الحزب الحاكم في البرازيل: المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    جوائز الكاف: المغرب حاضر بقوة في الترشيحات لفئات السيدات        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    السلطات المحلية تداهم أوكار "الشيشا" في أكادير    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض        حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العولمة كنص مفتوح
نشر في هسبريس يوم 27 - 09 - 2010


المستقبل بين أحلام الإنسان ومآزقه
إنه سؤال يلخص قصة هذا النص المفتوح، لعولمة متعددة الأبعاد ، أوبالفعل ذلك الشأن اليومي الذي يواجهه الأفراد والجماعات، كما لو كان حدثا نازلا من السماء كما يقول جاك نيكونوف. بل الأخطر من كل ذلك، أنها مراوغة. تلك إذن حقيقتها. من هنا لا غرابة في هذا التناسل المستمر للتظاهرات الدولية و المحلية، تبشيرا بالعولمة و طلبا لتسريع إجراءات تحرير التجارة الدولية. يتساءلون، لماذا هي تظاهرات تحت رعاية الهيئات الدولية، و هو ما يجعلها مفارقة واضحة للعيان، فذلك لسبب بسيط ؛ هو أن العولمة لا تملك قاعدة سوسيولوجية واسعة و لا امتدادا جماهيريا. لذا فهي تتوسل بالهيئات الدولية التقليدية. فالأمم المتحدة تملك القرار السياسي من خلال الجمعية العامة كما تملك القرار الأمني من خلال مجلس الأمن، كما تملك القرار الثقافي من خلال اليونسكو. أما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي،ومنظمة التجارة الدولية،فهم يملكون القرارين الاقتصادي و التجاري. ثمة إشارة تتعلق بما يتعين أن تكون عليه المرحلة القادمة : أن تتحول هذه الهيئات الدولية إلى بؤر حقيقية لدعم مسارات الليبرالية الجديدة. فمن هيئة أممية أشخاصها الدول إلى هيئة عالمية أشخاصها شركات دولية عابرة للحدود. لا ننسى أن الأمم المتحدة ناصرت القضايا التي لا يطالها الفيتو الأمريكي. كما أن البنك الدولي تيرموميتر الاقتصاد الغربي، كلنا يعرف تفاصيل بروتن وودز، و كيف نجح صندوق النقد الدولي في حماية التوازن الاقتصادي الغربي على خلفية التهميش وسياسة الاستتباع المفروضة على اقتصاديات العالم الثالث في إطار إعادة الجدولة. و نعلم أيضا كيف نجح في أن يجعل من الدولار معيارا أساسيا للنقد. و لذا نفهم من هذه الرعاية الأممية للتظاهرات المتعاقبة، أنها محاولة لجعل العولمة ظاهرة فوق دولية. و كونها في طريق فرضها بقرارات أممية، الأمر الذي يعني أن العولمة تبشر بعصر نهاية سيادات الدول و نهاية ملحمة الجماهير. أما ما يتعلق بالمؤتمرات و الندوات المحلية التي تدور حول مبدأ القبول أو الرفض للعولمة، فهي مضيعة للوقت. لأن العولمة واقع يفرض نفسه بنفسه، و أي نقاش لا يهدف البحث عن الطرق الممكنة لاحتوائها أو السبل الناجعة للاندماج في حراكها اندماجا خاضعا لمخطط مدروس أو مشروع معد سلفا للمناورة من داخلها، فسيجرفه التيار و يجعله على هامشها ؛ لا هو بمنتج ظافر بموقع في أوراشها، و لا هو مستهلك لها استهلاكا يجعله في مقام المستفيدين من روائعها. سيكون وضعه خارج التاريخ الحديث. و ستتضاعف محنة الأمة، لتصبح حقا أمة أمية في زمن تدفق المعلومات، لتصبح مشكلتها أكبر من قضية اغتصاب جزء من خريطتها. بل سوف تتعرض إلى استعمار غاشم لزمنها الحضاري المهدور. سوف يسرق منها المستقبل، لتكون أمة بلا مستقبل !
في هذا الإطار، أريد أن أعود إلى أصل السؤال : عن المفهوم أو التعريف. في الحقيقة، العولمة ككل ظاهرة لها صلة بالقوة و السيطرة هي حقيقة تاريخية ذات جوهر واحد، و إن اختلفت مظاهره و تشعبت شؤونه. لكن هذه الوحدة الجوهرية و هذا الانحفاظ لذات السلطة في ثنايا هذه التداعيات التاريخية لا يعطينا الحق في الإمضاء على تعريف واحد. بل إن استئناف التعريف ضرورة يمليها واقع التطور نفسه. فالتاريخ يعيد نفسه، أي نعم، لكنه لا يعيد نفسه بالمعنى الذي يفيد استعادة المعدوم المحال فلسفيا، و إنما استعادة المثال. إن للتاريخ حركة دائرية. ف " كما بدأنا الخلق نعيده". لكن يتعين علينا عدم إغفال الأعراض الطارئة و التحولات التي يخضع لها المفهوم. فالتعريف يتحرك بحركتها. هذا بطبيعة الحال ليس درسا في التعريف المنطقي. بل هو نوع من تحرير محل النزاع. فحتى لا نقع في إشكالية التعريف مرة أخرى كما حصل مع موضوع " حوار الحضارات" لابد من لفت الانتباه إلى حقيقة الإلتباس الذي يمكن أن نقع فيه أثناء الحديث عن العولمة. للأسف ثمة من ينظر إلى العولمة بوصفها دعوة أو تبشير بالعالمية. لكن هذا ليس هو مقصودنا منها. إذا كان للعولمة أو العالمية دلالة سابقة، متماهية مع النمط السائد و مساوق للمفهوم التقليدي للقوة و مصادرها، فإن إعادة انتشار عناصر القوة في الأزمنة الحديثة تفرض تعريفا متطورا للقوة أولا و العولمة ثانيا. العولمة هي نزعة للسيطرة. و هذه الأخيرة لها أنماط مختلفة تتحدد بمستوى التطور الذي تشهده العصور في صيرورتها و مراحلها المتعاقبة. نتساءل إذن، ماذا تعني العولمة أو العالمية بالنسبة الى روما أو جينكيزخان أو نابوليون.. لقد كانت هناك دائما إرادة للسيطرة من قبل الأمم القوية على الأمم الأضعف. إلا أن النزوع الهيمني كان يتحدد بمعطيات التطور في مفهوم القوة نفسها. ربما اكتفت روما بوضع اليد على المجال و فرض السيادة على الأمم. إرادة السيطرة هي هذا الشيء المشترك بين كل أشكال الهيمنة في التاريخ. ليس بالضرورة أن تكون صاحب حضارة لكي تهيمن. لقد هيمن المغول على العالم الإسلامي الذي كان يمثل أرقى كيان حضاري يومئذ. لكن بما أن العالم الإسلامي كانت قوته في عمرانه و صنائعه أو لنقل في منظومته المعرفية، سرعان ما ذاب المغول في حضارته. إن مظاهر السيطرة اليوم تختلف تماما عن السابق. إنها سيطرة قوية و سريعة و شاملة. يمكننا القول، أننا نعيش عصرا موسوما بتوتاليتاريا القوة أو السلطة. و هي سلطة لها مظاهر مختلفة، متوحشة و ناعمة في آن واحد. إذا كان التمرد أو "السيبة" دليلا على هشاشة السلطة في الأزمنة السابقة، فإن التمرد في الأزمنة الحديثة غدا مساوقا للحمق و الجنون و الانتحار. ذلك لأن الرقابة امتدت إلى كل شيء، حتى حلمك أصبح خاضعا للتوجيه. فالاقتصاد الموجه ليس هو اقتصاد المنظومة الاشتراكية سابقا، بل هو اقتصاد الرأسمالية التي تستطيع أن تصنع حلمك أو تبيعك الحلم المناسب جاهزا حسب الطلب. ففي عصر توتاليتاريا السلطة و شمولية الرقابة و الرقابة على الرقابة، أصبح من الضروري تعريف العولمة على أنها جنون الرقابة الذي يهدف وضع اليد على ما تبقى من الكائن خارج حدود السيطرة، لإعادة تأهيله و دمجه في نظام الرقابة. إنها ملحمة الترويض الكبرى. فعالم الغد لا يتسع للإنسان الأصيل Indigène. إن هذا لا يتم إلا بوضع اليد على العقول و على المكتسبات الإجتماعية بتحويلها إلى أرقام تبادلية. أي جعلها ظواهر رقمية، حيث يغدو الكل قابلا للتسليع بلا شرط. لكن الأخطر في ذلك كله، أن العولمة تبشر بنوع جديد من البشر. فكائن العولمة، هو كائن سأسميه :الكائن " الأنطو- ميتري". إذا كانت الأشياء في مفهومها العولمي هي هذا الكل المسلع، فإن المجتمع الصناعي الحديث قد أضاف نمطا آخر من التسليع : التسليع الرمزي أو تحويل القيم و الصناعات المعنوية و الروحية إلى كائنات سوقية قابلة للعرض و الطلب. إذا كانت الأشياء اليوم قد أصبحت جميعها – بالفعل – موضوع ماركوتين : أي الكل محسوب و الكل مقيم، فإن تقدما آخر على طريق هذا التسليع الكوني، هو تسليع الكائن نفسه. فالكائن في المجتمع الحديث بدأ يتحول إلى صفة أخرى، أو لنقل إلى مسخ جديد. ربما تجاوزنا حتى عصر ال Homo-oeconomicus. على الأقل كنا في السابق ، نتحدث عن الإنسان المستلب الذي هو الصورة الحديثة عن مفهوم الفصام عند ليفى بروهل بخصوص مبدأ المشاركة La participation. في المجتمع الطبيعي – حتى لا أقول البدائي - .. أو لعلنا تحدثنا عن الكائن المستلب بضاعيا كما تحدث ماركس؛ المستلب الصنمي الذي أصبح للأشياء سلطة على معنوياته و وجدانه.. ففي كل هذه الحالات، على الأقل، كان شيئا ما من هذه الإنسانية لا يزال حاضرا. حتى داخل هذا الإنسان البضاعي الذي أصبحت البضاعة بالنسبة إليه أكثر من كونها منفعة، بل قيمة في ذاتها؛ قيمة غامضة أشبه ما تكون بحالة صنمي لباسي Fetichiste – vestimentaire مهووس بحداء أو حقيبة لامرأة مجهولة. لقد أصبحت الذات نفسها هاربة.. تريد الاستقالة، لا المشاركة. إنه عصر انقراض الأنا. إذا كان جاك لاكان قد حدثنا عن الوعي المتخيل La conscience imaginaire أو " الأنا " كما تظهر في المرحلة المرآوية بوصفها معطى خارجي، فإن " الأنا " هنا ليست متخيلة بل هاربة لا معنى لها. ليست الأشياء مرآتا لها، بل هي مرآة الأشياء. لقد اقتربنا من درجة الصفر لكائن على أهبة الهروب. كوجود لغيره – للأشياء – هذا ما يدل عليه الارتفاع المهول في معدل الانتحار الفردي و الجماعي.. و ذلك لمجرد أن هذا الكائن المنزوع " الأنا " لم يعد قادرا على الانخراط في عالم الأشياء الموجودة لذاتها – و التي هي على كل حال غير موجودة لنا -. و إذا فشل الإنسان في تطبيق المبدء الفوكوني، بالخروج من سباته الإنسانوي ليكون مجرد عنصر في نظام الأشياء، فالمخرج هو الانتحار. العولمة إذن، ستتعامل مع الإنسان كظاهرة " أنطو- ميترية". فهو ليس كائنا موجودا لغير " أسمى" بل هو كائن موجود لغير " أدنى". أعني سوف تصبح علة وجوده هي مدى استعداده للاندماج في عالم الأشياء بمنطق "الهو" لا بمنطق "الأنا"، و مرآتا للأشياء و ليس العكس. هذا الفقر الوجودي لإنسان المستقبل – الإنسان العولمي المسلع – سيخضع و جوده إلى قرار السوق بموجب العرض و الطلب. ماذا إذن، لو نجحنا في الاستنساخ و أصبحنا ننتج من البشر ما تطلبه حركة السوق، و نعيد إتلاف ما لم يعد مستحقا للحياة. ماذا إذا أصبح الاستنساخ مثلا، متاحا للاستهلاك العمومي – La consommation de masse -؟! إن وجوده حينئذ لن يكون واجبا بالمعنى المتعالي لحكمة الخلق، و لا هو مقذوف به هناك بالمعنى الذي تفيده محنة الوجود هناك أو الدازاين الهيدغيري.. و لا حتى الموجود الذي تحصلت ماهيته بالعمل، بعد أن كان وجودا عمائيا Chaotique لا معنى له أو محض هيولي مجردة حتى عن الإمكان، الإمكان أو الاستعداد لتقبل الصور. فالموجود العولمي هو غير ذلك؛ هو كائن حددت ماهيته سلفا.. ماهيته تسبق وجوده. فهو موجود خاضع لنوع من السياسة الإنتاجية أو الاستهلاكية الإستباقية أو السياسة الإيكونوميترية السابقة Pré-économétrique. حتى الولادة لن تبقى شأنا شخصيا، بل سوف تكون صناعة مرتبطة بمتطلبات السوق. أنت فقط تطلب، هناك المصنع يزودك بقائمة لاختيار الشخص المناسب، في ذوقه في استعداده في شكله. فإنسان العولمة القادم، هو كائن مجبور و مسير و موجه، ليس من قبل خالقه كما يحدثنا علم الكلام القديم، بل مسير و مجبور من قبل إرادة السوق الحرة كما ينبغي أن نفهم في ضوء علم الكلام الليبرالي الجديد. فالحاجة إلى الوجود، ليس الإمكان و لا الفقر الوجودي، بل هي الاستعداد للترويض.. فبقدر ما نبتعد من عصر الإيمان أو الفلسفات المتعالية، بقدر ما نقترب من اللامعنى. إنه بالفعل عصر إلهيات الماركوتين. سيطرة على الوجدان و على العقل و على الوجود.. هذا هو الجديد في تعريف العولمة : أن يصبح العالم قريبا من كل شيء – حتى من أبعد الأشياء – لكنه بعيد – حتى من أقرب الأشياء – عن " أناه".. هذا ما أسميه : البعد في القرب و القرب في البعد.. لقد عرف كل الأشياء و ضيع "أناه" فما هي العولمة إذن؟ أقول بناء على ما سبق؛ إنها محاولة توتاليتارية لاستكمال السيطرة على الوجود بما هو موجود، من أجل تحقيق التحول بالتاريخ الحديث، من عصر الإنسان المستلب جزئيا أو المشارك إلى عصر ما بعد الإنسان الاقتصادي Post-Homo-oeconomicus؛ أعني إلى عصر الكائن بوصفه ظاهرة أنطومترية .Onto-métrique إن إنسان العولمة هو في المحصلة النهائية، مجرد شيء من أشياء العولمة !
هل ثمة فوضى بالفعل؟
ليس ثمة "فوضى . إن الأزمنة الحديثة موسومة بالخضوع اللانهائي لنظام الرقابة. ربما اليوم و في المستقبل سوف نعيش تضخما مرعبا في منسوب الرقابة التي هي أساس السيطرة. إن المفاهيم التي ذكرتموها لم يعد لها أي مضمون وظيفي في التحولات المنظورة. ليست العولمة و شعاراتها هي مفاهيم وهمية للخطاب النيوليبرالي، جاءت فجأة لتلبس على مفاهيم سابقة. كل ما هنالك، أن المفاهيم التقليدية التي هي الأخرى من اختلاق الليبرالية المهيمنة، فقدت فعاليتها الوظيفية في إطار ما يشهده العالم من تطور سريع. كل شيء مراقب، و كل شيء خاضع لنظام تراقبه القوة الليبرالية المهيمنة على مصادر القوة في العالم. إن المفاهيم لا قيمة لها هنا إلا بما تمثله من بعد وظيفي. القوة هي التي تخلق المفاهيم و تزودها بعناصر البقاء. لا عجب إذا قلت لك الآن : امنحني قوة، أمنحك مفهوما. إذن، كيف يقال إننا نعيش الفوضى، و بمقدور عابر سبيل في طوكيو أن يعرف عن وضعك المدني حتى عن فاتورة الكهرباء. فما نعيشه إذن ليس مصداقا للفوضى، بل هو حالة من الحركة التي تدور حول محور مركزي لا نعرف شيئا عن مدى إمكانية صموده.. هي حركة من نوع Mouvement de centrefuge، لا نستطيع التنبؤ بنهايتها. فالكل داخل هذه الحركة لا يرى إلا شيئا واحدا؛ متى ينفرط عقد هذه المنظومة و متى ندخل سدم العماء. الشيء الوحيد الذي افتقدناه في هذه الدوامة، هو إمكانية التنبؤ الصحيح. إنه عصر منظم، لكنه يوحي بخيبات الأمل و ينذر بالعماء. نعم، ربما في ظل الوتيرة السريعة للتطور، قد يصعب علينا التوقع. من هنا سيصبح الحديث صعبا و إشكاليا حول المستقبليات. إذن العولمة ليست عالم فوضى، بل هي عالم رقابة منظمة و صارمة، لعبت فيه المعرفة لعبتها البروميتيوسية. و هنا أحب أن أقول؛ إنه ليس عصر الثورة الرأسمالية الثانية، حيث هذا يطرح سؤالا دوريا : من يثور على من؟! إنها ثورة المعلومات التي كان لها الدور الحاسم في سباق المسافات الطويلة للرأسمالية المتوحشة. و هنا تبدو الرأسمالية محظوظة أكثر من اللازم. محظوظة يوم أسعفتها التقنية، ومحظوظة يوم أنقذتها الوصفة الكينيزية و محظوظة يوم انسحب من الميدان خصيم لها قاده وعيه الشقي إلى الانتحار.. و محظوظة يوم أسعفتها ثورة المعلومات.. لكن كل هذا لا يرفع عنها صفة الإمكان؛ فأي دحرجة تلك التي سيتعرض لها النظام الرأسمالي، يوم يندب حظا عاثرا ربما يخفيه عنه اليوم مكر هذا العماء القادم لا محالة.إن الأمر المعجز حقا هاهنا،هو كيف استمرت الرأسمالية في توحشها حتى اليوم ، وكيف ستحافظ على توحشها ورشاقتها المغشوشة إلى حين؟ ذلك هو المعجز حقا فيها وليس هو انهيارها.على أن هذا الإنطباع هو نفسه لكبير المضاربين في الأسواق المالية؛أعني جورج سوروس.
الأسطورة الفالراسية
لقد أحسن بورديو، بالفعل، حينما وصف هذه المعادلة الفالراسية بالأسطورية. ذلك لأن التحولات الجديد للاقتصاد الحديث، لا تقبل المساومة. فالنزعة الداروينية – و التي هي للأسف، المحرك الأساسي لهذه البنية الذهنية – لا تقبل بالهدنة. و مع ذلك فعصرنا هو أكثر وحشية مما تصور أسلافنا. على الأقل كانت النشوئية الاجتماعية مع نيتشه تحرضنا على إبادة الضعفاء بحثا عن القوة و إرادة الحياة. لكن حتى هذا الحلم الهوسي بالقوة الذي لم يقطع حبله السري مع إرادوية شوبنهاور أو لنقل مع حلم " زارا" بحثا عن الإنسان الأعلى، لم يعد له معنى. إن المشكلة اليوم، أن هذا النظام أصبح قادرا بل مصمما على صناعة الضعفاء و صناعة الفقر و البؤس. إذن هو ليس حتى نظاما دروينيا. إذا كان نيتشه ينام على أمل أن لا تطلع الشمس فيه على العبيد. فإن الاقتصاد الدارويني لا يستغني عن الضعفاء و يتمنى أن يزدادوا كل يوم فقرا إلى حد يشدهم إلى عبوديتهم، التي بدونها لا تزدان الحركة الصناعية؛ فهم اليد العاملة و هم المستهلك و هم العموم.. فلو أصبحنا كلنا أرباب عمل، فمن سيكون المنتج و من سيكون المستهلك؟! لقد خدعنا نيتشه إذن في نزعته الداروينية هذه، لأننا لو أصبحنا أقوياء، فسيضيع منا معيار القوة. و إذا كان مفهوم القوة نسبيا، و كان للأقوى دائما الحق في سحق الأضعف، فالنتيجة أن واحدا فقط هو الأجدر بالحياة. أعود لأقول مرة أخرى، بأن النزعة الداروينية لا تقبل الترويض، فهي كما يراها صاحبها في الطبيعة تخبط خبطا عشواء، لكنها ماكرة بامتياز. إن خصمها التاريخي كان و لا يزال، هو هذه القيم النبيلة من قبيل الحرية، و العدالة الاجتماعية، و الحق في الحياة و .. و .. سأعود مرة أخرى إلى نيتشه؛ إنها شعارات من وحي أخلاقيات العبيد. .حتى الحرية و العدالة هي من زفرات العبيد.. كيف إذن نتمكن من تحقيق هذه المصالحة التاريخية – الأسطورية حسب بورديو – بين نزعة الاستقواء الأعمى و مطلب العدالة و التكلفة الاجتماعية. إنها بالفعل أسطورة لا مكان لها إلا في ذهنية فالراس ! نعم، هناك تمديد في شهر العسل بين العولمة و الديمقراطية المغشوشة. و هي كما تبدو، لعبة الوقت بدل الضائع. لأن العولمة ما أن تستحكم قوتها، حتى تصبح ديمقراطية الرأسمال و ليس ديمقراطية الإنسان. ذلك لأن إنسانها أو بالأحرى كائنها الأنطو-ميتري، هو مروض بما فيه الكفاية للاستجابة للاستهلاك الموجه، و لقمع هذه التوتاليتاريا الناعمة. فالكائن الانطو-ميتري هو كائن مجبور غير مختار.. هو كائن مفرغ من أناه الفرداني. إن الوتيرة التي تجري عليها الأحداث اليوم، تؤذن بنهاية عصر الجماهير و نهاية عصر الفرد بما هو فردانية حرة. إنه عصر لا يستحق أن يوصف بالإنساني، إنه و كما يصفه RAHAN في بعض الرسوم المتحركة للأطفال : بالكائن الذي يمشي منتصب القامة ! أي ذلك الذي ليس له ما به يمتاز عن باقي الكائنات البرية سوى فعل المشي منتصبا.. على أن ثمة من هذه الكائنات من يشاركه هذه الاستقامة. ومن يدري أن كائن العولمة، سوف يكون محدودب الظهر وربما افتقد إلى ميزة المشي واقفا بعد أن افتقد إلى معنى إنسانيته. إنهم أولئك الذين يمشون واقفين :! ceux qui marchent debout أي ذلك المسخ الجماعي؛ قطيع العولمة ! أي مستقبل للديمقراطية في مجتمع لا يملك الفرد فيه " أناه" و من هربت منه ذاته كيف يكون له رأي؟ ! ففي مجتمع "الأنوات" المفقودة، ما الحاجة إلى الرأي؟ طالما العولمة تتيح لك الحياة بدون " أنا". أي ككائن يمشي واقفا، أو كطاقة غريزية مثارة بمقاييس مضبوطة. سنكون مدينين إلى الفارابي حينما رأى الإنسان مجبورا في صورة مختار ! العولمة تعفيك من أن يكون لك رأي، و من كدح الفكر و جهد النظر. فهي تتيح لك إمكانية شراء " الرأي" جاهزا كطبق من الهمبرغر. ثمة دائما من يفكر عنك؛ إنه الإعلان. و الاستهلاك لا يدع لك الفرصة في هذا السباق المارطوني. فوراء الرأي تفكير، و وراء التفكير جهد و وقت. و الكائن الأنطو – ميتري مسلوب الوقت منهك من فرط الترويض اليومي. فأمامه رأيان على الأغلب، و الأمر لا يتطلب منه إلا أن يجيب ب : نعم أو لا.. و بين نعم و لا هذه لكائن أنطو – ميتري، تكمن أكذوبة الديمقراطية المغشوشة في مجتمع ليبرالي خضع فيه الرأي لمنطق العرض و الطلب. لا حديث إذن عن تنمية مستدامة، هناك فقط وفقط، استهلاك مستدام ! ثم هب أننا صدقنا بحرية هذا الكائن المصنوع أو المعالج في أوراش المجتمع العولمي، فعبر أي وسيلة من وسائل الإعلام سيعبر عن رأيه. إذا كان الإعلام صناعة بيد الرأسمال نفسه. فوسائل الإعلام ليست حرة. إذن الديمقراطية كانت حكاية لأولئك الجماهير الذين أصبحوا اليوم أقصوصة قديمة أشبه بملحمة الخلق الأولى. أما العولمة فهي دعوة إلى عصر انقراض الجماهير. المجتمع السياسي العولمي المنظور هو مجتمع مافيوقراطي بامتياز. علينا أن ننتبه إلى تلك المغالطة الخطيرة التي تخلط بين النزوع إلى استعباد النوع و بين تطور المجتمع الحديث، الذي كان للرأسمالية الفضل في تقدمه بالمقدار نفسه من فضلها عليه في هذه الانهيارات. النزعة الاستغلالية المتوحشة وجدت في كل النظم السابقة للرأسمالية . إذا تحدثنا عن القطاع الرأسمالوي Le secteur capitalistique كما يصفه ماكسيم رودانسون، فهو حاضر في كل أشكال الانتاج السابقة للرأسمالية. بمعنى آخر، إن ما يدور في رأس الإقطاعي هو نفسه ما يدور في رأس الميركونتيلي ،وهو نفس ما يدور أيضا في عقل رجل مضاربات في بورصة وول ستريت أو نيويورك. و هذا ما يتضح جليا أثناء الحديث عن الدولة – الشركة بديلا عن الدولة – الأمة.. و أيضا من خلال اتفاقية MAI . فالدولة – الشركة، هي بالفعل الصيغة الممكنة الوحيدة للمجتمع العولمي. لأن الشركة سوف تلتف على الدولة في نوع من الخوصصة الذكية. الشركة لا تريد أن تشتري الدولة كلها، و ليس ذلك في واردها التوسعي. فالوظيفة المحددة للدولة تجعلها جهازا ردعيا و حمائيا. الدولة تحتكر العنف، و الشركة لا تريد الإنفاق على العنف طالما أن الدولة ممكن أن تفرض على المجتمع ضريبة هذه الخدمة! أي حماية الشركة منه بالذات. الدولة تملك أن تجبر المواطن على دفع أضرار أي شركة تعرضت للعصيان المدني أو لاحتجاج العمال. هذا ما يكشف عنه مفهوم ال Gouvernance، و اتفاقية ال Mai. فال gouvernance، تتيح للشركة أن تتوفر على حق المساهمة في رسم مخططات الدولة أي المساهمة في تدبير الشأن العام، و ذلك وفق نظام الأسهم أو الحصص. بمعنى آخر، الدولة ستصبح بورصة للاستثمار في تدبير الشأن العام. و ليس للدولة إلا أن تنفد سياسة المستثمر. إن للدولة في هذا الأركستر الرأسمالي المتوحش، دور المايسترو الذي يتقن فن التموج و الانسياب مع هذا النغم الساحر لكونسرتوهات مؤلفة و مقروءة سلفا. على أنه لا يفوتنا القول، بأن مؤلف هذه المعزوفة يجب أن يكون هو كبير المستثمرين بامتياز!
لقد ظهر ذلك بوضوح من خلال اتفاقية ال Mai، التي نزلت على الرأي العام كالصاعقة. إنها وثيقة تكذب ادعاء العولمة بأنها تبشر بعصر الجماهير أو عصر الديمقراطيات الحرة. لقد كانت اتفاقية سرية كما لو أنها مخطط مافيوزي. ربما كانوا على حق، لأن الجماهير، هؤلاء الغوغاء، سوف يعكرون عليهم هدوء أشغال الاجتماع، كما جرى في سياتل و جينواه.. لقد كانت أشبه بوفد جاء ليستكمل انتقاما زيوسيا ضد ما تبقى من سياسات اجتماعية بين يد البشر؛ إنها لعنة ليبرالية.
هل يمكننا نعي السياسة في زمن الأبرتهايد الإقتصادي؟
إنهم يتحدثون عن مصير الأفكار و المثل الجميلة في عصر انتصرت فيه القوة الأيديولوجية التي كانت تقف دائما ضد مطلب العدالة الاجتماعية. الذين كانوا في حاجة إلى هذه السياسة الاجتماعية، هم أولئك المهمشون الهاربون من جحيم المجتمع الصناعي.. هم مثال جونفالجان الذي تفجر عنه ذلك النداء الإنساني اللا مشروط من أعماق هيغو و أمثاله، كشاهدين على عصور الاستبداد الأوروبي، و لم تكن مطلبا للقرصان الإنجليزي المسيطر على أعالي البحار. التاريخ إذن يعيد نفسه بصورة أفظع. و مع ذلك دعنا نمضي في هذه المماحكة بعض الشيء لنقول إذا كان و لا بد أن تحتضر السياسة من أجل تحرير الإنسان اقتصاديا، فما المانع؟ و إذا كانت العولمة هي هذا الخلط العجيب لأوراق السلطة و مصادرها فما هو الإشكال؟ و ما المانع إن كانت ستهز البنى العتيقة التي شيد على أساسها الاجتماع السياسي، لمزيد من إطلاق المبادرة.؟ إن مثل هذا الفهم السطحي للأمور لا يجعلنا نغفل كون كل هذه المفاهيم ليست جديدة على اجتماعنا الإنساني. بل كانت دائما برنامج عمل الليبرالية و السوق الحرة منذ العهد الفيكتوري. كل ما هنالك أن الحرب الباردة انتهت و انتهى معها فعل التوازن العسكري و السياسي و الاقتصادي و الأيديولوجي، قد أخرت تحقق هذا الحلم، قبل أن يعود العالم إلى عذريته الأيديولوجية مجددا في انتظار البديل. و الليبيرالية الجديدة اليوم، تستأنف محاولتها التقليدية المتطرفة للبلوغ بحرية السوق إلى أقصى حد ممكن. فالحديث عن العقد الاجتماعي أو فكرة المواطن الحر، هي أساطير المجتمع الحديث. فلم تكن يوما سلطة القرار في يد الجمهور، وإن كان بين الفينة و الأخرى ينجح في تحقيق مطالبه الجزئية. إذا كانت النظم الأوربية طيلة الحرب الباردة قد خضعت لحد أدنى من السياسة الاجتماعية، لعلها هي ما جعل المجتمع الأوروبي أكثر انتعاشا من المجتمع الأمريكي نفسه. فذلك ليس راجعا لضغط الجماهير فحسب، بل هو خدعة تخفي حقيقة الوضع الأوروبي كحزام أمني للولايات المتحدة الأمريكية و الليبرالية الغربية ضد التهديد السوفياتي. و إلا لماذا تراجعت السياسة الاجتماعية في أوربا بمجرد انهيار سور برلين. يفترض من الجمهور الأوربي أن يكون شاكرا للاتحاد السوفياتي، لأن صواريخه الباليستية شكلت حماية لسياسات أوربا الاجتماعية. إن الجماهير هي الجماهير، فما الذي تغير اليوم؟! إذا كان للجمهور قدرة على الضغط بالأمس القريب، فهو راجع إلى أن النظام الدولي لم يكن يتحمل. أما الآن بعد نهاية الحرب الباردة، فإن تظاهرات الجماهير الأوروبية تحولت إلى نوع من التهريج، فلا آذان صاغية. لقد تراجع صوت الجماهير. و المستقبل ينذر بتراجعات مهولة في مجال الحقوق المدنية. إننا نعيش مرحلة الدحرجة السيزيفية بعد أن جربنا الصعود المضني الذي أتى على ما تبقى من معنى لإنسانية حرة !
إذا عدنا إلى ما أشرتم إليه، الاقتصاد الخالص أو المجرد، وتحديدا مع ليون فالراس، سوف نجدنا أمام اقتصاد مروض و مختزل في معادلات رقمية. هذا معناه أن الاقتصاد أصبح شأنا علميا خالصا، لا علاقة له بالمجتمع و لا حتى بالسياسة. فالعدالة الاجتماعية هي موضوع إنساني مجالها القيم. و من هنا بدأت الأسطورة. إذا كان " فالراس" قد طرد الإنسانيات من عالم الإنتاج و منطقه الرياضي، كيف يريد بعد ذلك إعادة إدخالها من نوافد مغلقة رأسا. كيف يمكننا تحقيق المصالحة بين وفرة الإنتاج و العدالة الاجتماعية. هذه التلفيقة الأسطورية تحجب حقيقة فعل الميكانزمات الرأسمالية التي لا يمكنها أن تعمل إلا على حساب العدالة الاجتماعية. على الأقل، الليبراليون المتطرفون يفضحون هذه الازدواجية ليعلنوا طلاقا تاما بين الأمرين. و علينا إذن و نحن نتحدث عن الاقتصاد المجرد القائم على العلم، و تحقيق المصالحة بين الانتاج الحر و العدالة، أن نقف عند الدوافع الإيديولوجية وراء هذه التلفيقة الفالراسية الخادعة. لا سيما و أن فالراس من خلال كتابه عن الاقتصاد السياسي و العدالة، قصد إلى دحض اشتراكية برودون المثالية. لكن انظر مثلا إلى " جورج كينان" و كثيرين من أمثاله، يمتدون إلى جيل المركونتيليين، و لا يزال لهم نظراء و حواريون بين ظهرانينا. أولئك الذين يعلنون بوضوح و صراحة : فلتسقط العدالة الاجتماعية‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. ‍‍‍ليس ‍‍‍‍‍ثمة من فارق إذن بين تلك النزعة الفيكتورية و نزعة الليبرالية الجديدة اليوم سوى ما جد في وسائل التيسير و تطور التقنية، و تقنية المعلومات. إن العصر البروميتيوسي الذي ازدهرت فيه السياسات الاجتماعية في أوروبا لم يكن سوى شهر عسل أشبه بحكاية الأزمنة الجميلة في أوروبا. لقد حلت المقاولة مكان الحزب، و صندوق النقد الدولي مكان مجلس الأمن الدولي. أما الآبارتايد الاقتصادي فهو جوهر النظام الرأسمالي و فلسفته. ثمة توزيع متفاوت للعمل والثروة. إذا لم يكن ثمة أبارتايد اقتصادي فلا مكان للسوق الحرة. أعني حرية سباق تنافسي على أرضية ملعب مائلة. إن فكرة الوطنية وما يناظرها من مفاهيم، كمفهوم الدولة-الأمة، هي جزء من الاركيولوجيا السياسية للعهد القديم. فإنسان المستقبل، لا وطن له. بل هو كما وصفه مرة جاك آتالي: بدوي، رحلي-"nomade"-. فالإنسان العولمي مدين للمقاولة أكثر من الدولة.. هو حيوان استهلاكي أكثر مما هو حيوان سياسي. فحينما تموت فكرة المواطن و الوطن، حتما ستموت السياسة.
هل ستقودنا مسيرة التوحش الرأسمالي إلى انتحار جماعي على طريقة الحيتان؟
أولا وقبل كل شيء، ليست الرأسمالية ثورة، بل هي نزعة تاريخية لها استعداد ناذر للتكيف مع كل مراحل التقدم البشري . فما حصل بالنسبة للأزمنة الحديثة ، هو أن الرأسمالية قفزت إلى القمة ، وذلك نظرا للتطور القفزي نفسه الذي حصل في مجال التقنية،وازداد بفعل التراكم الضخم للثروات، نتيجة الحركة الاستعمارية الكبرى التي عرفها تاريخ العلاقة الأوربية بعوالم ما وراء البحار. إن ما حدث في الغرب ليس أمرا جزافيا. لقد كان من المفروض أن تنكشف هلامية السؤال الويبري نهائيا. لماذا ظهرت الرأسمالية في أروبا دون غيرها ؟ إنها في تقديري مسألة لحظة حاسمة في التاريخ. نعم، لقد كانت الرأسمالية ستحصل بشكل أو بآخر وفي أي زمن أو مكان آخر. فالسبق إذن راجع إلى التطور التقني الجديد بما وفره من قوة في الصنائع وسرعة في التنقل ودقة في الأداء..وراجع أيضا إلى هذا التراكم _ الذي هو شرط الإقلاع الاقتصادي_ .إن الشيء الذي أتيح للغرب و لم يتح لغيره،هو اختصار الوقت في مراكمة الثروات و المعدن النفيس من مستعمرات الدنيا. وهو ما لا يمكن أن يحدث بالنسبة لأمة أخرى من الأمم. هذه حقيقة لا ينبغي نسيانها أبدا. أقول، إنها نزعة وجدت حتى داخل الأنماط الاقتصادية ما قبل الرأسمالية، و إذن فبالإمكان التنبؤ بالكثير من مظاهرها. فغاياتها الجهنمية يمكن استقراؤها من نشأتها الأولى. الأمر بالفعل يتجه نحو النهاية. و بما أننا جميعا وصلنا مرحلة أصبح من الصعب تصور إمكانية إحداث أي تغييرات في بنية العلاقات الدولية وفي منطق الاجتماع السياسي للمجتمع الصناعي الحديث، فهذا معناه أن المحنة بلغت مداها و اشتدت. و المحنة متى اشتدت انفرجت. هذا معناه بما أننا لا نملك تصورا عن المآل الذي سيعقب هذه النهاية السيئة، فهذا يعني أن ما بعد عصر الانسداد تسكن الثورة. أي التغيير الجذري الذي يتحقق معه التحول التاريخي نحو الأفضل. ربما نكون من سلالة الحالمين الذين لازالوا يحلمون بذلك اليوم، في زمن عادت الثورة لتصبح كما يصفها نتشه : مفخرة العبيد... لكننا على أية حال لسنا الوحيدين الذين يحلمون بذلك، إذ حتى في الأعماق السحيقة للرأسمالية، يسكن قلق من المستقبل، و لذا تراها تستعجل مخططاتها، ولا تؤمن بالخطط البعيدة المدى. إن سقوط النظام الرأسمالي أمر متوقع جدا. بل ما يخالف منطق الأشياء هو كيف يستمر هذا النظام، و كيف لا يزال محظوظا ويستمتع بمزيد من البقاء. لعل نهايته هي أقرب إلى الاستيعاب من بقائه نفسه. كما يتساءل أكبر تاجر في العملات، أعني جورج سوروس مثلا الذي يعتبر أكبر مستفيد من المضاربات المالية و أكبر نقاد النظام الرأسمالي. وإذن، فهو قلق ساكن في عمق هذه النزعة الرأسمالية ذات الواجهة الخادعة. إن العالم لا يمكنه أن يستمر على هذه الوتيرة من التطور الذي افتقد قيمته و معناه. وإلا تحول إلى مسخ فاقد لمبرر البقاء. و كما ذكرنا قبل قليل ،أي مستقبل للإنسان، إذا استمر على هذا المشوار يحمل صخرة التصنيع على ظهره بلا جدوى. أي مستقبل للبيئة، إن كانت الأرض هي الكوكب الوحيد المعرض للتلاشي بفعل التلوث غير المحدود، الذي خيبت آماله اتفاقية "كيوطو". أي مستقبل لعالم مرهون للرعب النووي الذي بدا كسيف ديموقليس فوق رؤوسنا.. لا مخرج إذن ؟ فإما نكون أو لا نكون. و في اعتقادي أن الثورة ستفرض نفسها بنفسها. والعالم المتقدم لم يعد يملك إلا أن يبرر هذه الفظا عات و يحجبها. لكن الرقع اتسعت على راقعها. لقد تورطت الرأسمالية في مشوار لا تملك قرار التراجع عنه. وهي تقترب من لحظة الصفر.. من كارثة كونية أو انتحار جماعي. إن النظام الرأسمالي الذي فشل خلال كل هذه الحقب، في أن يبيد آفة المجاعة و الفقر من عالمنا، لكي يمنح للعدالة الاجتماعية مكانتها المعتبرة في قائمة الحقوق، أكد على أنه ليس خيارا صالحا للمجتمع الإنساني لأنه أصبح خطرا على نموه الاقتصادي، بمعنى حارسا لتخلف الجنوب و حارسا للفجوة الفئوية بين جماهيره.
هل الإسلام مرشح لمواجهة العولمة كما يرى كبلان؟
إنها حقا، عولمة موجهة، مأمركة، خاضعة لنمط من الرقابة الصارمة، بحيث أصبح من المتعذر أن نتصور نموذجا لعولمة بديلة أو عولمة بطعم و نكهة مختلفة. لقد كان من المفترض في العولمة الحقيقية، أن نعيش في عالم يكون فيه "الماكدونالد" ممكن الوجود لا واجب الوجود.. تحضر فيه أمريكا و تغيب.. _على أن مشكلتي ليست مع "الماكدونالد"- لكن العولمة اليوم، معناها، أنك لن تكون إنسانا عولميا نموذجيا حتى تكون مصابا بفقدان الذوق و عمى الألوان. فالعولمة إذن هي نفسها ال : American way of life . وهذا ليس له إلا تفسير واحد : أن العولمة هي فقر في الاختيار و أمركة للذوق. إنها دكتاتورية، خطابها إما نهاية التاريخ و إما عنف الحضارات.. لكن أيا كان الأمر فسوقها واحد: إنه عصر التوحيد الذي لم تشهده المجتمعات الغربية. إذا كان العقل الغربي تثليثي في الاعتقاد، يسمح بتصور الأقانيم الثلاثة، فهو في الاقتصاد، ضد هذا الشرك. أمام هذا الواقع المزري، لا يمكن للعولمة أن تحظى بأنصار في مجتمع الفقراء و الجوعى و المهمشين، الذين هم للأسف أغلبية المعمورة، ولكن المفارقة، قاصمة الظهر أن هؤلاء الجوعى هم بالنتيجة من يمثل القوة الاحتياطية لأنصار العولمة. هم الجيش و هم العمال و هم المستهلك و هم فئران التجارب . إنه قدر الإنسان في زمن لا يستمتع فيه الإنسان بإنسانيته. فالإنسان في المجتمع الحديث، إما مستهلك_بكسر اللام_ مستلب أو فقير مستهلك_ بفتح اللام_. و النتيجة لا وجود للإنسان المعتدل. و لكن، هل نسلم للرأسمالية المتوحشة ناصيتنا و نمنحها فرصة أخرى كي تسرق منا ما تبقى من إنسانيتنا المهدورة؟ هنا فقط يمكنك أن تتحدث عن جيل جديد من الحقوق تولد من رحم هذه الملحمة من التجاوزات الفظيعة.. و هنا يمكننا مبدئيا الحديث عن مشروعية حركة الاحتجاج الواسعة التي يقوم بها قطاع واسع من المجتمع المدني في أوروبا و أمريكا نفسها، و الذي أظهر إلى أي حد هو في مقدمة المستهدفين بهذه العولمة. وقد نخطئ لا محالة إذا نحن اعتبرنا تلك الحركات الاحتجاجية هي تفضلا من الشارع الغربي أو دفاعا عن العالم الثالث. لقد كرست الحرب الباردة واقع السياسات الاجتماعية في الأنظمة الأوروبية. و الآن، هاهو الشعب الأوروبي نفسه يدفع فاتورة نهاية الحرب الباردة. وللأسف ثمة من ردد و لا يزال، بأننا محظوظون يوم منعنا الاتحاد السوفيتي من الوصول إلى المياه الدافئة. إن ما يحدث اليوم في أوروبا هو بداية لتاريخ جديد. فالأوروبي في حالة استئناف لنضال تاريخي طويل المدى. فالفظاعة اليوم هي أكبر من كونها إنسانية. إنها كونية شاملة. إذا لم يتوقف هذا النزيف العولمي، فليس الإنسان وحده من سيفقد معناه، بل الكوكب كله معرض للدمار. وهنا لا يمكننا الحديث عن نجاح لهذه الحركات الاحتجاجية أم لا. لان المطلوب من طلائع التحرر العالمي أن يعملوا و يحلموا و لا يتراجعوا أمام أكذوبة نهاية التاريخ. هذا لا يعني أن العولمة أمر يمكن التراجع عنه. هذه مصيبة أخرى ابتلينا بها هذه الأيام؟إما مع أو ضد إما العولمة أو التخلف. هذه هي عقيدة الثالث المرفوع، التي جعلت ا لبعض ير ى في موقفنا من العولمة تعبيرا عن خلفية رفضوية مؤدلجة , أ و كراهية للحداثة و للغرب. و ا لواقع أن هؤلاء و قعوا في فخ الدعاية العولمية التي تخفي استبدادها و قمعها اللامحدود , ووحشيتها التي التهمت كل الأحلام الجميلة للحداثة نفسها. فهل هذا يعني أ ن حركات الاحتياج ضد العولمة في أوربا و أمريكا هي حركات احتياج ضد الحداثة وضد الغرب ؟‍‍‍! و حتى يكون المرء واضحا أكثر ، نقول بأن العولمة هي سيرورة حتمية فرضها ا لتطور التاريخي و ثورة المعرفة و التواصل . لكن هذا لا يعني أ نه لا مجال للمناورة . إ ن الحتمي في العولمة هو جوهرها ا لعالمي و ا لمعرفي ، لا مظاهرها الأيديولوجية أ و سياساتها ا لاحتكارية . إذن ثمة إ مكانية متاحة لتصعيد خيار الممانعة لتحقيق حد أدنى من الحقوق في انتظار التغيير الأعظم . و حتى لا يكو ن كلامي ضربا من ا لتدليج و ا لديماغوجية الرفضوية , سأوضح ماذا أ عني بخيار الممانعة . أ جل , علينا أ ن ندرك حقيقة موقع الإرادة في صناعة التاريخ أ و تغييره . إذا نحن اعتبرنا الإنسان صانعا للتاريخ و فق ما يقرره منطق ا لفعل الإنساني من خلا ل الاستقراء التاريخي, سنكون قد وقعنا في نزعة إرادوية لا تاريخية . و هذا لا يعني أننا نمنح هذه ا لسلطة للتاريخ في أ فق تغيب عنه الفاعلية الحرة , هذه إشكالية أزلية أرقت ولا تزال تؤرق ا لعقل الإنساني حتى اليوم . إ نما أتصور أ ن التاريخ لا يصنع نفسه في استقلا ل عن هذه الفاعلية , و لا أتصور أ ن هذه ا لفا علية تصنع ا لتاريخ كما لو كان هذا الأخير مجر د تطور سلبي أ و مسلسل من ا لمحمولات ا لطارئة على حركته . التاريخ يصنع نفسه بنفسه و من خلا لنا . و هذا يعني أ ن ا لعولمة هي حقيقة تاريخية لا نملك حيالها سو ى فعل المناورة . أ ي ا لحفا ظ على الحد الأدنى من الاعتبار . لسنا نحن من سيغير هذه الوجهة , إ نما مطلوب منا أ ن نناور داخل هذا المسلسل و ليس خارجه . الممانعة إذن أ ن نؤدي دورنا داخل هذا المعطى الجديد. ليس المطلوب منا رفض ا لعولمة , بل ا لمطلوب حماية ا لاعتبار الإنساني و ا لنضال من أجل ا لتحرر و العدالة . النضال من داخل ا لعولمة لا من خارجها. كيف ينبغي لنا أ ن نعولم نضالنا من أجل إنسانية , حر ة في صياغة عالميتها .. كيف نعولم هذا الخطاب المعارض للاحتكار المتعولم الخادع .. كيف نقاوم خطر العولمة نفسها ؟ المشكلة إنسانية وليست مسؤولية أمة دون أخر ى أ و فكر دون آخر . إن قيمة الفكر هنا تكمن في مدى نجاحه في تأطير حركة الاحتياج بخلق بدائل حقيقية و برسم أ مل في هذا الزمن ا لموسوم بالانهيارات الكبرى.
هل يصلح الفكر الاسلامي.. لهذه الممانعة؟
السؤال الوارد حول موقعية الإسلام و الفكر الاسلامي من هذه الحركة في عصر موسوم بنهاية التاريخ وموت الإيديولوجيا هو سؤال مهم . إ لا أ ن الإجابة عليه ليست بالسهولة المتبادرة إلى الأذهان. لأن المسألة ليست مسألة أن ينخرط الفكر الإسلامي في هذه الحركة أم لا . بل القضية الأساسية كيف ينخرط هذا ا لفكر ا لذي تشرب من عوائد التخلف المحلي في هذه ا لحركة العالمية .. و ماذا يملك ا لفكر الإسلامي من خلا ل اجتهادات أنصاره ودعاته من حلول .. و هل ما بين أ يدينا جدير بإنقاذ ا لعالم ا ليوم , أم أن الأمر يتطلب اشتغالا حقيقيا على مادة هذا الفكر . أ نا لا أ تحد ث عن الإسلام , بل إن حديثي موجه إلى الناطقين باسمه. فالقرآن لا ينطق بلسان , بل بترجمان وبمن يستنطقه من ا لرجا ل . إن كلام جورج كبلان , لا ينبغي أ ن نأخذه على عموميته و إلا وقعنا في الفخ . نعم, ا لإسلام خيار عظيم في ظل هذه المواجهة, لكن كيف؟ هل الإسلام كما هو ؟! طبعا، لا أقصد الجانب الماهوي منه، بل أعني الإسلام كما هو، أي من خلال عوائد أنصاره و مجتمعاته من دون معالجة ولا صناعة متجددة. الواقع إن هذا القدر المتاح من الفكر الإسلامي اليوم,كما قلت وسأقول دائما، قصاراه أن يجعل المسلم مسلما بريء الذمة من الناحية الشخصية. أو إذا شئت بلغة الفقهاء, إنه يحقق الحد الممكن من المعذرية و المنجزية للمكلف الشرعي. لكن ما به يكون الإسلام حضارة و نهضة و تقدما و تطورا، فهذا شأن آخر له منطق مختلف. و هاهنا يجري نقاشنا. إذا كان الفرد بريئ الذمة من الناحية التكليفية, فإن الأمة ذمتها مشغولة بتكليف آخر. أي بتحقيق نهضتها. إذن ماذا يعني "كبلان" أن يكون الإسلام قريبا بنيويا من الفقراء. هل هذا يعني أن الإسلام يحمل مشروع تفقير العالم أو حماية الفقراء؟ هل الإسلام هو مشروع أهل الصفة أم هو مشروع إعادة إدماج الفقراء في دورة الغنى الممكن ! ؟ نعم الإسلام يقارن بين الفقر و الكفر : "لو كان الفقر رجلا لقتلته" كما يقول علي بن أبي طالب . و الكفر ظلم : "والكافرون هم الظالمون" .الإسلام بهذا المعنى ضد الظلم. بوصفه منقذا للفقراء لا مكرسا للفقر.
لاشك في أن الإنسان الغربي هو مؤهل أكثر من غيره لتقبل هذا الفكر و تمثله بالقوة ذاتها التي يتعامل بها مع الأفكار و الحقائق. لكن ثمة مشكلة تطرح نفسها بخصوص الطريقة السيئة التي يروج به للإسلام في الغرب. إن الإنسان الغربي الذي قصمت ظهره الحداثة بعنفها اليومي وقمعها اللانهائي,ليس مستعدا للخروج من قمع الحداثة إلى بؤس المحتوى الروحي و العقلي الذي يطرح به الإسلام اليوم في المجتمعات الغربية.الإنسان الغربي اليوم حينما يسلم،يستقيل من الحداثة ومن عقلانيته،ويصبح مشروع أعرابي نكوصي.صورة عن ذلك الطبيب الذي ارتد إلى عطار مسكون بذهان البحث عن الحبة السوداء، لمجرد أن يسلم على يد داعية حروري.
الإسلام الذي يروج له الغرب، هو إسلام خطباء..مشروع إنقاذ فردي و ليس مشروع إنقاذ حضاري.. يطرح الإسلام بقليل من الذكاء و كثير من الغباء. هذا واقع ينبغي الاعتراف به وإلا لن نفلح أبدا. حينما نتفوق روحيا على الغرب وعقليا أيضا يمكننا حينئذ المساهمة في تحرير النوع من آثار هذا القمع الذي يفرزه المجتمع الصناعي. و أقول روحيا و نفسيا، قناعة مني بأن الإنسان الغربي أكثر جدية في تعامله مع قناعته. نريد أن ننقل الطمأنينة للغربيين، لكن أي طمأنينة نشعر بها نحن؟ ! إننا لم نحقق تفوقا روحيا يجعل الغربي يثق في بديلنا الروحي..لم نطر على بساط الريح و لم نقض على أمراضنا. إذا كان المسلمون حتى اليوم لا يؤمنون بالاعتراف، وبالتالي وداخل هذا الاجتماع المغلق و العوائد السيئة، يشكلون المناخ المناسب لتنامي الأمراض النفسية، من نفاق وكذب ودجل..فإن الغرب قطع مشوارا كبيرا في التحليل النفسي، في وقت قل أن تجد كرسيا حقيقيا لهذا الاختصاص في جامعاتنا العربية. في الغرب لغة التحليل النفسي هي لغة الشارع اليومية.يتحدث فرويد عن علم النفس المرضي للحياة اليومية! هناك إذن مراقبة دقيقة للسلوك.وهناك بحث علمي متواصل، موضوعه النفس البشرية و أمراضها..كيف يتسنى لنا إذن الإقتناع بإمكان خروج داعية من رحم هذا الاجتماع العربي المريض، يرى نفسه قادرا على انتشال الإنسان الغربي من ضياعه و أمراضه. متى كان المريض مداويا ؟! ! هذا ما أعنيه من قولي، أن الإنسان الغربي هو أكثر نضجا من الناحية السيكولوجية و الاجتماعية،كما يتيح له النظام السياسي والتربوي الحديث،وما يتمتع به من حقوق وحريات . إذا كان الكذب و المرض موضوعان للتحليل النفسي في الغرب، فإنهما في عرفنا هما شئ فظيع فقط متى ما ظهرا للعيان، فإن تمكن المريض من إخفائهما و التهرب من الرقابة، فليس ثمة مشكلة. لا وجود للاعتراف ! وهنا ليس غريبا أن يلجأ وزيرا فرنسيا إلى الانتحار مثلا حينما تكشف الصحافة عن تورطه في اختلاسات مالية..لكن هل امتلك مسؤول عربي أن ينتحر قبل أن يستعرض علينا وقاحته بكونه ليس وحده المتورط في الاختلاس. في تصوري و قناعتي، الإسلام بريء من هذه المواقف.لأنه حينما تحدث عن النفاق و المنافقين،قال : "في قلوبهم مرض" ! الإسلام اليوم أصبح صنعة بين يد دعاة يملكون فقط صناعة القول و الثرثرة. لكن هل تحول الفكر الإسلامي عندنا إلى صناعة متخصصة. إن الإسلام تظهر روائعه من خلال نضج الذين ينطقون عنه.وهناك أزمة في ذلك..ألم يقل علي ابن أبي طالب : "الله الله في القرآن، فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم" ! إذن،لنجرب ونقم بعملية إحصاء مقارن بين عدد القيم الإسلامية المطبقة في المجتمع الغربي و التي تطبق في بلاد المسلمين..حتمًا لن يبقى لنا من ذلك سوى الثرثرة باسم الإسلام ! إذن، الفكر الإسلامي يمكن أن يشكل أساسا لحركة إنقاذ و إصلاح عالمي.لكن المهمة الأولى،أن نعيد النظر فيما نملك ، وبأن ننصلح نحن به لنكون نحن النموذج ونحن القدوة . إننا لم نخلق بديلا مدهشا من شأنه أن يجعلنا قدوة الأمم. لنشتغل على الفكر الإسلامي و لندخل في جهاد المعرفة و لتبدأ إذن حركة التأويل، بإيقاع أرفع ومنظور أشمل.هذه هي المفارقة؛ثمة إنسان غربي له مؤهلات عقلية لاستيعاب الفكر الإسلامي حينما يقدم له بصورته المعتبرة وبعده الحضاري، لكنه إنسان يعيش تحت ضغط ثقافة إنسان ذو بعد واحد..ولدينا بالمقابل،إسلام لازال منطقة عذراء، ولا تزال تحيط به رواسب ثقافية تنتمي إلى مجال أنهكه التخلف.ربما هذا القدر من الحديث عن الفكر الإسلامي لا يبدو مقنعا للأكثرية الغربية،و ليس فيه ما يضاف إلى ما يتردد يوميا من أن الإسلام هو البديل للغرب كما يقول السفير الألماني "هوفمان".ولكن ما هي تفاصيل هذا البديل،ما هو المنهج الذي يمكٌننا حقيقة من القبض على مناطات الفكر الإسلامي.هذا كلام يطول.و المقام لا يتسع لمزيد من الإطناب. إنما المهم الآن،أن نؤكد على تجديد النظر في الفكر الإسلامي،وهذه مهام تضاعف من مسؤولية المسلمين.فلنحرر إذن الإسلام من هذه الفوضى،و لنجعله صنعة متخصصة.حينئذ فقط يمكننا الحديث عن موقعية مناسبة للإسلام في حركة التغيير العالمي،و بالتالي،يصح أن يكون عنصرا أساسيا في مواجهة مخاطر العولمة ،وحينئذ فقط،يصح كلام كبلان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.