أولاً: إشكالية اللغة والهوية أية محددات بعيدا عن كل مظاهر التعصب والعنصرية سأحاول أن اطرح باختصار مسألة العروبة وصلتها بالتاريخ واللغة والدين وذلك من منطلق تحليل علمي نفسي وعقدي وملاحظة ميدانية استقرائية. فمن حيث المبدأ يمكن لنا أن نقول بأنه لا ينبغي التمييز بين شعب وآخر ولا لغة ونظيرتها ولا لون عن مغايره أو بلد عن مجاوره طالما أن الجميع قد يخضع بالأصالة إلى هوية الإنسانية والأرض والحياة. إذن فالأصل في الإنسان أنه حيوان ناطق وكائن شعوري بوعيه واجتماعي ومدني بطبعه. وقبل هذا أو ذاك "كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى" وحينما يصبح هذا الإنسان في صورة مجتمع متعدد الأفراد والأنماط فقد يتفاضل بسلوكه ونوعية تواصله قبل لغته ومصطلحاته، وبعدها بأنماط عيشه ومدنيته وحضارته. من هان فقد يبدأ العد التصاعدي للتفاضل والمنافسة بين الشعوب والأمم وإبراز خصائص الهوية، التي قد تبقى مجرد حلقة ظرفية لا غير ودعوى زئبقية غير ثابتة أو مستقرة تمام الاستقرار، طالما أنها قابلة لأن تندس بداخلها عناصر وتصورات أبعد ما تكون عن مفهوم الهوية المقابلة للماهية والجوهر المميز للعناصر بعضها عن بعض كما هو الشأن في عالم الذرات والجواهر المادية. من هنا وباختصار شديد فقد يطرح موضوع اللغات والخطاب الإنساني المتداول: هل هو يدخل في حكم الهوية الثابتة والمحددة لتموضع الإنسان في الوجود أم لا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل اللغة وحدها كفيلة بأن تفضل هذا الشعب أو العرق على الآخر أم لا، وهل هذا التفضيل يبقى مطلقا أم أنه مجرد حركة تخضع للمد والجزر التاريخيين ليس إلا.. وإذا كان الجواب بالنفي فأين يكمن إذن سر الهوية ومزاعم الأصالة والسكان الأصليين باسم اللغة واللهجات والعادات والرموز والتقاليد؟. هل الهوية تختص بالاعتقاد ودقته وعمقه على اعتبار أن الإنسان وليد عقيدته وعقيدته محور تصوره،أم بالحرف وسمو رسمه وشكله أم باللباس وطريقة تناغمه وتناسقه....؟ لا شك أن في كلا السؤالين إشكال معرفي وفكري يصعب تخليصه بالسهولة المتوخاة والمزاعم المفتعلة والأحكام الجاهزة التي سرعان ما ينكشف زيفها وسخافة قناعها منذ النفخة الأولى!. فإذا كانت اللغة كمجرد اصطلاح هي المحدد للهوية فأين سنضع ذلك الإنسان الأبكم الذي لا ينطق بأية لغة أو مصطلح متداول لدى هذا الشعب أو ذاك، رغم قدرته على التواصل بالإشارة وفهم مقاصده ومطالبه؟فهل نعتبره بغير هوية وأصالة، وهذا ظلم لإنسانيته وكرامته ؟أم أننا نهبه حقه في الهوية بنسبته إلى لغة من اللغات التي يكون موجودا بمحيطها في بلد ما، وهذا إسقاط وتزوير لمفهوم الهوية لا غير،أم أننا نعود به إلى المعنى الأصلي للغة وهو اعتبارها مجرد وسيلة للتواصل قد كان الأصل فيها هو الإشارة قبل المصطلح والحروف والرسوم وما إلى ذلك؟. يرى ابن حزم الأندلسي أن اللغة مسألة ضرورية لدى الإنسان وليست مكتسبة، فهي تلقين من الله تعالى ابتداء، ويستند في هذا الرأي إلى قول الله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها". فهذه هي اللغة الضرورية غير الاصطلاحية، إذ كل إنسان قد كان في حالة الصغر ممتنع الفهم ومحتاجا إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه من عمل المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم،فهذا من الممتنع المحال ضرورة". بعد هذه التحليلات التي اختصرناها بشكل مجحف سيلخص لنا الموضوع قائلاً: بأن هذه الحقائق المذكورة دليل برهاني وضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى ومن أدلة وجود النبوة والرسالة، لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام". (الإحكام في أصول الأحكام ج1 ص30). هذا الرأي قد نجد له مطابقا عند علماء السيكولوجيا اللغوية في العصر الحديث، بحيث قد استنتجوا أن القدرة اللغوية واحدة في النوع وذلك من خلال ملاحظة الجماعات البشرية التي لا تخلو أية منها عن لغة، بالإضافة إلى هذا فقد لوحظ أن الفوارق طفيفة في تعقد الأوصاف لمختلف اللغات فيما يخص مجموعة القواعد اللغوية المجردة، وهذه الملاحظات قادت الكثيرين من دارسي العمليات اللغوية إلى الاعتقاد بأن الكثير من وجوه قدرتنا اللغوية فطرية.. فيما قد ذهب ابن حزم أيضا إلى تناول نقطة مهمة جدا وهي ربط اللغة بالمجتمع والسياسة والحضارة وأثر كل ذلك عليها. بحيث يرى أن الاضطهاد والظلم والحاجة والمذلة والسخرة تميت الخواطر، وهذا فيه تأثر نفسي بالغ وشعور بالإحباط قوي بسببه قد تموت الخواطر ويتقلص مستوى الإبداع اللغوي الذي هو عنوان القوة الفكرية والقدرة الفنية والجمالية لدى الشعوب. وفي حالة هذا الإحباط فلن تبق قوة لربط المعلومات ببعضها البعض أو إحداث تشكيلة مناسبة للعصر ومتطلباته التعبيرية فتندثر حينئذ العلوم وتبيد.. هذا الموضوع قد يجرنا بالضرورة إلى تناول إشكالية الفكر واللغة وأيهما أسبق في وعي الإنسان وحساباته، قد لا نستطيع تناوله بتفصيل في هذه العجالة،وهو ما قد تناولناه بتفصيل في كتابنا القريب من الصدور عن دار غراب تحت عنوان "الفكر السلوكي عند ابن حزم الأندلسي" فترقبوه. لكن المستخلص السريع من هذه المقدمة اللغوية هو أن اللغات الفطرية، والمقصود منها مجرد التواصل والتعبير، هي لغات موحدة في الأصل بحكم فطريتها رغم اختلاف لهجاتها وذلك باعتبارها مسألة ضرورية لبقاء النوع الإنساني وتأسيس الشعوب والحضارات. أما كاصطلاحية فهي تبقى دائما ظرفية ومتنامية أو متراجعة بحسب حظها من العانية والتوظيف، وخاصة على مستوى البيان والأدب والتأليف، وبحسب أيضا المجال الذي وظفت فيه للتعبير عنه بتركيز وإلحاح وحضور رسمي، فترقى برقيه وتسفل بسفوله وانحطاطه. ثانيا: محورية العربية والمفاضلة بالإضافة من هنا وبحسب هذه المقاييس الموضوعية والعلمية المختصرة نطرح بالضرورة مسألة اللغة العربية المتعرضة حاليا من طرف الصديق والعدو والجار والجِرْو إلى حملة مسعورة للتقليل من شأنها ودورها الحضاري والإنساني على مر العصور، وخاصة بعد ارتباطها بالنص الديني المقدس والمعجز لكل الأنام ألا وهو: القرآن الكريم وبعده الحديث النبوي الشريف الذي أوتي مجامع الكلم وأحلاها. هذا الطرح سنتناوله من باب تبيين موجز لقيمتها بين اللغات وقوتها وتساميها واتساع فضائها باتساع خواطر مستعمليها وبنوع إضافتها ورقي مضافها كما سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه عن قيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله على كل البشر بقولهم: صف لنا محمدا، فقال: بإيجاز أم بإطناب؟ قالوا: بإيجاز. قال محمد رسول الله، والرسول على قدر المرسل! على هذا المقياس فاللغة العربية هي لغة القرآن والقرآن كلام الله المعجز للإنس والجن، المعتقد فيه وغير المعتقد على حد سواء وللعربي والعجمي من كل الأرجاء، وقيمتها على قدر إضافتها وارتباطها حرفا ونسقا وترتيبا بهذا الكلام المقدس،ورهينة أيضا بمدى استعمالها في تفسيره وتأويله واستغراق الزمن والجهود في توظيفها لكشف أسراره ومعانيه وتبليغها إلى العالمين من عرب وعجم، مما يعني وجود حياة وحركية دائمة للخواطر لدى الأشخاص المتكلمين بها والمتناولين لها في خدمة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. ولا توجد لغة في العالم وظفت وما زالت بهذه الكثافة والتفريع الاصطلاحي واستعمال المجازات والأقيسة في تخليص المجرد من المجسد والمحمول من الموضوع والصورة من الماهية والارتقاء من عالم الشهادة إلى عالم الغيب مثلما هو عليه حال اللغة العربية! شهد لها بهذا العرب والعجم معا، بل العجم من ذوي النيات الصافية والقلوب الطاهرة وخاصة في دول آسيا، كإندونيسيا وماليزيا مثلا، قد يتشرفون بتعلمهم اللغة العربية ويتسامون بها ويفضلونها بطيب خاطر على لغتهم الأصلية لهذه الإضافة القدسية التي حظيت بها عن سائر اللغات في العالم وهي: ارتباطها بالقرآن الكريم اصطلاحا وإيقاعا موسيقيا وفنيا يحرك القلوب ويلهب المشاعر ويهذب الطباع والأخلاق التي لا يرفض التحلي بها إلا ملحد أو زنديق أو وبش غجري متسخ ومن يدخل في حكمه من رواد الشعوبية العفنة. يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الطوسي النيسابوري الفارسي رحمه الله تعالى حول موضوع الألفاظ وخصوصية اللغة العربية في توسيع دائرة معانيها،أذكر على سبيل المثال: لفظة الأصبع، بأنه "يستعار في لسان العرب للنعمة، يقال لفلان عندي أصبع أي نعمة، ومعناها بالفارسية (انكشفت) وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة، وتوسع العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم،بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم، فإذا أحسن إرادة المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم نفر القلب عما مجه السمع ولم يل إليه، فإذا تفاوتا لم يكن التفسير تبديلا بالمثل بل بالخلاف ولا يجوز التبديل إلا بالمثل "إلجام العوام عن علم الكلام ص65 دار الكتاب العربي بيروت. فإذا كان هذا القصور من طرف الفارسية التي هي لغة حضارية وتاريخية فما بالك باللغات البدائية ومن هي قريبة منها وليس لها رصيدها الحضاري كالتي سبقت، سواء كان ماديا مدنيا أو ثقافيا لغويا وأدبيا مواكبا لحضارات العالم ولغاتها بالتنقيح والتطوير والتدوين والصيانة؟ لا شك أن تلك اللغات أو اللهجات ستكون أقل من الأقل وأضعف في التعبير والإيقاع وأكثر إماتة للخواطر، بدل العمل على إحيائها، وهدرا للأخلاق والقيم عوض ترسيخها كما سبق وأشرنا من خلال رأي ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى. فمها تقدمت الحضارات والمدنيات وتطورت لدى الدول الأعجمية التقنيات والمعلوميات وقويت لديها الجيوش والأسلحة إلا أنها مع ذلك تبقى قاصرة حضاريا وبيانيا عن ملاحقة اللغة العربية ومنافستها في اتساع معانيها وتسامي تعبيرها وإيقاعاتها الموسيقية والفنية وفصاحتها المرتبطة بمخارج الحروف وشموليتها لها، لأنها لغة الضاد والاستثناء، والتي تجسدت على أعلى مستوياتها الفنية في تجويد القرآن الكريم ووظفت في الأشعار الصوفية بمعانيها وموسيقاها الروحية في أبهى حلل الجمال والذوق الذي يطرب له كل كائن حي بقلبه وشعوره، قد ينال منه العجمي من الأوروبيين والأسيويين وغيرهم قبل العربي في كثير من الأحيان. بل لقد كان لهذه الأشعار وإيقاعاتها الإنشادية آثار قوية على الغربيين وخاصة في أوروبا كما يقول الدكتور علي سامي النشار:"ولدى الباحثين ما يثبت أن التروبادور اللاتينيين قد حملوا الموسيقى العربية من الأندلس إلى البروفانس في فرنسا خلال صوفية الإسلام، بل وجدنا أيضا كيف نفذت الأغنية الصوفية العربية خلال سان خوان دي لاكروا ودخلت إلى أناشيد الكنيسة..."الفكر الفلسفي في الإسلامي ج3ص22. باختصار شديد أقول بأن كل محاولة للنيل من اللغة العربية أو العرب أنفسهم كعرب هي تعبير عن شعوبية مقيتة ونزعة ذات خلفيات حاقدة على الجمال والكمال في البيان الإنساني الذي خص الله به العرب دون غيرهم. فالتمنع الإنساني الذي يحظى به العرب بلغتهم هو مما يفسر لنا هذا التكالب الدولي على الحط من قيمتهم والتنكيل برجالهم أشد تنكيل علهم يستنقصون من قدرهم، كما فعلت أمريكا مع الشهيد صدام حسين -رحمه الله تعالى- الذي لم يزدد بفعلتهم الشنيعة تلك في حقه وحق كل العرب ومعهم المسلمين قاطبة إلا عزة وكرامة واستشهادا بطوليا وثباتا على الشهادة، كما لم يحصل لأعدائه إلا الذل والهوان والخزي في التاريخ ويوم يحاسب الأنام. ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:"ويل للعرب من شر قد اقترب"رواه البخاري، فالحديث جاء على وصف وبيان خصوصية لغوية لكل الناطقين بالعربية،لأنهم مستهدفون بالعداء كعرب قبل أن يكونوا مسلمين،واستهدافهم هذا مرتبط بالانتماء اللغوي الذي يمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم العربي الهاشمي المرسل رحمة إلى العالمين. من هنا فحيثما وجد عربي فهو مستهدف بالعداء والتحقير والشتم من طرف أعداء الأمة الإسلامية والملاحدة وعملاء المستعمر الغاشم، بالرغم من أن بعض العرب قد يكون فيهم الملحد والنصراني واليهودي والمجوسي وغيره، ولكن بما أنه عربي فهو مستهدف ولن يؤمن جانبه من طرف أعداء الأمة،إذ العرق دساس والعصبية ماثلة بين بني القوم،فلا بد من غيرة تتحرك لنصرة العربي ولو كان ظالما،حسب ما كانت عليه قاعدة العرب في الماضي. من هنا فقد جاءت القاعدة النبوية كما يروى: "من أحب العرب فبحبي أحبهم ومن كره العرب فبكرهي كرههم" وبهذا فقد كانت العربية محور اللغة والحضارة والتاريخ وبؤرة الصراع الدولي إلى أن تقوم الساعة. يقول ابن قتيبة فيما نقله عنه أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام ج1 ص56: "ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصبا للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكرة القرى، فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبا ثابتا"، والله هو العليم الخبير بالنوايا والمقاصد.