عبد النباوي: الزحف السريع للذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يستدعي تغييرات شاملة لتجويد الأداء القضائي    ضرورة إعادة بناء الثقة بين الفاعل السياسي والمدني، وتعزيز التعاون والتكامل بين الطرفين    العثور على اطراف بشرية داخل مرحاض مسجد بمدينة بن أحمد    عبد النباوي: التحول الرقمي يستدعي تغييرات شاملة لتجويد الأداء القضائي    ميليشيات البوليساريو تمنع عبور شاحنات "المينورسو" شرق الجدار الأمني    ولي العهد يترأس بمكناس افتتاح الدورة ال 17 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب    وفاة البابا فرنسيس عن 88 عاما    الملك ينعى البابا ويستحضر زيارته للمغرب    الحكومة تتدارس "تعويضات الصحة"    رحيل الفنان محسن جمال صاحب «أحلى الأغاني» و«الزين فالثلاثين»    في الحاجة إلى قراءة متجددة للخطيبي أفاية : في أي حقل إبداعي أو فكري، ثمة بصمة للخطيبي، صانع القلق    المغرب يخلد الأسبوع العالمي للتلقيح    الدورة ال17 من المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب تسلط الضوء على الإشكالية الشائكة المرتبطة بالماء    بركة: لن نشهد مشاكل للماء في الصيف والحكومة سرعت مشاريع إنجاز السدود ومحطات التحلية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    تحقيقات فساد وصراع سياسي يهددان ملف إسبانيا لتنظيم مونديال 2030    مهنيو النقل الطرقي يستنكرون "احتكار" المحروقات ويطالبون مجلس المنافسة بالتحرك    "ترانسبرانسي" تدعو للتحقيق في الاختراق السيبيراني وفي دعم الماشية وترفض الهدم التعسفي للمنازل    تنديد حقوقي بالتضييق على مسيرتين شعبيتين بالدار البيضاء وطنجة رفضا لاستقبال "سفن الإبادة"    "البيجيدي" يسائل وزير التربية الوطنية عن استراتيجية مواجهة العنف بمدارس شفشاون    الفاتيكان يكشف عن وفاة قداسة البابا فرنسيس    الرباط تحتضن منافسات كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم داخل القاعة للسيدات    تكريم الدراسات الأمازيغية في شخص عبد الله بونفور    مدرب نهضة بركان: أدرنا المباراة بالطريقة التي نُريد وسندافع عن حظوظنا كاملة في الإياب    نهضة بركان وجمهورها يُلقّنان إعلام النظام الجزائري درساً في الرياضة والأخلاق    تحسينات جديدة في صبيب الإنترنت تفتح النقاش.. لماذا تبقى الأسعار مرتفعة في المغرب؟    نهضة بركان تصدم الإعلام الجزائري    الوزير برادة: نتائج مؤسسات الريادة ضمانة استمرار الإصلاح التربوي بعد 2026    فاس... مدينةٌ تنامُ على إيقاع السّكينة    المعارض الدوليّة للكتاب تطرح اشكالية النشر والقراءة..    شريط "سينرز" يتصدر عائدات السينما في أمريكا الشمالية    رئيس الجمعية المغربية لحماية الحيوانات ل "رسالة24" : الكلاب في الشارع ضحايا الإهمال… لا مصدر خطر    بعد ‬تحذير ‬البنوك ‬من ‬محاولات ‬التصيد ‬الاحتيالي..‬    الغضب يتصاعد .. موظفون يشعلون نيران الاحتجاج أمام البرلمان    أنشيلوتي يبعث برسالة للجماهير : ما زلنا نؤمن بالحلم    الذهب يلامس أعلى مستوى له في ظل تراجع الدولار    كيوسك الإثنين | الداخلية تطلق ورشا ضخما لرقمنة "الحالة المدنية"    وفاة الفنان المغربي محسن جمال بعد صراع مع المرض    وفاة محسن جمال واحد من رواد الأغنية المغربية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الإثنين    الريسوني.. عندما تتحول معاداة الصهيونية إلى معاداة مغلفة للسامية...!    تنفيذا لوصيته.. البابا فرنسيس يختار مكان دفنه بعيدا عن تقاليد الفاتيكان    وفاة حارس المرمى الأرجنتيني "المجنون" هوغو غاتي عن عمر ناهز 80 عاما    تراجع أسعار النفط بأكثر من واحد بالمئة في التعاملات الآسيوية المبكرة    الفاتيكان يعلن وفاة البابا فرنسيس غداة ظهوره في عيد الفصح    الأساتذة المبرزون يضربون للمطالبة بالنظام الأساسي    نهضة بركان يضع قدما في النهائي بتغلبه على النادي القسنطيني الجزائري    شاب يُنهي حياته شنقاً داخل منزل أسرته بطنجة    نحو سدس الأراضي الزراعية في العالم ملوثة بمعادن سامة (دراسة)    دراسة: تقنيات الاسترخاء تسمح بخفض ضغط الدم المرتفع    الفاتيكان يعلن وفاة البابا فرنسيس    الكشف عن نوع جديد من داء السكري!    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإرادة الحضارية ودورها في الإقلاع الاقتصادي
نشر في هسبريس يوم 15 - 01 - 2014

تميز النصف الأخير من القرن الماضي بتحرر شعوب العالم الثالث تحررا سياسيا، مكنها من نيل استقلال رمزي على المستوى السيادي. إلا أن الأحبولة الاستعمارية ورطت سكان النصف الجنوبي في حتمية التبعية الاقتصادية حتى بعد الاستقلال، ما جعل مناطق دول الجنوب يرون في الاختيارات الاقتصادية المطروحة خياران يتوزعان على ما ذهب إليه معسكرا الشرق و الغرب الشماليين، مما جعل الناس في تناف تام بين الهوية الحضارية و التركة الاستعمارية.
لم يسلم المغرب أيضا باعتباره دولة متخلفة حضاريا إذا ما قورن بالدول المتقدمة (التي استطاعت أن تجيب على حاجياتها بابتكار وسائل إنتاج تعبر عن ثقافتها) من هذين الاختيارين، فجنح بفعل التخدير الفرنسي و طوعا من دون إدراك إلى الرأسمالية القائمة على قانوني السعي إلى المنفعة الشخصية و منافسة الآخرين، إذ أن الإنسان إذا سعى إلى تحقيق مصالحه سعى الآخرون إلى تحقيق مصالحهم و لهذا وجب على الدولة أن تطلق الحريات الاقتصادية إلى أقصى حد ممكن، وهذا يقود طبعا إلى الكثير من المظالم و المفاسد. و هو ما يعبر عنه بالقول الشهير "دعه يعمل .. دعه يمر".
و لكن و بعد مرور أزيد من نصف قرن نرى بوضوح اضطرابات اجتماعية أدت بنا إلى انحرافات ثقافية جعلت من الطبيعي أن نرى بعضنا يجري وراء إسقاط البيئة الغربية على المجتمع المغربي كالذي يريد تقسيم المجتمع الواحد بدعوى النزعة العرقية أو اللغوية أو كالذين يدعون إلى المساواة التقنية بين الجنسين دون الغوص في مدلولها الثقافي و حمولتها الحضارية... في محاولة ذاك الشارد الذي فقد صلته بعالمه الأصيل، فصار أميل إلى تقليد الحاجيات منه إلى تقليد أدوات الإنتاج، وصرنا بذلك مجتمعا ارتبطت حاجياته بما تعرضه الأسواق.
و لا يصطدم المغربي بفلسفة و روح الرأسمالية فحسب، بل أيضا بشروطها و قوانينها التي تقتضي استثمار المال بوصفه الوسيلة الوحيدة لدفع عجلة الاقتصاد مما يدفع لعملية تجميع الأموال و تركيزها في الأبناك، لتقوم هذه الأخيرة بعد ذلك بتوزيعها و توظيفها على أساس الفائدة. و إذا بالمسلم الشارد يختار الغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا لأنه محرم في شريعة الإسلام، في محاولة منه لتخليص الجسد من روحه و فصل الوعاء عن الماء دون مراعاة أن صاحب المنهج الليبرالي انطلق من مبدأ استثمار المال، و هذا ذاته ما يحتاج المراجعة. و بعد خيبة الأمل يتجه المجتمع نحو المنهج الآخر (الشيوعية) أو الاشتراكية بمعنى أخف، و هنا أيضا سرعان ما يصطدم بما يتعارض مع هويته من تحديد الملكية الفردية أو إلغائها دون الانتباه إلى أن أسباب نجاح هذا المنهج أو ذاك يتمثل بالأساس في طبيعة البيئة التي نشأ فيها المذهب نفسه، و التي تعتبر الفكرة الماركسة عقيدة شرقا و تشجيع الحريات الفردية عقيدة غربا.
فأصبحنا بهذا سياسيا رهيني مؤسسات مالية دولية تحدد سعر الفوسفاط و تتحكم في توجيه الإنتاج مما يزيد من العجز على مستوى التوازنات المكرواقتصادية و يدفعنا بالتالي إلى الاستدانة الخارجية لتغطية هذا العجر. لذلك فدور الفقهاء و أهل الاختصاص هو الاهتمام بشروط الإقلاع الاقتصادي أكثر من شروط استمرار الحياة الاقتصادية و إن كلف الأمر تعطيل بعض المصالح الفردية من أجل الاقتصاد الوطني، كي لا نقرن النظرة الاقتصادية بانتظار المال من الخارج، حتى إذا أتى يكون ورطة سياسية، و إن لم يأت علقنا عليه تأخر قيام النهضة.
و لو سبرنا أغوار جذور الاقتصاد الناجح لوصلنا إلى نتيجة أن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك أو تشييد مصنع فحسب، بل هو قبل كل ذلك تشييد الإنسان و تقويم سلوكه بما يجعله موفقا في اختيار ما يحتاجه من مناهج – سواء بحث عنها في ما هو موجود أو أنشأها مما هو مفقود- تنسجم مع ما يخالج كيانه و يحترم هويته و ثقافته، ليصل إلى الإرادة الحضارية التي تحقق له الإمكان المادي في الإقلاع الاقتصادي.
نرى هذه الظاهرة في عالمنا المعاصر، و كيف لدولة محطمة مثل ألمانيا بعد الحرب تحقق المعجزة و تعيد الإعمار باستعمال نوع من النيوليبرالية القائم على اقتصاد السوق الاجتماعي في تناغم تام بين الحاجيات الألمانية و سبل توفيرها. كما نراها أيضا في زمان الرسول حيث انطلقت الأمة حينها من نقطة اللاشيء الاقتصادي و الإمكان البسيط جدا و المحدود المتزامن مع التدفق العالي في الإرادة الحضارية و قوة الإيمان كأنها قادرة على تحقيق كل شيء من لا شيء، و إذا بها فعلا تنفذ كل خططها في كل المجالات.
و بالتالي فكما يقول المفكر مالك بن نبي في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد : "العلاقة النسبية بين الإمكان الحضاري و الإرادة الحضارية هي علاقة سببية، تضع الإرادة في رتبة السبب بالنسبة للإمكان".
لذلك فمجتمعنا اليوم متى تكونت لديه إرادة واضحة للتخلص من التخلف و الإقلاع الاقتصادي، سيجد نظريا أن اختياراته ليست بالضرورة محدودة في الاستثمار المالي المرتبط أساسا بالخارج لأنه صاحب المذهب، و أنه يستطيع اللجوء مرحليا إلى نوع آخر من الاستثمار، و هو الاستثمار البشري أو الاستثمار الاجتماعي (مالك بن نبي) على أساس الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11]، لأن الإرادة تصنع الإمكان، على قاعدة اجتماعية تجعل الخبز لكل مواطن و العمل على كل قادر، في جو من التضامن الاجتماعي دافعه الإرادة الحضارية و مبتغاه تحقيق الاكتفاء الذاتي دون الارتهان إلى المدد الخارجي الذي يتحول إلى تحكم سياسي.
كما أن الإرادة الحضارية ترتكز بالأساس على بواعث أخلاقية تجعل من معادلة الحقوق و الواجبات ترجح كفة الواجبات على الحقوق و الإنتاج على الاستهلاك. ونرى هذه الركيزة جلية في المسكين الذي جاء يطلب لقمة العيش ( و هي من حقه، يعطيها له المجتمع في إطار الزكاة) فيتكرر العطاء كلما تكرر الطلب، ليأتي التوجيه النبوي الرشيد "...إن اليد العليا خير من اليد السفلى" في إشارة واضحة منه إلى تشجيع الإنتاج و البذل. لأن رجحان الإنتاج على الاستهلاك يقود المجتمع إلى فائض في الإنتاج و ارتفاع في مؤشر النمو الاقتصادي، و يكون بذلك المجتمع ناميا، غير راكد إذا ما تساوت معادلة الإنتاج و الاستهلاك، أو منهارا في حالة المجتمعات المستهلكة المعتمدة على الإمداد الخارجي.
إن الغرب الذي تكتل مرة من أجل الزحف الصليبي و أخرى من أجل الزحف الاستعماري، ها هو اليوم يواصل زحفه من أجل إرساء دعائم وجوده سياسيا عبر إحكام القبضة الاقتصادية. لذلك وجبت الدعوة بأن يحرك المجتمع آلته الفكرية في تناغم مع ضميره المجتمعي و هويته الثقافية بمختلف روافدها من أجل الوصول إلى الإرادة الحضارية التي تحقق له الإقلاع الاقتصادي باعتباره مفتاح النهضة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.