صنوان، إذا عم الاستبداد استشرى الفساد، والفساد مظهر وثمرة للاستبداد، لأن كل مستبد فاسد ومفسد، وهذه هي المعادلة الدقيقة والعميقة. وكلما تمكن الاستبداد، وطال أمده، وأرخى ذيوله، وتعمق وتمكن، إلا وصعب اجتثاثه، ووعر اندثاره، فهو في ذلك مثل الشجرة التي طال عمرها، وعمقت بجذورها في باطن الأرض أعماقا، فصارت صلبة الجذوع والعروق، وكذلك الشأن في الاستبداد فإنه لا ينبغي أن يظن ظان أو يعتقد معتقد أن الاستبداد سيرحل ويختفي بين العشي والإبكار، وسوف يولي مدبرا غير مقبل ولا معقب، فهذا ظن الذين لا يفقهون طبائع الأشياء، ولا يقفون على سنن الله تعالى في كيفية تبدل الأحوال وتغير الأمصار، وتصريف الأزمان، وتقلب الليل والنهار، فإنها تجري على سنن مضبوطة، ورسوم محددة. فالاستبداد لا ينشأ من فراغ، وإنما تنشئه الشعوب بتخاذلها، وانطماس بصيرتها، وصمم آذانها، وكلل عقلها عن إدراك الحقائق، وضعف يقظتها وإحساسها بما يفعله المستبد. وتنشئه أيضا حينما تكون قد أوغلت في الموبقات، وغرقت في الآثام، ولم تعد تعرف الحلال من الحرام، ولا العدل من الظلم. فانظر إلى حكاية الله تعالى عن فرعون مع قومه، وسبب استخفافه بهم، سوى أنهم كانوا قوما فاسقين. قال عز وجل: "فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين." والمعادلة الدقيقة أنهم لو لم يكونوا فاسقين لما استطاع فرعون أن يستخف بهم، ولما كانوا فاسقين سهل عليه الاستخفاف بهم، وتسخيرهم في شؤونه، والازدراء لعقولهم، وأن يمتطيهم ويسوقهم مثل الدواب أين ما يوجههم يجدهم منساقين طائعين خاضعين، راكعين ساجدين، هاتفين باسمه، مثل ما حصل للسحرة في بداية جولتهم مع موسى عليه السلام، حين ألقوا بحبالهم وعصيهم "قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ". والسياق يوحي أنهم كانوا يفعلون ذلك مرارا من ذي قبل، لأنهم كانوا متكأ لفرعون في تخدير الشعب وتدويخه. وتصل وقاحة الاستبداد والاستكبار بفرعون اللعين أن يدعي الألوهية، "يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري." ولم يكن لفرعون أن يدعي هذا ولا أن يسطو عليه، وهو يعلم علم اليقين في خويصة نفسه أنه لا يملك ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة، لو لم يكن الشعب المسكين غارقا في أوحال الفسق والفجور. والاستبداد تنشئه الطبقة السياسية المستفيدة من الريع الاقتصادي والسياسي، بل هي الأداة الأولى والفعالة في رعاية الاستبداد، لأنه يمنحها الصلاحيات بأن تعبث بمصير ومستقبل الشعب، ويغدق عليها من الأموال دون حسيب ولا رقيب، فتصول وتجول ما دامت في خدمة المستبد. فالطبقة السياسية هي خير عون للمستبد حيث يستعملها في التفريق بين الشعب، فيجعل منه شيعا متناحرة، وأحزابا متقاتلة، وفرقا مختلفة، وخيوطها كلها إليه، يحركها كيف يشاء، ومتى يشاء، "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وانظر إلى صنيع فرعون مع قومه فيما حكاه ربنا عز وجل عن فعله في تمزيق وحدة الصف بالتفريق بين الشعب، لأهداف يريدها هو، ومصالح يتوخاها. قال تعالى: "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم." وهذا من باب السياسة الفرعونية التي من قواعدها "فرق تسد" أو "فرق تحكم"، فالمستبد لا يستريح، ولا يهنأ له بال، إلا بتفريق الطبقة السياسية، ويسلط بعضهم على بعض، ويشتري ذمم بعضهم، بما يتبقى من فتاة موائده. ويجعلهم في آخر المطاف حينما لا يصلحون لأي شيء ويكونون قد استنفذوا أغراضهم، وانتهت صلاحيتهم، منديلا يمسح فيه جميع أوساخه وأدرانه، وأخطائه وخطاياه، وآفاته وآثامه، ليستخفي عن جرائمه، ويستتر بهم عن أفاعيله الدنيئة. وحق للمستبد أن يفعل بالطبقة السياسية ما يفعل، لأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، حيث تخلفوا عن الإصلاح والبناء، وتخلفوا عن محاربة الفساد والمفسدين، وانهمكوا في جمع الفتات والحطام الذي يصير فيما بعد هباء منثورا. فصارت بذلك الطبقة السياسية هي بدورها، إلا قليلا منهم، مستبدة، فتكون الشعوب المسكينة الضعيفة تعيش بين استبدادين: استبداد الحكام، واستبداد الطبقة السياسية. والأدهى والأمر أن تصبح هذه الطبقة السياسية المتغولة، التي تعيش في أكناف الاستبداد وتقتات منه، مناهضة لكل إصلاح منشود، معتبرة إياه فسادا، مادام لا يخدم مصالحها ومآربها الشخصية. حقا إنه فساد بميزان من اختلت لديه المفاهيم والتصورات، وانقلبت لديه الموازين، فصار مثل الكوز مجخيا. وهذا ما حصل لملإ فرعون، وهي طبقة سياسية وغيرها ملتصقة بفرعون، ومستفيدة من فرعونيته وإتاواته ، وعطاءاته. وتأمل أيها القارئ الكريم في قوله تعالى وهو يحكي مقالة ملإ فرعون، قال عز وجل: "وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ." (الأعراف 123). وهذا ما جرى عليه بالفعل الانقلاب الفرعوني الجديد بمصر، وهذا ما يكيد له بعض أعداء الإصلاح، وبخاصة في الدول التي أشرقت فيها أنوار الربيع العربي، في زمان الخذلان العربي والدولي، فكم من المستبدين وأعوانهم وأنصارهم يتربصون بالمصلحين الدوائر، حتى يصرفوهم عن تتميم مهمتهم، أو يشغلوهم بقضايا ثانوية، أو ليست من الأولويات. إنه كيد الليل والنهار لا يفتر البتة. والاستبداد ينشئه العلماء إما بتخاذلهم وصمتهم المريب، وإما بتآمرهم وانضمامهم إلى صف المستبدين، فبدل أن يكونوا علماء القرآن، صاروا علماء السلطان. فعلماء القرآن علماء مستقلون بقراراتهم ومواقفهم وآرائهم، ويتحدثون بكل حرية لا يراعون إلا ما يطلبه منهم دينهم وأمتهم. أما علماء السلطان فهم ذيل تابع لغيرهم، غير مستقلين، ينفذون الأوامر التي تملى عليهم. فالعالم غير المستقل ليس بعالم، فلا يوثق بعلمه. وانظر أخي القارئ إلى علماء الاستبداد في مصر، الذين ناصروا وأيدوا الانقلاب الظالم بفتاوى لا تخطر حتى على إبليس، من إجازة قتل الأبرياء وسفك دماء الأحرار والشرفاء، والتنكيل بجثتهم بالحرق والسحت. وقد كانوا قديما يتهمون العالم بمجرد أن يقترب من السلطان، واليوم هناك طبقة من العلماء والمثقفين والمفكرين والفنانين، إن بقيت فعلا لهذه الأسماء مسمياتها ومعانيها، صرفت همتها تلقاء الحكام المستبدين تتسابق لخدمتهم والإشادة بهم، والتفاني في مدحهم، والتمسح بهم، لا لشيء سوى ابتغاء أموال مرصودة معدودة، وقطع أرضية ممدودة، وعمل للأبناء غير منقطع ولا ممنوع. أما قضايا الأمة ومشاكلها الداخلية والخارجية فهم منها من مكان بعيد، وإذا خالطتهم أو جالست بعضهم لإيقاظ هممهم أبدوا لك التأسف والحسرة على ما يقع، ولكن لسان حالهم يقول: إنهم رضوا بالقعود من الوهلة الأولى. وختاما فإن الاستبداد والفساد أخوان لأب واحد وهو الجهل، وأم واحدة وهي الخوف، وما اجتمعا الجهل والخوف في أمة إلا واشتد بها الاستبداد، واستشرى فيها الفساد. عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» (رواه أبو داود في سننه). على أن الإسلام جاء لمحاربة الاستبداد والفساد، اللذان يعوقان مسيرة العمران، والقرآن الكريم خير دليل على ذلك، فهو يكشفهم كشفا ويعري عن حقيقتهم ويفضحهم. وما أروع ما كتبه شهيد محاربة الاستبداد العلامة عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله، فبحق يعد كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) تفسيرا موضوعيا للقرآن الكريم، ولا نجد كتابا يضاهيه في عمق بيانه وتحليله لقضية الاستبداد."ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب"