قد تكون المقاومة وسكان غزة قدموا تضحيات هائلة في الأرواح والدماء والأنفس، لكن القضية الفلسطينية وحرية الشعوب واستقلالها غالبا ما تتطلب هذا النوع من التضحيات الجسام التي تفوق أحيانا قدرات الخيال البشري على الاستيعاب. والمؤكد أن ما بعد طوفان الأقصى والعدوان الغاشم الذي تتعرض له غزة سيكون مختلفا بالضرورة عمّا قبله. لقد أظهرت عملية طوفان الأقصى أن الجيش الإسرائيلي جيش يُقهر كباقي الجيوش، وأنه يعتمد بالأساس على الدعم الغربي، لا سيّما الأميركي في التسليح والتخطيط والتمويل والدعم السياسي والدبلوماسي. هذه الحقيقة التي أصبحت اليوم ساطعة أكثر من أيّ وقت مضى تضع إسرائيل أمام اختبار حقيقي. هذا الاختبار هو المتعلق بحسم النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي عن حقيقة المشروع الذي يريده الإسرائيليون في منطقة الشرق الأوسط. هل يريدون فعلا العيش في دولة آمنة مطمئنة جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين أم إنهم يرغبون في استمرار حالة الاحتقان وعدم الاستقرار حفاظا على تماسك الجبهة الداخلية؟ هناك مؤرخون ومحللون كانوا دائما يتهمون ساسة إسرائيل بالميل الدائم إلى أجواء الحرب لأنها تمثل دعامة هذا المجتمع المتعدد الأعراق والثقافات، ولأنهم يدركون أن دخول إسرائيل في حالة استقرار وسلام طويلة الأمد سيهدد تماسك هذا المجتمع ويُظهر إلى السطح خلافاته العميقة وقد يؤدي ذلك إلى دخوله في مواقف صراع وربما تطاحن أهلي. لذلك يفضل قادة إسرائيل ترك العديد من الجبهات المفتوحة في غزة أو في لبنان حفاظا على هذا التماسك والالتحام الوطني الداخلي وخوفا من مجابهة أزمة الهوية العميقة التي يعانيها المجتمع الإسرائيلي. لكن الكلفة التي دفعتها إسرائيل يوم 7 أكتوبر كانت غير مسبوقة ورهيبة ومرعبة بالنسبة لمجتمع يحاول أن يقنع مواطنيه برغد العيش في وطن آمن، وعدم الهجرة منه للعودة إلى أوطانهم الأصلية الآمنة تماما. ربّما تبدو إسرائيل اليوم محكومة بمنطق الانتقام وجبروت الردّ وكأنها ستطلق حربا أبدية لا نهاية لها، حربا أشبه بيوم القيامة. لكن من المؤكد أن انتهاء هذه المواجهة الجديدة في غزة وتعرّض الجيش الإسرائيلي لخيبات أمل جديدة بسبب فشله في عملية الاجتياح البري وعدم نجاحه في استرجاع الأسرى سيعيد من جديد إلى المجتمع الإسرائيلي جدوى النقاش حول مستقبل إسرائيل بين السلام والحرب. بعبارة أخرى فإن السؤال الذي سيطرح نفسه بقوة في المجتمع الإسرائيلي مباشرة بعد نهاية هذه المواجهة هو: ما هو مستقبل إسرائيل بين الحرب والسلام؟ لقد اتضح بعد عقود طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي ثم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أن إسرائيل تستطيع فرض الأمر الواقع واحتلال الأرض وترحيل سكانها، بل وتغيير الجغرافيا وتزييف التاريخ أحيانا، لكنّها لن تنجح أبدا في وأد القضية الفلسطينية التي عادت من جديد بعد 7 أكتوبر إلى الواجهة الدولية والعربية بقوة. يكفي أن ننتبه إلى ما يجري من مظاهرات في مختلف العواصم العالمية والعربية للتنديد بالعدوان كي نفهم أن دمار الحرب والمواجهات الظرفية المحكومة بمفاوضات مرحلية عن الأسرى أو وقف إطلاق النار لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحجب السبب الحقيقي لهذه المأساة المتواصلة منذ أكثر من 75 عاما. عندما سيكتشف الإسرائيليون إذاً أن الهزيمة العسكرية أمام حركة مسلحة مثل حركة حماس أمر ممكن الحدوث، وأن الخسارة لا تحسب بقدرة الدول والجيوش النظامية على قتل المدنيين ودك مدنهم ومستشفياتهم، حينها قد يعود صوت العقل إلى الموازنة بين خيارين يبدوان من المنظور العالمي والعربي واضحين وبسيطين: خيار السلام الذي يقوم على دولتين مستقلتين متجاورتين تعيشان جنبا إلى جنب في أمن وأمان، وهذا ما عبرت عنه المبادرة العربية للسلام منذ 2002 بناء على حدود 1967. أو خيار الحرب والمواجهة الذي يعني باستمرار أن الأيام دول، وأن انتصار اليوم وهيمنته قد تتحول إلى هزيمة وتراجع في الغد.