استطاع الفلسطينيون أن يحققوا انتصارا كبيرا على إسرائيل، لأنهم قتلوا أزيد من 500 جندي وجندية من جيش الاحتلال، دون المدنيين المستوطنين، وهو ما لم يتحقق سوى في المواجهات الكبرى بين الجيوش العربية وإسرائيل. (779 قتيلا إسرائيليا في حرب خامس حزيران 1967) في حرب غير متكافئة، بين جيب فلسطيني صغير لا يتجاوز 365 كيلومترا مربعا، ودولة قوية بمساحة 20700 كيلومترا وبجيش قوي يقال إنه لا يقهر، وأنه من ضمن العشرين الأقوى في العالم. في السابع من شتنبر شنت حماس هجوما مفاجئا على الغلاف الإسرائيلي المحيط بغزة، وقتلت الكثير من الإسرائيليين دون الأسرى ثم اختبأ عناصرها داخل غزة في انتظار رد فعل الجيش الذي لا يقهر، ثم بدأت حرب الأنفاق والشوارع والصواريخ وامتدت إلى اليوم، ولن تعرف النهاية إلا باستيلاء جيش الاحتلال لرفح والمنطقة الحدودية مع مصر. وليست إسرائيل وحدها التي سقطت في هذا النوع من حروب الإنهاك، فقد سبق للولايات المتحدة أن تكبدت خسائر هائلة في معركة إيوجيما وأوكيناوا ضد اليابانيين والفيتناميين، كما عرف السوفياتيون المصير نفسه في أفغانستان. كما تكبدت إسرائيل نفسها هزيمة قاسية في جنوبلبنان بهذا النوع من القتال. لكن هذا الأسلوب القتالي له قاسم مشترك، هو الكلفة البشرية. كلما ارتفعت أعداد الضحايا من العسكريين والمدنيين إلا وكان طعم الانتصار مرا علقما. وحتى في الحروب الكلاسيكية تقلب الكلفة البشرية الانتصار إلى هزيمة قاسية في العمق، يتجرعها الشعب بعيدا عن الأفراح والخطب الرسمية. نذكر هنا أن انتصار الاتحاد السوفياتي على النازيين كان مكلفا بشكل رهيب، حيث قتل أزيد من 26 مليون بين عسكري ومدني، لأن ستالين لم يكن يعطي قيمة لحياة البشر، خاصة المدنيين. إلى غاية اليوم، قتل أكثر من 28000 فلسطيني، أغلبهم مدنيون، وتم تهجير الباقي نحو الحدود المصرية بالعنف، وسوى الإسرائيليون غزة بالأرض، وبقيت الأنفاق وحدها صالحة للاستعمال، وقد ابتلعت ملايين الدولارات من الاستثمارات الاستراتيجية العسكرية، ربما بسبب سخاء قطر أو إيران أو عن طريق تحويل المساعدات الإنسانية. نحن نتفهم الثورة القومية التي خلقها طوفان الأقصى، حتى تحركت مشاعر العرب والمسلمين فاجتاحوا الشوارع في مدن العالم، واحتل التعاطف مع الفلسطينيين كل العوالم الافتراضية، وهلل الإخوان المعتدلون والمتطرفون بنصر الله لعباده، وأصبح قادة حماس أبطالا وأشاوس موعودين بالجنة. ثورة تحولت إلى مس من الجنون، لا يرى صاحبه شيئا فيما يتلقى من الأخبار والمعرفة والعلم والتواصل إلا قرب القضاء على اليهود. ماذا تبقى من غزة؟ المقاومة على رأسي وعيني لكن بكم؟ ما هو مستقبل الفلسطينيين بعد هذا الطوفان؟ لماذا حمل الجثث الفلسطينية من شمال غزة إلى جنوبها؟ لماذا ضرب الأحياء بركلة واسعة هجّرت الغزيين من غزة إلى رفح؟ أليس هذا نوع من الكاميكاز؟ أليست هذه مقاومة بلا عقل؟ لماذا طغى الجنون القومي والديني على حسابات الربح والخسارة؟ ألا يكون الفلسطينيون حطب انتقام إيراني من إسرائيل؟ أنظروا إلى الحوثيين الذين لا يمتلكون حتى أمان رغيف يومي يغلقون طريق التجارة العالمية بأوامر من إيران. من هم الحوثيون في الميزان العسكري العالمي دون الدعم الإيراني؟ شعب لا يتجاوز دخله 300 دولار للفرد يريد تغيير خارطة المنطقة بقتال حلفاء إسرائيل كيفما كانت قوتهم. لقد تأكد أن العرب والمسلمين يلغون العقل أمام العاطفة ولا يفيقون إلا بعد فوات الأوان، ليرجعوا إلى بكائياتهم السقيمة، ويدقون الأبواب في ذل رهيب، "ألا من يمد يده لإعمار غزة أيها الأشقاء، يا إخوتنا في الإسلام؟ أين النخوة والشهامة؟ يا أمة محمد؟"....