70سنة في خدمة الوطن والشعب عزيز بلال من رواد الفكر الاقتصادي بالعالم الثالث حفريات بلال في البنيات الاقتصادية لمغرب ما بعد الاستقلال رسمت طريقا لتحقيق التنمية الحقيقية بلورة تصور واسع لمفهوم التنمية بإدماج العوامل الاقتصادية والثقافية والإيديولوجية لا يمكن الحديث عن مسار حزب التقدم والاشتراكية منذ مرحلة الحزب الشيوعي المغربي مرورا بمرحلة حزب التحرر والاشتراكية ، دون التوقف عند عطاءات الراحل عزيز بلال المتعددة الأوجه ضمن هذا المسار وإسهاماته في بلورة الهوية المذهبية والفكرية، وأيضا السياسية لهذا الحزب . ولعل أبرز ما قدمه الرجل وخلد به اسمه عطاءاته الفكرية والنظرية ولاسيما في المجال الاقتصادي والتنظير لإشكالية التنمية بالمغرب، وبالبلدان الشبيهة، في علاقتها بمخلفات الاستعمار من مظاهر التخلف وعوامل إعاقة التنمية والتطور المستديمين. ويعد عبد العزيز بلال ، إلى جانب المفكر السوسيولوجي والتاريخي ألبير عياش وثلة من المفكرين الآخرين، روادا لا فقط في مجال التحليل العميق للبنيات الاجتماعية والاقتصادية للمغرب وبلدان العالم الثالث إبان وبعد الاستعمار، بل أيضا وأساسا في رسم طريق التنمية والتطور لهذه البلدان، تنمية تستفيد منها شعوبها ومجتمعاتها بما يؤهلها للرقي والتقدم والانفلات من التبعية المتعددة الأوجه غذائية كانت أو سياسية أو مالية /اقتصادية وأيضا ثقافية. ولعل ما سنستعرضه في هذه القراءة للفكر الاقتصادي للراحل عزيز بلال لا يعدو أن يكون جانبا من الإسهامات المتعددة للرجل في هذا الباب. وسيتم التركيز هنا على مرحلتين من مراحل تطور الاقتصاد المغربي اهتم بهما الراحل: مرحلة الاستعمار ومخلفاته على صعيد البنيات الاقتصادية والاجتماعية ، ثم مرحلة البناء الاقتصادي المستقل الذي رسم له طريقا ومنهجا لو تم اتباعه والانطلاق من مبادئه الأساسية لما وصل المغرب لما يعيشه اليوم من تبعية للرأسمالية العالمية ومن إعاقة للتنمية والتطور والرقي. التراكم غير المستقل للاستثمار في مؤلفه الصادر سنة 1968 ، «الاستثمار في المغرب» من 1912 إلى 1964، وانطلاقا من المتغير» الاستراتيجي « المتمثل في «الاستثمار» ، رسم عزيز بلال بشكل منهجي تطور الاقتصاد المغربي في شموليته منذ 1912 ،اي منذ بداية عهد الحماية.إلى حدود 1964 آخر سنة من عمر المخطط الخماسي لما بعد الاستقلال. لقد تمكن المفكر من الإفلات من مطب الاقتصاد التشخيصي الذي تسقط فيه معظم التحليلات للغوص في عمق المشكلات الحقيقية والعميقة لبلد خرج توا من ربقة الاستعمار. بلال يطور في الجزء الأول من هذا المؤلف فكرة أن نجاح عملية تبني المغرب لسياسة منسجمة للتطور والنمو رهين بتجاوز مرحلة وضع حصيلة لآثار الاستعمار السياسي على الصعيد الاقتصادي للبلد، لينتقل إلى التفكير في كيفية إعطاء مضمون فعلي وواقعي للاستقلال السياسي، وطبيعة الأدوات الكفيلة بإنجاح ذلك، وهو ما بلوره في الجزء الثاني من المؤلف. لهذا الغرض اعتمد بلال على جهاز نظري ارتكز على مفهومين مترابطين فيما بينهما: الأول يتمثل في كون «الاقتصاد السائد»(المستعمر بكسر الميم الثانية) يعمد إلى تدمير البنيات التقليدية ل»لاقتصاد المسود» دون أن يمكنه من تطوير طريق للنمو متمركز ذاتيا، وتراكمي ومستدام. من هنا تبقى التبعية للاقتصاد المستعمر هي السمة الرئيسية، وهي تبعية تتخذ عدة أشكال من مالية واقتصادية إلى فكرية وثقافية. وهذا ينسجم مع منطق الاقتصاد الرأسمالي الذي يحتاج إلى هامش يساعده على التراكم السريع. ونحن نلمس في كتابات ألبير عياش أيضا، هذه العلاقات من خلال الفصول التي حررها الجغرافي جان دريش، حيث يجد القارئ وصفا لأشكال تهميش وتفكيك المجال الاقتصادي، سواء في الجانب الفلاحي أم في الجانب الصناعي/ الحرفي. أما المفهوم التحليلي الثاني الذي اعتمده عزيز بلال فمفاده أن البناء الداخلي للتنمية يفترض إستراتيجية جديدة للتطور تتخذ نقطة انطلاقتها من عقلنة القرارات الاقتصادية المتعلقة أولا باستخراج ما سماه « فائض إنتاج اجتماعي «، ثم تعبئة هذا الفائض لفائدة التطور، وبالتالي، وضع معيار للاستثمار مبني على تغليب وتعظيم الفائدة الجماعية (الاجتماعية)على الفائدة الخاصة. بطبيعة الحال فعزيز بلال يرى أن الإطار الذي يؤطر هذا النهج لا يمكن أن يكون غير المخطط الاقتصادي والاجتماعي الذي يضمن تماسك وعقلنة القرارات أو الوحدات الماكرو-اقتصادية، وخاصة «وحدة الوحدات» أي الدولة. هنا لا بد من تلمس العلاقة الفكرية بين المفكرين بلال وألبير عياش.في هذا الإطار قدم ألبير عياش مادة دسمة في موضوع الاستثمار الاستعماري بالمغرب من حيث مصادر تمويله، وأشكال توظيفه، وأهم مراحله. وهو ما شكل مرجعا مركزيا اعتمد عليه، إضافة إلى مفكرين آخرين، عزيز بلال في صياغة مؤلفه المذكور حيث تجاوز المجال الزمني للحظة الاستعمارية ليحلل ظاهرة الاستثمار على ضوء إشكالية التخلف، باعتبارها إشكالية اتضحت معالمها بعد أن حصل المغرب على الاستقلال السياسي. فالاقتصاد الاستعماري احدث بنيات كان من شأنها أن تعوق على المدى البعيد، إمكانيات التراكم المستقل الممركز حول الذات، الأمر الذي يعني أن الاستعمار لم يكن إذن مجرد عملية استغلالية، بل وضع الاقتصاد المغربي في فك الرأسمال الفرنسي والدولي. وهنا يميز عزيز بلال في كتابه بين نوعين من القطاعات: القطاعات ذات الامتياز، حيث يقترن التركيز على التجهيزات الأساسية بإنعاش الأنشطة التصديرية، وحيث يلاحظ تضخم قطاعات غير منتجة، مثل التجارة والعقار والإدارة و القطاعات المهمشة، المتمثلة في الاقتصاد التقليدي، والصناعات الثقيلة و»الاستثمار الثقافي». لقد كان الاهتمام بحصيلة الاستعمار ضروريا من أجل معرفة آثار الاستعمار الفرنسي على الاقتصاد والمجتمع المغربيين. فخلال سنوات الخمسينيات عرف الاقتصاد المغربي» نموا دون أن يعرف تنمية»، حسب تعبير أستاذ الاقتصاد عبد السلام الصديقي. فهذا النمو يعتبره بلال نموا «مشوها» هدفه خدمة مصالح الاقتصاد السائد التابع. عبد السلام الصديقي يرى، في إحدى شهاداته على فكر الراحل، أن المجال الثاني الذي ركز عليه عزيز بلال هو الاقتصاد التنموي. فقراءة أعمال بلال وفحص محتوى الدروس التي كان يلقيها في الجامعة، تسمح لنا، يقول الصديقي ، بأن نعتبره منظرا حقيقيا للتنمية وواحدا من مؤسسي «الاقتصاد التنموي». كما يعتبر أن الإستراتيجية التنموية التي أوصى بها عزيز بلال للمغرب في منتصف ستينيات القرن الماضي لم تفقد شيئا من راهنيتها ومن أهميتها: استثمار فعال ذو تأثيرات مضاعفة؛ دور مهيمن للقطاع العام؛ مؤسسات ديمقراطية ولامركزية وذات مسؤوليات واسعة النطاق في المقتضيات الاقتصادية والاجتماعية؛ التوفيق بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ الأهمية الحاسمة للتأطير السياسي والمشاركة الفعالة للجماهير...في هذا الصدد يقول بلال: « إن المسؤولية الأساسية للتنمية الاقتصادية تتحملها الدولة، ولا يمكن لهذه الأخيرة تحملها بشكل كلي وفعال حتى تمثل حقا مصالح غالبية السكان، خاصة الطبقات الأكثر حرمانا، وليس مصالح الأقلية المحظوظة التي تخشى حركية القوى الاجتماعية التي لن تستطيع التحكم فيها ولا مراقبتها، أو لإجراء تغييرات من شأنها أن تهدد امتيازاتها» (الاستثمار في المغرب... ص 398 ). الوضع الاقتصادي لمغرب لما بعد الاستقلال لقد جعل الاستعمار من الاقتصاد المغربي اقتصادا تابعا ومندمجا تماما في الاقتصاد الفرنسي والأوروبي، يزوده بالمواد الخام وبالمنتجات الزراعية، ويستورد منه المنتوجات الصناعية. وغداة الاستقلال كانت كل الفروع الأساسية من الاقتصاد المغربي تحت مراقبة الجماعات الاحتكارية الأجنبية مثل الطاقة الكهربائية، وقطاع الأبناك، والقروض، ومعهد إصدار النقود، والجزء الأكبر من النقل والصناعة والتجارة الخارجية، ونصف الإنتاج المعدني. أما النصف الآخر الذي يتكون من الفوسفاط فكان في ملك الدولة منذ بداية الاستعمار، كما أن التطور الاقتصادي السريع المستقل كان يتطلب تحويلا جذريا في الهياكل الزراعية، ذلك بأن بقايا الإقطاعية في البوادي قد أبقاها ووطدها النظام الاستعماري لتخدم مصالحه. وبفعل الاضطهاد السياسي والاقتصادي الذي سلطه المعمرون الأجانب والإقطاعيون على الفلاحين المغاربة، استطاعوا أن يستحوذوا على الملايين من الهكتارات، مما جعل هؤلاء الفلاحين يعيشون أزمة حقيقية أخلت بتوازنهم الاجتماعي والاقتصادي. لقد كانت الصفة الملازمة للاقتصاد المغربي خلال فترتي 1951-1953 و1961-1963 هي الانخفاض المستمر في الإنتاج، حيث إن نسبة الإنتاج لكل فرد تقلصت من 100 نقطة سنة 1951 إلى 90 نقطة سنة 1961، التي تمثل السنة الثانية للتصميم الخماسي (1960-1964). وفي القطاع الفلاحي يلاحظ استمرار التضاد بين ركود منتوجات الحبوب التي تعيش منها أغلبية الفلاحين المغاربة، وبين التوسع المستمر لزراعة الخضر والحوامض لفائدة المعمرين الأجانب. إن لوحة الوضع الاقتصادي في المغرب آنذاك تبين أن هناك ركودا في القوى المنتجة عوض تقدمها؛ وإذا تحقق شيء من التقدم في الإنتاج فذلك لا يعني سوى الفرع الاستعماري من الاقتصاد؛ أي الزراعة التصديرية، والمناجم، وبحظ قليل صناعات التحويل. إذاً، لم تزعزع السياسة الاقتصادية التي سلكتها حكومات المغرب المتوالية، مع بداية الاستقلال، جذور سيطرة الرأسمال الأجنبي على الفروع الأساسية من الاقتصاد، ولا بقايا الإقطاعية في المجال الزراعي، بل أكثر من ذلك قد وقعت تنازلات كبرى لصالح الرأسمال الأجنبي مع بداية سنة 1960، كما تم التخلي عمليا عن تطبيق التصميم الخماسي (1960-1964 )رغم مصادقة الحكومة عليه آنئذ. لقد ذهب المحللون إلى أنه كانت هناك مرحلتان من تطور السياسة الاقتصادية لدولة المغرب غداة الاستقلال؛ المرحلة الأولى تمتد من سنة 1956 إلى سنة 1960، وتميزت باتخاذ بعض التدابير الجزئية الرامية إلى مساعدة التصنيع أو تطوير الإنتاج الزراعي، ومد البلاد بعملة وطنية، وتوقيف تصدير الرساميل. أما المرحلة الثانية التي عرفت بدايتها سنة 1960 فقد طبعها التخلي عن كل محاولة تستهدف إحداث شروط تطور وطني، وبخضوع تام على الصعيد الاقتصادي إلى مطالب الرأسمال الأجنبي، وإلى الجماعات التي تسانده في الداخل، وبتفاقم مستمر للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية. العوامل غير الاقتصادية للتنمية لقد تطرق عزيز بلال لهذه المسألة المحورية في أطروحته عن طريق إيلائه الصدارة للعوامل الثقافية والإيديولوجية في انطلاق مسلسل التنمية الاقتصادية. وقد قام سنة 1980 بتقديم بنية نظرية متطورة حول هذه الإشكالية في مؤلف تحت عنوان: «التنمية والعوامل غير الاقتصادية». في هذا الإطار يقول عبد السلام الصديقي أن بلال قام بانتقاد نظريات التنمية المسيطرة المبنية على «الاستدراك» (نظرية روستو) وتبيان حدود «الطريق الثالث» الذي ينادون به في إفريقيا والذي نلمس حاليا آثاره وأضراره. وبعد هذا الانتقاد اختار عزيز بلال تصورا واسعا لمفهوم التنمية وذلك بإدماج العوامل الاقتصادية والثقافية والإيديولوجية وحتى الحضارية. إن الأمر يتعلق بالنسبة للمفكر بمعالجة المشاكل الأربعة الأساسية والمرتبطة فيما بينها بشكل وثيق: التحرر الوطني، الثورة الاجتماعية، التنمية والحضارة. وبالتالي فهو يعرف التنمية على أنها «عملية نمو تراكمي متحكم فيه اجتماعيا مع استمرار نمو القوى الإنتاجية، التي تشمل مجموع الاقتصاد والسكان، وذلك نتيجة تغير بنيوي عميق يسمح بتحديث القوى والإواليات الداخلية للتراكم والتقدم». ويستطرد الصديقي في شهادته على الراحل بلال قائلا أنه لا يمكن لتنمية مثل التي تم تعريفها أن «تتحقق دون القضاء على المعيقات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي تعيقها، يعني القضاء على السيطرة الخارجية والداخلية التي تنخر وتكبح التشكيلات الاجتماعية الهامشية. الشيء الذي يعني باختصار تحقيق عملية تحرير وطنية حقيقية وثورة اجتماعية عميقة، في البنيات السوسيو-اقتصادية والعلاقات الاجتماعية والقيم الإيديولوجية والثقافية، وتوطيدها بشكل دائم على مر الزمان»وهو ما يعد مشروعا كبيرا. وهو الطرح الذي بلوره الدكتور سمير أمين في بحوثه حول أنماط الإنتاج وتراكم الرأسمال ، وأخذه عنه أيضا عالم الاقتصاد الهندي ميرنال الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في تسعينيات القرن الماضي حيث طوره في دراساته وأبحاثه حول نمط الإنتاج الأسيوي، مبرزين أن السلطة في هذه المجتمعات هي التي تتحكم بالثروة على عكس المجتمعات الرأسمالية حيث الثروة هي التي تتحكم بالسلطة. ومعلوم أن طروحات العوامل غير الاقتصادية في التنمية قد كانت محور العديد من الدراسات و الأبحاث المشتركة بين الاقتصادي الروسي بوبوف والراحل عزيز بلال، الذي حال موته الغامض دون استكمالها. وفي حوار مع أستاذ الاقتصاد نورالدين العوفي نشر بمجلة «رباط الكتب» يرى هذا الأخير أن هناك «كتابات اقتصادية» تتعدد مشاربها وأهدافها ومضامينها ومرجعياتها ومنهجياتها (مقالات، بحوث جامعية، دراسات ميدانية، تقارير خبرة، إلى غير ذلك)، غير أنه من الصعب استنتاج «سمة فكرية» بالمفهوم الدقيق أو الجزم بإنتاج «فكر اقتصادي» وطني منذ الاستقلال. لكن العوفي يعتبر انه بالإمكان إذا ما توخينا المسح التاريخي الطويل، أي منذ الاستقلال إلى الآن، العثور بين طيات «الكتابات الاقتصادية» المتعددة التي تم إنتاجها أو نشرها خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على بوادر تشكل «فكر اقتصادي» مغربي. قد نعتبر – من هذه الزاوية- أن هذه الفترة عرفت صياغة فكرية ذات ملامح منهجية متماسكة مع نشر كتاب الاستثمار في المغرب سنة 1968 للراحل عزيز بلال، الذي أعتبره إنتاجا فكريا متميزا يؤسس بحق لمدرسة وطنية في العلوم الاقتصادية. ويعلل المتحدث هذا التميز بكون المؤلف هو في الأصل بحث أكاديمي وأطروحة جامعية لنيل الدكتوراه في الاقتصاد نوقشت بجامعة كرونوبل بفرنسا، بحث يمزج بين البعد النظري والتحليل التطبيقي ويستقرئ المحددات والديناميات الماكرو اقتصادية للعملية الاستثمارية في المغرب منذ عهد الحماية والتحديات التي عرفتها منذ الاستقلال إلى أواسط الستينيات من القرن المنصرم. في نفس السياق سوف تتوالى مجموعة من الأبحاث الأكاديمية التي تم إنجازها أيضا بالجامعات الفرنسية في نهاية الستينيات ذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، أطروحة فتح الله ولعلو حول المساعدة الأجنبية، وأطروحة عبد العالي بن عمور في موضوع المؤسسات البنكية والمالية، ورسالة محمد برادة حول المقاول المغربي، والحبيب المالكي في إشكالية الفائض الاقتصادي. ما يميز جل هذه الأعمال هو الإسناد النظري والتقيد المنهجي، وإن بدرجات متفاوتة بين هذا وذاك. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى الإطار الأكاديمي الذي يستوجب مثل هذه القواعد الشكلية والضوابط المنهجية ويتطلب حدا أدنى من الحمولة النظرية. وهناك سمة أخرى لما يمكن أن نسميه «الموجة الأولى» من البحث الاقتصادي الوطني تتعلق بانتماء أغلب هذه الأعمال، من حيث النظرية والمنهجية وحتى الإديولوجيا، إلى باراديغم «نقد الاقتصاد السياسي» بصفة عامة، وإلى المنظومة الماركسية بصفة خاصة. ينبغي أن لا ننسى السياق التاريخي الذي تسمه عناوين الاستقلال الاقتصادي – بعد نيل الاستقلال السياسي- واسترجاع أسباب السيادة في مجال صياغة سياسة عمومية وطنية، وإشكالية التنمية، والتصنيع، والإصلاح الزراعي، ووضع الشروط الضرورية للتراكم وللاستثمار الوطني، ولإنشاء القطاع العمومي كقاعدة ارتكازية للإنتاج، وللتحكم في الدينامية الماكرو اقتصادية وغير ذلك من القضايا والمعضلات التي كانت تعج بها بلدان العالم الثالث أنذاك. بالطبع سوف يعرف «الفكر الاقتصادي» المغربي - باعتبار الحدود المشار إليها من قبل- إنعطافا مع نهاية الثمانينيات من حيث المضامين والمناهج والإشكاليات والتيمات. وحتى المنابر وفضاءات النشر سوف تتبدل طبيعتها وأدواتها وآلياتها وشريحة القراء والمستهلكين «للمقالة الاقتصادية». ويرى العوفي أن لهذا التحول أسباب عميقة ومتعددة ومتشابكة. أولا، هناك الأزمة التي عرفتها الجامعة باعتبار الآثار السلبية الناجمة عن تطبيق سياسة التقويم الهيكلي التقشفية. ثانيا، بالموازاة مع ذلك، سوف تعرف البنيات الاقتصادية المغربية –في المغرب مثل باقي الدول- إنخراطا قسريا في سيرورة العولمة الليبيرالية وتوطينا متسرعا لآليات اقتصاد السوق ولأدوات التدبير والتسويق. مع انتعاش القطاع الخاص والاستثمارات المباشرة الأجنبية، سوف ينتفض خطاب المقاولة و»الماناجمنت» (Management) وسوف تتعزز جاذبيته حتى على الجامعة حيث سنلاحظ إقبالا متزايدا لطلبة العلوم الاقتصادية على التخصصات المرتبطة بالتدبير والمحاسبة و»الماركتينغ» التي أمست أكثر ملائمة مع احتياجات سوق الشغل ومتطلبات المقاولة. في هذا المناخ غير المسبوق يسجل العوفي أن أغلب الباحثين الاقتصاديين سوف ينساقون – بالتدريج- وراء بريق «النموذج الليبرالي»، ولن تصمد سوى القلة منهم لإغراءات سوق الخبرة الوطنية والدولية ولفوائد مكاتب الدراسة والاستشارة. وهو ما سوف يساهم، إلى حد بعيد، في الإفقار النظري للكتابات الاقتصادية التي ستجد في الجرائد وصفحات والمجلات غير العلمية مرتعا خصبا لها وإطارا جذابا يحضنها ويرعاها ويمنحها اللمعان والانتشار. هذا الإفقار النظري وهذا التسيب المنهجي لابد أن تكون له تبعات على مستويات تأطير البحث داخل الجامعات ومن ثمة على الشكل والمضمون للأطروحات التي سيتراجع عددها سنة بعد أخرى. ويعتبر عدد من الباحثين عزيز بلال إلى جانب بول باسكون والبير عياش من العقول النيرة التي أنارت طريق الفكر الاقتصادي والسوسيولوجيبالمغرب. فبول باسكون، الذي اعتمد عزيز بلال على بعض دراساته السوسيولوجية للمجتمع المغربي، من أهم علماء الإجتماع الذين طوروا البحث السوسيولوجي حول المجتمع المغربي منذ بداية الستينات حتى أواسط الثمانينات من القرن الماضي. ورغم قصر حياته التي توقفت إثر حادثة سير مفجعة بينما كان بصدد إنجاز دراسة علمية لصالح منظمة التغذية العالمية بموريتانيا مع الباحث أحمد عارف الذي فارق الحياة في نفس الحادثة (22 أبريل 1985)، فإن "بول باسكون" يعتبر بحق أهم عالم اجتماع في مغرب ما بعد الاستقلال نظرا لدقة تحاليله واتساع مجال أبحاثه وارتباطها الوثيق بالميدان، ولا سيما واقع العالم القروي الذي يعرفه "باسكون" حق المعرفة لأنه ترعرع في هذا الوسط منذ الطفولة (ولد سنة 1932 بقرية الضويات قرب مدينة فاس) وعايش أوضاعه عن قرب كمسؤول عن "مكتب الحوز" في أواسط الستينات أو كمشرف عن الدراسات السوسيولوجية القروية في المعهد الزراعي حيث ساهم في تكوين جيل من الباحثين في وقت كانت السوسيولوجيا كمعرفة علمية غير مرغوب فيها ومحاربة رسميا من طرف السلطة السياسية. في هذا الصدد يرى الدكتور محمد الدهان من جامعة القاضي عياض أن في نهاية الستينات استعمل الباحث"بول باسكون" مفهوم المجتمع المركب la société composite ، لأول مرة في سنة 1969 في محاضرة عمومية ونشره في مقال يحمل عنوان( société marocaine BESM Janvier 1971 La formation)انطلق "باسكون" من فكرة مفادها أنه يصعب بناء نموذج نظري لفهم المجتمع دون العودة الى التاريخ. إن المجتمعات البشرية (ولو كانت حديثة النشأة أو منغلقة على نفسها)هي مجتمعات تاريخية تتميز بدينامكية داخلية، وهذه الدينامكية تولد تناقضات بين مختلف المستويات التي يتشكل منها الواقع الاجتماعي وتعطي لهذه المجتمعات طابع التركيب وغياب التوافق والانسجام بين مكوناته. إن الرجوع للتاريخ لا يعني من وجهة نظر "باسكون" التبني للنظرية التطورية التي تعتبر هذا التطور كتعاقب خطي للتشكيلات الاجتماعية من خلال تعاقب نماذج متماسكة،منسجمة وواضحة المعالم. وإذا كان من الصعب أن نتحدث عن نماذج "صافية" فذلك لا يعني أن المجتمعات تتكون من أجزاء منفصلة مثل أي آلة مركبة من قطع غيار. "باسكون" يرفض النظرة الآلية وينبهنا إلى أن مفهوم التركيب لا يعني "التعايش السلمي" بين "أنماط الإنتاج" de production modes لأن الحديث عن تعايش "يخفي طبيعة العلاقات التي تربط الوقائع الاجتماعية".