشرعية المداوية للنفوس المريضة، فإن الزوجة باللجوء إلى هذا التغاير غير المحمود شرعا تكون بمثابة الذي يصب الزيت على النار، وذلك إما أن تثير غيرة زوجها عليها على سبيل الغضب والتأنيب والشك والريبة... إلخ، وإما أن تزيل غيرة زوجها عليها بسبب تنبيهه إلى مقارنة جمالها بجمال غيرها، مما يدفعه أكثر من الاستزادة في النظر إلى غيرها لحد الانصراف عن تقديرها واحترامها في جمالها وأخلاقها والبرودة في محبته لها. وإذا بردت المحبة بردت الغيرة وكان النشوز والاعراض من الزوج في كثير من الأحيان، لأن المرأة تكون قد استنفذت جاذبيتها لزوجها في زحمة الخارج المتبرج فلم يعد يرى فيها ما يستأثر به في الداخل، على عكس المرأة المحتجبة التي لم تعرض جسدها للمزايدة والمنافسة فبقيت في نظر زوجها كجوهرة مكنونة. ومما يشيع كثرة التغاير بالتبرج عند النساء هو ظاهرة الحضور لديهن بكثافة وبتردد في الشوارع وقطاعات الإدارة والعمل الذي قد يعرف اختلاطا وتقاربا بين الجنسين لحد التهامس والتلامس. ولهذا فإذا كانت الوظيفة أو العمل يقتضيان وجود الرجل والمرأة جنبا إلى جنب، فإنه سيكون من الضروري الالتزام بالحجاب الشرعي وضوابطه من مراقبة والتزام بمتطلبات العمل دون تجاوز حدودها أو الانتقال إلى التدخل في الشؤون الشخصية للموظفين أو العاملين فيما بينهم، وخاصة فيما بين الرجال والنساء من غير ذوي المحارم. ولكن الملاحظ على أغلب الموظفين والموظفات أو العمال والعاملات بشتى المهن والقطاعات في عصرنا هو عدم التقيد بحدود العمل وموضوعيته، وإنما قد ينتقل الخطاب والحوار بينهم إلى استخبارات واستفسارات عن أحوال شخصية وأسرار داخلية سواء من طرف بعض الرجال أو بعض النساء على حد سواء، مما يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى التغلغل في قضايا خاصة ربما قد تطال الأسرار الجنسية بين الزوجين وهو ما نهى الشرع عن إفشائه كما مر بنا. والتغاير لهذه الأسباب قد يوجد لدى كثير من النساء المتزوجات اللاتي يسعين إلى الحفاظ على مكانتهن في نفوس أزواجهن مما يدفعهن إلى مواجهة التبرج بالتبرج، لكن عملهن وتغايرهن هذا يعتبر غير سليم لأنه تصعيدي في باب العري وإثارة الشهوات ليس للزوج فقط وإنما للأجانب، مما ستصبح معه المرأة مقصدا للمراودة الرجولية وربما للمكايدة النسوية على سبيل التحاسد المتسلسل والتغاير غير المحمود، لحد العمل على الايقاع ببعضهن البعض في شرك الخطيئة والاستدراج نحوها. وقد يوجد التغاير من هذا النوع أيضا عند غير المتزوجات وذلك بالعمل على إثارة الرجل الأجنبي بالنظر إلى محاسنهن وزينتهن ابتداء، قصد الإغراء بقبول التزوج بهن من باب الجمال ومظاهر الجسد، وهذا النوع لا يدخل في حكم مركب المراودة والمكايدة نحو الغاية غير المشروعة، ومع ذلك فوسيلته غير مشروعة ولا محمودة، لأن فيه فتحا لباب الفساد ينبغي منعه والتحذير منه سدا للذريعة، إذ سيصبح التبرج كوسيلة غير مشروعة محلا للمزايدة والتفنن غير المقيد في مسايرة ما يسمى عند الغربيين بالمودة، وهو ما لوحظ "من أن أطرزة النساء تتغير تغيرا سريعا عند مقارنتها بأطرزة الرجال"[277]. فأكثر ما يمارس هذا التبرج من هذه الخلفية في الشوارع الخاصة بالتنزه والشواطئ، وكذا في الأعراس والمناسبات التي قد تعرف لدى كثير من المجتمعات اختلاطا بين الرجال والنساء إلى حد ما، لكن النتيجة قد تكون عكسية وهي أن الذي يريد أن يتزوج على أساس العفاف والغيرة قد لا يستسيغ امرأة عرضت جسدها للمزايدة العلنية والمساومة العامة مما يعني قبول المشاركة في الخصوصية التي تحبب الرجل نحو امرأة ما. كما أن من نتائج هذا التبرج فشو التحاسد بين النساء والوقوع في مركبات الجهل بحكمه وآثاره إلى حد العري الكلي أو شبهه، وهو ما يحدث في كثير من الشواطئ التي أصبحت وكأنها مملوءة بالبهائم البر-مائية. أما الذي يريد أن يلتقط زوجته من سوق المزايدة في التبرج والمراودة فهو إما ذو عقلية من جنس المتغايرات في باب الإستعراض الجسدي، وإما أنه صديم الجمال وخضراء الدمن وهي "المرأة الحسناء في المنبت السوء"، وإما أنه ديوث لا غيرة له، وهذه أسوأ خلفية لتشجيع التبرج وإقراره في المجتمع الفاسد. ثانيا : الديوثية بين خلفيات الغفلة والقصد الجماعي . 1 / التبرج بالديوثية بين شذوذ الرجل والمرأة : يعرف الديوث بالقنزع "وهو الذي لا غيرة له على أهله"[278]. وقد ورد ذمه في الحديث النبوي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء"[279]، وفي حديث آخر عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث"[280]. والملاحظ من خلال الحديثين وجود ترابط موضوعي بين الرجل والمرأة في موضوع الديوثية والترجل، لأن كلا الحالتين شذوذ نفسي وسلوكي يمس أصل وكمال التكوين لكلا الجنسين ويهدر خصوصيتهما، إذ الرجل لا يمكن له أن يصبح امراة في بعض سلوكه، والمرأة كذلك لا تتحول إلى رجل بمجرد تقليده، وكل محاولة من طرف لاختراق خصوصية الآخر قد تؤدي إلى شذوذ لا مفر منه وعقوق للأصل الذي كان عليه تكوينهما، وهذا ما يمكن من خلاله تفسير ورود عقوق الوالدين بجانب هذا الشذوذ النفسي والجنسي بالنسبة إلى بعض الرجال والنساء، لأن الوالدين بولادتهما قد أعطيا شقيقين لكنهما مختلفين اختلافا عرضيا، مما يقتضي اختلافهما في النوع واتحادهما في الجنس. والأجناس التي يتحدان فيها من بينها : الغيرة في الحالة السليمة وحكمها المدح والاستحباب والوجوب، وعلى العكس من ذلك الديوثية وعدم الغيرة على الخصوصية، وحكمها الذم والكراهية والتحريم. وعند هذا الاتحاد في المدح أو الذم على مستوى الأجناس كانت "النساء شقائق الرجال في الأحكام" كما ورد في الحديث النبوي الشريف حيث يفسر معناه ابن عربي في هذه الأبيات : إن النساء شقائق الذكران *** في عالم الأرواح والأبدان والحكم متحد الوجود عليهما *** وهو المعبر عنه بالانسان وتفرقا عنه بأمر عارض*** فصل الاناث به من الذكران من رتبة الاجماع يحكم فيها *** بحقيقة التوحيد في الأعيان وإذا نظرت إلى السماء وأرضها *** فرقت بينهما بلا فرقان انظر إلى الاحسان عينا واحدا *** وظهوره بالحكم عن إحسان[281]. ومن خلال هذه المعاني والتفسيرات يفهم أن المرأة المترجلة في حكم الديوث والديوث في حكم المرأة المترجلة، وحينما يتحدان في هذا الحكم بفعل واقعهما النفسي وسلوكهما فإنه لن يكون في المجتمع رجل وامرأة سليمين، وإنما هو طغيان الوحدة الشذوذية التي تعني العقوق الكلي لأصل التكوين الانساني وغياب الغيرة علىالخصوصية الذاتية، وإذا لم يغر الشخص على ذاته فكيف يغار على غيره؟. فالديوثية على عكس الغيرة تعرف بأنها عدم كراهية مشاركة الغير، وهي إما على سبيل الغفلة أو القصد، وقد تتشخص في بعض النساء كما في بعض الرجال ولكن في صور مختلفة. إذ فيما يخص ديوثية النساء فلها صورتان على أقل تقدير وهما : إما عدم الغيرة على النفس والجسد من طرف بعض النساء، وهذا يدخل فيه التبرج المقصود بخلفياته وتوابعه، وإما عدم غيرة المرأة على بعلها لضعف حبها أو جهلها بغريزته، وذلك بتعريضه بنفسها للخلوة أو التقارب مع صويحباتها من المتبرجات على سبيل التعارف والصداقة الوهمية أو التفتح والتقدم المزعوم مما يترتب عنه أسوأ الهموم. لكن أخطر ديوثية مهدرة لخصوصية المرأة هي الناتجة عن عدم غيرتها على نفسها، والتي قد تكون الأصل والمقدمة لسائر الديوثيات الأخريات، ربما تنتقل عدواها على سبيل التحاسد والتغاير غير المحمود إلى الرجال أنفسهم. والأصل في هذه الديوثية وأشكالها هو ضعف الإيمان لدى بعض النساء، إذ المرأة كما يقول الغزالي : "إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها وفرجها أزرت بزوجها وسودت بين الناس وجهه وشوشت بالغيرة قلبه وتنغص بذلك عيشه، فإن سلك سبيل الحمية والغيرة لم يزل في بلاء ومحنة وإن سلك سبيل التساهل كان متهاونا بدينه وعرضه، ومنسوبا إلى قلة الحمية والأنفة، وإذا كانت مع الفساد جميلة كان بلاؤها أشد، إذ يشق على الزوج مفارقتها فلا يصبر عنها ولا يصبر عليها، ويكون كالذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إن لي إمرأة لا ترد يد لامس. قال : طلقها، فقال : إني أحبها، قال : أمسكها" وإنما أمره بإمساكها خوفا عليه بأنه إذا طلقها اتبعها نفسه وفسد هو أيضا معها، فرآى في دوام نكاحه من دفع الفساد عنه مع ضيق قلبه أولى"[282]. وهذا الحديث إن كان قد ضعفه بعض المحدثين فإنه وإن لم يصح وروده على مستوى اليقين وقطعية الثبوت، إلا أن الحكم فيه قابل للتعليل والتحليل فيما ذهب إلى ذلك الغزالي كما رأينا. وقد يمكن إضافة بعض التحليلات في تحديد واقع الديوثية الذاتية عند هذه المرأة ووضعها بين مطرقة الغيرة وسندان المحبة. بحيث أن الشخص الذي اشتكى من زوجته وشذوذ سلوكها كان دافعه هو محبتها، والمحبة تتنافى مع التسليم بملامسة الغير للحريم أو حتى لمن يحب قبل الزواج، لأنها أصل الغيرة، والغيرة تعني كراهية مشاركة الغير، فكان أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بتطليق زوجته التي لا ترد يد لامس هو التطبيق الصحيح للقاعدة العامة للغيرة، وذلك أن الغيور لا يطيق أن يرى غيره يشاركه في خصوصية محبوبه على سبيل التكرار واللامبالاة به. فترك المجال للملامسة عند هذه المرأة دليل غياب الاحتجاب أو بالأحرى غياب شروطه ولوازمه لديها، وهي غض البصر والامتناع عن إثارة السمع والشم، وعن الاختلاط لحد التلامس والتهامس. وبما أن هذا الشخص كان يحب زوجته فإنه لم يستطع مفارقتها رغم أنها لا تغار على نفسها، ومنافاة حالها لحال الغيرة عند زوجها. وقد يكون السبب في هذا هو أن المحبة أشمل من الغيرة، لأنها جنس تحته أنواع وهي الأصل كما أن الغيرة هي الفرع من حيث التجدر النفسي، فرغم عدم استجابة المحبوب لغيرة محبوبه إلا أن هذا الأخير يتشبث به على مضض مع تمن لديه بتحقق كمال محبته في محبوبه، وهو مبادلته له في غيرته والامتناع عن ملامسة غيره، ومن هذه المفاهيم وما قرب من معناها يمكن والله أعلم -إن صحت الرواية- تفسير نقل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه بأمره الرجل المشتكي بطلاق زوجته إلى اعتبار القاعدة الأشمل وهي قاعدة المحبة، رجاء أن يكون هذان الحكمان بشقيهما المتعارضين تخييرا للزوج بحسب تحمله النفسي لكلا الحلين، ووضعا موضوعيا للمرأة أمام الأمرين كلاهما في مصلحتها من حيث المآل والغاية. الأول : تهديد وترهيب، والثاني : تحبيب وترغيب. وبوضع المرأة بين هذين المتناقضين من حيث الظاهر قد يرتفع النقيض لديها ويزول بحسب وعيها بالأمرين معا، فهي تخشى الطلاق لأنه ليس في صالحها إذا تحقق، وتعي جيدا أن حب زوجها لها هو الموقف لإنجازه، فيجتمع عنصرا الخوف والرجاء في تحديد علاقتها بزوجها، وبالتالي في إصلاح سلوكها بوعيها بغيرة زوجها ومقتضياتها مما يعدلها عن حالها الشاذ، فتمتنع من لامسها وتحتجب بطواعية وبحكم وعلم. كما أن الحكم لو اقتصر على الأمر بتطليقها فقط مع وجود محبة الزوج لها، لكان ذلك بمثابة نزع الروح جملة واحدة وهو ما أشار إليه الغزالي في تحليله، وهذا قد يكون فيه حرج للزوج المحب ربما لا يجد له مقاومة ولا تسكينا، لأن الحب الذي يدخل يسيرا ومع العشرة والزمن لا يخرج إلا عسيرا، فيقع الزوج حينئذ في صراع داخلي بين اقتضاء الحكم الشرعي واقتضاء الغريزة والميل النفسي نحو زوجته، والذي لا يملك فيه الانسان إرادته حينما يتعلق الأمر بالحب، كما عبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" الحديث... لكن حينما وضع الشخص بين الخيارين فهنا قد تتدافع غريزة الحب الجنسي مع الحكم الشرعي ومقتضيات الغيرة، فينتهي الأمر بالتدريج إما إلى تغليب الحكم الشرعي على الحب الجنسي الغريزي بقوة الغيرة والتي هي أصلا شرعية، وإما إلى عدول المرأة عن حالها الشاذ المخالف للحكم الشرعي، فتمنع الرجال من ملامستها، وبهذا يصبح الحب سليما وتصبح الغيرة كاملة، لأن الكل خاضع لشرع الله ولأن الله أغير من عبده. ويمكن إضافة معنى آخر، وذلك حسب القاعدة التي فهمها الصوفية من الغيرة وهي اقتضاؤها للتغيير -أي تغيير المنكر- وذلك باليد واللسان والقلب وهذا أضعف الايمان كما ورد في الحديث الشريف. وبما أن الزوج الغيور مستبقي على زوجته رغم علتها، فإن غيرته ستدفعه بحكم قوامته وعشرته لها إلى تغيير سلوكها المنافي للغيرة، إما باللسان عن طريق الوعظ أو الهجر الذي هو وعظ صامت وتنبيه نفسي، وإما باليد وهو إما منع من ترك المجال للملامسة، أو تهديد بالإيلام على سبيل الترهيب والتأديب لحد الضرب غير المبرح، كما نصت على ذلك الآية الخاصة بنشوز الزوجة واستعصائها على بعلها في قول الله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا. وبهذا قد ترتدع المرأة عن سلوكها المخالف للشرع والمناقض للحب وغيرة الزوج عليها، فتكتمل الغيرة والحب في ظل الحجاب واطمئنان الحياة الزوجية السليمة. 2/ التبرج بديوثية الرجل وفساد وعيه : أما ديوثية الرجال فهي أسوأ حالا من ديوثية النساء، لأن فقدان الرجل للغيرة سواء على أهله أو بلده أو أمته قد يؤدي إلى فقدها لدى المرأة على نفسها وعليه في آن واحد، وبالتالي قد تصبح المرأة وسيلة لشيوع الديوثية وترتفع الصيانة عنها، وتتمظهر بعدة صور منها ذات الباعث عن الغفلة والجهل ومنها ذات الباعث المقصود والمخطط له. فالديوثية المؤسسة على سبيل الغفلة والجهل قد تكون تلك التي تصدر من بعض الرجال في إلزام زوجاتهم بالتبرج على سبيل المنافسة والتفاخر بالتحصل على أجمل امرأة في الحي أو المدينة أو حتى الوطن، كمن يعرض زوجته أو بنته أو أخته لكي تساهم في مباراة ملكة الجمال، التي تجري بها العادة في مجتمعات متخلفة سلوكيا وفاقدة لأبسط مظاهر الغيرة والصيانة لنسائها. وقد يلجأ بعض الرجال إلى اصطحاب زوجاتهم في الحفلات الرسمية المختلطة قصدا، إما على أمل اكتساب الحظوة في حزب سياسي أو في مؤسسة مهنية وشركة تجارية... إلخ، وهذا الاصطحاب قد يسمونه زعما وتغريرا : مجاملة (أو بروتوكولا ) بدعوى ضرورة التعرف على زوجة كل شخص ينتمي إلى هذه المؤسسة أو تلك، وذلك بإحضارها في أبهى حلة تليق بمقام الحضور ومقتضيات الحفل من رقص وغناء وإنارة ملونة، لأنها فترة الصفقات ولكن على حساب الأعراض والزوجات بالتلامس والتهامس المختلط، قد يتم في النهاية نشر لقطاته في التلفزات والمجلات. واستحضار النساء وتزيينهن لهذا القصد يعتبر من أسوأ نماذج الديوثية، والتي تعبر عن فقد للايمان أصل الحجاب ومصدر الغيرة، وذلك مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق"، والمذاء كما فسره القرطبي هو "أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا ، مأخوذ من المذي"[283]. وهذا النوع من الديوثية القصدية له صورتان، إما ديوثية ثعلبية، وإما ديوثية كلبية، وكلاهما له نفس النتائج السلبية المدمرة للمجتمع الانساني إن هي عمت في كل أوساطه وافتقدت الغيرة بصورة جماعية. فالديوثية الثعلبية قد تكون قصد الاصطياد بطعم التغرير الذي يمارسه الزوج المنافق عقديا وعاطفيا في حق زوجته المغرورة بجمالها أو المغرر بها، وذلك للحصول على مناصب أو صفقات تجارية أو ترخيص إداري لمؤسسة غير قانونية أو غير مشروعة... ويدخل في حكم هذا التغرير اتخاذ المرأة العارية أو المتجملة كوسيلة للإشهار التجاري والسياحي كما هو ملاحظ على أجهزة الاعلام العالمية. وقد اصطلحنا عليها بالديوثية الثعلبية لأنها تتطابق مع قصة الغراب صاحب الجبنة وعدوه الثعلب المحتال، إذ أنه ما أن غرر بالغراب من باب مدح ووصف وجهه وصوته بالجمال حتى اندفع تحت تأثير العجب والغرور إلى إبراز هذه الخصوصية المنسوبة إليه زعما من طرف الثعلب، فكانت نتيجته أنه فقد سر قوته الذي هو جبنته واستغلها الثعلب بسهولة مستفيدا من غباء وغرور الغراب، ولم يجن بعدها سوى الجوع والندم. وهذا عينه ما يحدث لدى بعض النساء اللواتي يجارين من يزعمون أنهم أزواجهن أو حتى محارمهن في اقتفائهن هذا المسلك النتن، إذ ما أن تستنفذ المرأة جاذبيتها وجمالها بل وظيفتها كوسيطة تجارية وسياسية، حتى ترمى في الشارع للكلاب تنتهب ما تبقى من خصوصيتها في الإثارة الشهوية لا غير. أما الديوثية الكلبية فهي تلك التي يمكن وصفها بالديوثية الجماعية، أي التواطؤ الجماعي في بلد أو إقليم ما على الفساد وتبادل الزوجات أو الأخوات والبنات، من خلال استعراضهن متبرجات في حفلات خاصة بالتفحش وهتك الأعراض بالقصد، وأكثر ما توجد هذه الصور في المجتمعات الغربية وخاصة في أوروبا وأمريكا ،وكذا لدى غالبية المجتمعات غير الاسلامية. وهذا النوع من الديوثية يتسم بالتداول الجنسي والتناوب على انتهاك الأعراض بالتراضي والتغاضي شبيه بالحالة التي يكون عليها الكلاب في ممارساتهم ولقاءاتهم الخاصة بهم، وهي تشبه ما كان يمارس لدى طائفة من الزنادقة والباطنية ذات الجذور المجوسية تدعى "بالبابكية" نسبة إلى بابك الخرمي، وكان خروجه في بعض الجبال بناحية أذربيجان في أيام المعتصم بالله الذي استولى عليهم فصلب زعيمهم بابك، وقد بقي منهم حتى القرن الخامس الهجري كما يقول الغزالي : "جماعة يقال إن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون سرجهم وشموعهم ثم يتناهبون النساء فيثب كل رجل إلى امرأة فيظفر بها، ويزعمون أن من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد فإن الصيد من أطيب المباحات..."[284]. وهذا النوع من الديوثية أصبح لدى كثير من المجتمعات الغربية ودولها وسيلة لاشاعة الفاحشة في العالم عن طريق الأطباق الهوائية وعرض صور متحركة لمثل هذه الممارسات قصد تعميمها وفتح المجال لما يسمى بالاباحية الجنسية، وهو ما سعي إلى تكريسه من خلال مؤتمر بكين سنة 1995 الخاص بالمرأة، وما سبقه من مؤتمر القاهرة حيث عرف كلا المؤتمرين جدلا حادا حول عدة بنود من توصياتهما تصب أغلبها نحو فتح المجال للاباحية الجنسية وتكريس الديوثية الجماعية في المجتمع الانساني عموما، والتي من مظاهرها ومقدماتها إزاحة الحجاب عن المرأة وفتح المجال للتلامس والتهامس مما يترتب عنه الاختراق والاحتراق. والديوثية الكلبية المؤسسة على التنظير والتحفيز الرسمي قد نادى باتباعها قبل هذا العصر بعض أساطين الفكر الغربي في الماضي، وعلى رأسهم أفلاطون الذي يعتبر نموذجهم في المثالية، وهذا ما يفسر لنا لماذا يسير الغرب الآن في هذه المتاهات الجنونية من الإباحية الجنسية سبق وعرضنا لبعض مظاهرها، ولابأس من إضافة بعض الصور الأخرى لأصولها عندهم، باعتبارها إحدى أسوأ الخلفيات الرسمية للتبرج والإختلاط العشوائي ، فيقول أفلاطون على شكل محاورة وتنظير لجمهوريته : "فإذا تجاوز الرجل او المرأة سن الانجاب للدولة فأرى أن تترك للرجال حرية الاختلاط بمن يشاؤون من النساء فيما عدا بناته وأمه أو جدته، وتترك للنساء نفس الحرية مع استثناء الأبناء والآباء والأحفاد والأجداد، ولكنا إذ نترك لهم تلك الحرية ينبغي أن ننبههم إلى أن يحرصوا كل الحرص على ألا ينجبوا للدولة أي طفل، فإذا لم تفلح احتياطاتهم فليضعوا في أذهانهم أن يتخلصوا منه لأن الدولة لن تستطيع أن تربي طفلا كهذا!!!. - تلك تدابير حكيمة، ولكن على أي نحو يميزون آباءهم وبناتهم وغيرهم من الأقارب الذين ذكرتهم؟ لن يستطيعوا تمييزهم قط، وإنما ينبغي أن ينظر الرجل منذ الوقت الذي يبدأ فيه زواجه إلى كل الأطفال الذين يولدون في الشهر السابع أو العاشر الذكور منهم على أنهم أبناؤه والإناث على أنهم بناته، وعلى هؤلاء الأطفال أن يدعوه بالأب، وعليه أن يعد أبناء هؤلاء أحفادا كما يعدونه هم جدا لهم وامرأته جدة لهم، كذلك ينبغي أن ينظروا إلى الأطفال الذين يولدون في الفترة التي ينجب فيها آباؤهم وأمهاتهم على أنهم أشقاء وشقيقات لهم، وبهذا يمتنعون فيما بينهم كما ذكرت عن كل اختلاط جنسي، ومع ذلك فإن القانون يسمح بزواج الأخ من الأخت إذا شاء الاقتراع ذلك وإذا ما أيدته نبوءة دولف!!!. - هذا عين الصواب!. - على هذا النحو أو ما يشابهه سيكون شيوع النساء والأطفال بين الحراس في الدولة، وعلينا الآن أن نثبت في حوارنا إن كانت هذه الطريقة ستتفق مع بقية أركان دستورنا وتمثل أسمى قواعده أليس كذلك؟ - بلى!"[285]. بهذا المسخ الفكري والكهن الشيطاني الخبيث نظر أفلاطون لجمهوريته الكلبية مؤسسا بذلك ديوثية الدولة وحكامها والمدرسة ومؤطريها والفن ومخرجيه!. وعلى هذا التنظير بنى الأوروبيون دعائم مجتمعاتهم وكرسوه في غياهب ظلمات أرجاسهم وأوهامهم إلى أن جاء عصرنا المسمى زعما بالتقني والعلمي ، فسعوا إلى بث ديوثيتهم عبر وسائل الاتصال السمعية البصرية في أغلب بقاع الأرض، وظهر تطبيقها لديهم على المستوى السياسي والسياحي والتعليمي والفني بشقيه المسرحي والسينمائي، والرياضي المتمثل بالعري شبه الكلي في مباريات ما يسمى بالالعاب الأولمبية نسبة إلى ما كان يجري به العمل عند اليونان في الماضي ، وهكذا حتى وصل تأثيرها إلى مجتمعات كان بعضها يعتبر قمة في العفة والغيرة فأصبحت تقلدها في أغلب صورها وعلى رأسها التقليد في الاختلاط المخطط والتبرج المغنج. ومن خلال هذه الصور النظرية الموروثة لدى الغربيين والمشخصة في الصور التلفزية والسينمائية وغيرها، تعرى الانسان الغربي ومن في صفه من الديوثيين الذين اختاروا أسوأ صور للحيوان ليقتدوا بها وهي الديوثية الكلبية التي تجمع بين عدم الغيرة والخنوثة والميل إلى التشبه بالنساء ، وبين الغضب والاذاية للحصول على الشهوة في غير محلها والشذوذ في توظيفها. ولقد كان الأولى بهؤلاء المرضى بداء الديوثية من حيث اعتبار انفسهم يدخلون في جنس الحيوان -حسب تعريف أرسطو- وهو "أن الانسان حيوان ناطق" أن يقتدوا بالظواهر الايجابية لدى بعض الأنعام كالجمل مثلا، والذي يوصف بالغيرة والتستر عند إرادة حاجته من أنثاه رغم أنه حقود كما يوصف من جهة أخرى، أو بالأسد الذي قد يستنكف أن يباشر أو يعاشر اللبوءة التي تكون تحت سلطته وفي دائرة منطقته التي يستأسد فيها حينما يشعر أو يحس بأنها قد تداولها غيره، وذلك غيرة منه وحفاظا على كرامته وأسبقيته حسب قانونه كحيوان رئيس في الغابة، للاسئثار بخصوصية أنثاه وتفرده بمباشرتها دون سواه كما هو ملاحظ في دراسة سلوك الحيوان من جنسه، بل إن الحمار رغم بلادته وغلبة شهوته عليه لحد الافتضاح يعد من أشد الحيوانات غيرة على أنثاه، بحيث قد يقوم بإجراءات عملية للحيلولة دون أن يشاركه فيها غيره جنسيا[286]. وإذا كان الحيوان يتمتع بفضيلة الغيرة في بعض أصنافه فإن غيابها عند الانسان قد تجعله أحسن منه وتفقده خصوصيته التي كرمه الله بها على سائر الحيوانات، والانسان كما يقول الغزالي: "على رتبة بين البهائم والملائكة، فإن الانسان من حيث يتغذى وينسل فنبات ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان ، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط، وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء. فمن استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة، فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكا وربانيا كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام، فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم فيصير إما غمرا كثور او متكبرا كنمر أو ذا روغان كثعلب أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد..."[287] "...فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر والسبع يدعو بالغضب إلى الظلم والإيذاء والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه، والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق الواضح، وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه، إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه ويجعل الكلب مقهورا تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويرضي الكلب..."[288]. وحينما لا يحافظ الانسان على خصوصيته ويهوي على رأسه في غياهب الحيوانية بصورها السلبية من جانبها الشهوي والغضبي، فإنه قد لا يغار على جنسه ولا على نوعه، ولا يغار على دينه ولا على وطنه، إذ سيكشف عورات بيته ويعري جسم زوجته وبنته وكل محارمه، وسيكشف أسرار أمته ووطنه لأعدائه. بحيث سيصبح عضوا فاسدا في كل سلوكه ووبالا على مجتمعه، حتى لقد يمكن أن ينطبق عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم "اقتلوا من لا غيرة له" وذلك على سبيل الردع والمنع من استفحال هذا الشذوذ، لأنه إذا لم يتم وقف زحفه فإنه سيفسد ما تبقى في الأرض من العفة والفضيلة والغيرة الحافظة لنقاء وسلامة الأنساب والحياء وما يصونه بالحجاب. يقول الله تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخدته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد، يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم[289]. صدق الله العظيم وهو يتولى الصالحات والصالحين. المصادر والمراجع [265] الغزالي، إحياء علوم الدين ج 3 ص 168. [266] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث شداد ابن أوس [267] المحاسبي، الرعاية لحقوق الله، دار الكتب العلمية بيروت 1409 - 1985، ص : 344 [268] ابن قيم الجوزية، الروح، دار الكتب العلمية بيروت، ص : 189 [269] المحاسبي، الرعاية لحقوق الله، دار الكتب العلمية بيروت 1409 - 1985، ص 433 [270] الغزالي : منهاج العابدين، ص 185