(تقول عامة الشعب "أنّ السلطان يُفسد الإنسان في وهلة"، لكن الأخطر من هذا هو إفساد الإنسان للسلطان وهذا ما يحدث في الغالب) يوري أندروبوف "" نتناول موضوع السلطان في هذا المقال من الجانب النظري فقط، ولا نقصد به أي نظام كان. و ذلك لما تكونت لدى الجماهير من علاقة سلبية اتجاه هذا المفهوم و كل ما اتصل به، حيث اعتبرته قوة لردع كل معارض غير راض على سياسة الدولة المتبعة. هذه النظرة الجماهيرية تتفق و رؤية الفرنسي بيير بورديي الذي كان يرى أنّ "السلطان هو القوة المستعملة من طرف الدولة لردع الأفراد". و هي رؤية، حسب رأينا، ضيقة لهذا المفهوم. لأن السلطان أداة ضرورية لتنظيم المجتمع و الحفاظ على وحدته و دعم حيويته و الدفاع عن ترابه. فنجاح أي مجتمع لا يتم إلا بنجاح سلطانه و إخفاقه هو نتيجة لإفلاس هذا السلطان. فعندما ينجح هذا الأخير في نهج سياسة رزينة هدّافة، فإنه يعمل على تنمية كل المجالات الحيوية لمجتمعه. في حين يؤدي إفلاسه بالمجتمع إلى كوارث إقتصادية و أزمات سياسية و خلل أخلاقي في العلاقات بين الأفراد. و هذا يؤدي بدوره إلى فتن وفوضى داخل حدود الدولة. إن السلطان عموما يمثل الرصيد التاريخي و التراثي و الاجتماعي للشعب. فهو مرآة تعكس تاريخه وتقاليده وثقافته. و هذا يعني أن الحاكم ما هو إلا نتيجة لهذه العناصر الثلاثة المعبرة عن نظرة المجتمع المعني للسلطان و التي تكونت لديه عبر العصور. لكن السلطان لا تمكنه الحياة إلا بدعم من المجموعة البشرية المسماة في الأعراف الدولية بالشعب. هذه الحقيقة التاريخية قد استوعبها الفكر الإنساني منذ القدم. فعلى سبيل المثال نجد كونفوسيوش يعمل جاهدا لإعطاء سلطان الإمبراطور مشروعية لا منازع لها و كسب دعم الشعب له و ذلك بإعطائه صبغة قدسية حيث ربطه بالإرادة الربانية "السلطان و قدر الإنسان و مكانته الاجتماعية تحددها السماء /أو الإرادة السمائية/ (داوو)". لذلك فسلطان الإمبراطور، في نظر كونفوسيوش، مقدس و لا ينازعه فيه أحد إذ ما هو إلا إرادة السماء التي فضلته على الباقي و منحته حكم الشعب. فهذا قدره و ليس خياره. و في هذا الإطار شبه كونفوسيوش الإمبراطور بالأب و الشعب بالأسرة و العلاقة القائمة بينهما بالأسرية. كما قسم هذا المفكر الصيني المجتمع إلى نبلاء، و هم الفئة العليا وجب احترامها و الخضوع لها، و إلى العامة و هي الفئة الدنيا في الهرم الاجتماعي و عليها الطاعة. و قد دعا كونفوسيوش المجتمع الصيني إلى إقامة علاقة عدل و إحسان بين الإمبراطور و حاشيته من النبلاء و عامة الشعب. و وضع لهذه العلاقة أسس معينة من بينها: ا- الشعائر (لي)، ب- و حب الإنسان لأخيه الإنسان (جين)، ج- و الاهتمام بأمور الناس (شو)، د- و احترام من هو أكبر سنا أو مركزا (سياوو)، ه- الإخلاص للحاكم (تشيجون)، و أخيرا الواجب. بهذه الرؤية للسلطان عند كونفوسيوش أصبح الشعب خارج القرار السياسي و بات السلطان ذا صبغة أريستقراطية و مقدسة. و قد جعلت الدولة الصينية من هذه النظرة إيديولوجيتها الرسمية لعصور طويلة وحافظت عليها إلى سنوات 1911 – 1913 حيث قامت ثورة شنغاي. لم تنفرد الصين بهذه النظرة الفئوية للسلطان بل شاركتها فيها دول عديدة نذكر منها روسيا القيصرية إلى غاية سنة 1917 و أوروبا الغربية إلى أن استولى نابوليون على الحكم بفرنسا. إن السلطان اليوم يشمل مفهومين: السلطان السياسي و سلطان الدولة. و بالرغم من كون الفاصل بينهما رفيع إلى درجة الشفافية، و بالرغم من أنه يمكن استخدامهما، في بعض الأحيان، كمرادفان لمفهوم واحد إلا أنّ الأول المقصود به هي التنظيمات الاجتماعية-السياسية و المدنية المؤثرة في التوجه السياسي للدولة من أحزاب و جمعيات و مواطنين..إلخ. بينما الثاني يراد به هيآت الدولة المعتمد عليها في تسيير المجتمع و التأثير فيه على مستوى التشريع و التنفيذ و القضاء. إن العلوم السياسية اليوم لا تملك رؤية واحدة في مفهوم السلطان إذ تعرف عدة اتجاهات ذات فتاوي فقهية مختلفة في ماهية الإشكالية حسب الزاوية المنظور منها إليها. و نذكر منها: -الاتجاه البنيوي-الوظيفي: و ينطلق في رؤيته للسلطان من كون طبيعته و ماهيته يحددها نسق العلاقات بين أفراد المجتمع من إقتصادية و اجتماعية و سياسية و أخلاقية و دينية و أخرى. لذلك يرى هذا الاتجاه أن السلطان يظهر كضرورة موضوعية لدى المجتمع لتنظيم و ضبط هذه العلاقات. ففي كل مجتمع هناك مصالح فردية و أخرى جماعية كثيرا ما يؤدي التضارب فيما بينها إلى صراع و صدام. -الاتجاه السيكولوجي: و تزعمه الطبيب النفساني النمساوي الشهير فرويد و عالم النفس السويسري يونغ. و يرى هذا الاتجاه أن طموح الفرد للسلطان قابع في تكوينه السيكولوجي و قد يظهر في أشكال مختلفة. لكن العالمان يؤكدان على عدم تعميم هذا الطموح بشكل مطلق على كل الأفراد، لتواجد عناصر في هذا التكوين ترجح لدى البعض خيار الإدعان لأقوياء العالم على السلطان و الحرية. ذلك لأن خيار الاستقلال و السيادة صعب و شاق و طويل المدى، بينما الخضوع للسيد أسهل و أريح. كما أن الطموح للسلطان و السيادة يتطلب من الفرد توفره على طبع خاص و كفاءات معينة لا تتوفر إلا عند البعض مما يجعل السلطان حكرا على الأقلية. -الاتجاه البراغماتي: و ينطلق من كون السلطان هو أداة مهمة لتحقيق المستوى المادي المطلوب لدى الفرد و راحته النفسية. فالسلطان عند هذا الاتجاه يعطي للفرد إمكانيات هائلة لتحقيق طموحاته المادية و إشباع غروره الذاتي من دخل عالي و مكانة مرموقة في المجتمع و نفوذ و امتيازات. لهذا و حسب هذه الرؤية فالسلطان ما هو إلا وسيلة لتحقيق مصالح و طموحات الفرد. -الاتجاه الماركسي: يربط السلطان بظهور الطبقات الاجتماعية، لذلك فهو ذو طابع طبقي. فالماركسية تفسر السلطان على أنه سيادة طبقة مسيطرة إقتصاديا على طبقة أخرى أقل حظ من الجانب الإقتصادي. و ما دام إقتصاد المجتمع يرتكز على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج فإن السلطان سيبقى فيه أداة لقمع و تقييد الطبقة العاملة و استخدامه لاستغلالها. و لتغيير هذه الوضعية لا بد من تغيير جدري لبنية المجتمع الإقتصادية، حيث تعوض الملكية الفردية بالقطاع العام و تسود فيه الطبقة العاملة على البرجوازية. Neomodernism- أو الحداثة الجديدة: هذا الاتجاه أصبح سائدا خلال العقود الأخيرة و قد سبق و طرحنا نظرته للسلطان أعلاه و قلنا فيه أنه يتطابق و رؤية الجماهير للإشكالية. مهما يكون من أمر السلطان فإننا نعتقد أنّ كل هذه الاتجاهات منعزلة عن بعضها البعض لا تعبر إلا عن جانب واحد من هذا الموضوع و في مجموعها تكون نواة لمفهومه مع تشعب أطرافه. و الحقائق التاريخية أثبتت أن لكل اتجاه نصيبه من الحقيقة و صحة الرأي. و ما يمكن الاتفاق عليه بالإجماع هي مواصفات سلطان الدولة الضرورية و هي: الشرعية: وتتطلب إلتزام الدولة بالقوانين المشرعة و احترامها و عدم التعالي عليها أو جعلها للعامة دون الخواص. كما أن الشرعية تستوجب دعم الشعب قاطبة أو أغلبيته عن طواعية و دون ترهيب مادي أو نفسي. هنا لا بد من الإشارة من أن الدولة قد تلتزم بالقوانين و تحترمها لكن هذا لا يضمن لها دعم الشعب و تأييده إذا كانت سياستها فاشلة. الأخلاقية: وتستوجب من الدولة أن تكون صادقة و نزيهة و أن تتصرف بشكل يتسم بالشفافية في استغلال الموارد لصالح كل أفراد المجتمع، و أن تفكر دوما في مصلحة الشعب. السيادة: وتقتضي تنفيذ كل قرارات الدولة الإقتصادية منها و السياسية و التشريعية و أخرى من طرف المواطنين. و لتحقيق هذا الهدف من الواجب سيادة الدولة على المجال الإقتصادي حتى تتمكن من الهيمنة سياسيا و إيديولوجيا.. لكن مع ربط سيادتها بالسهر على مصالح الشعب قاطبة و إلا تحولت إلى ديكتاتورية. التأثير: ويتمثل في قدرة الدولة على توجيه المجتمع بكل فئاته و تنظيماته بالأساليب الحضارية و تغيير رؤية أفراد المجتمع فيما قد يُختلف حوله بالحوار البناء و المدني. الكفاءة والفعالية: و تكمن في المشاريع الحقيقية المكشوفة للعين المجردة و نتائجها الملموسة على أرض الواقع. فثقة الشعب بالدولة و سلطانها متعلقة بكفاءتها و فعاليتها في كل من الجانب الإقتصادي و السياسي و الاجتماعي.. هذه هي المواصفات التي لا بد للدولة و سلطانها من التحلي بها إن أرادت أن يمنحها الشعب ثقته و دعمه. و لا يمكنها التحلي بإحداها وترك الأخرى. هكذا نكون قد استعرضنا لمفهوم السلطان بشكل وجيز للغاية، و قد يكون للآخرين رأي في مفهومه مخالف لما جاء في المقال، الذي هو حصيلة مجموعة محاضرات لمختصين في العلوم السياسية بكلية العلاقات الدولية كان لي شرف المشاركة فيها و التعبير عن ما أراه نظرة موضوعية لمفهوم السلطان. [email protected]