حقيقة لم يستغرب أحد موقف القدافي الذي عرف عبر العالم بعنترياته الفارغة, واسكيتشاته التي لاتضحك أحدا, ولم يستغرب أحد الخطبة المخجلة التي ارتكبها إبنه سيف الإسلام الذي قال عنه السنوسي (الفنان المغربي وليس الملك الليبي الذي انقلب عليه القذافي ذات 69) إن أباه أسماه بهذا الإسم لكي يقطع به رؤوس الشعب, وهذا الاسكيتش القديم أثبت اليوم أن للفن الساخر قدرة خرافية على التنبؤ بالأشياء وانتظار وقوعها قبل الوقوع بتاريخ طويل. ونحن نتابع مايقع في ليبيا هذه الأيام, نستغل الفرصة لكي نوجه لوزيرنا في الخارجية الطيب الفاسي الفهري تحية خاصة من نوعها, هو الذي وقف شخصيا وراء تحريك النيابة العامة في المغرب لشكاية غريبة سوريالية من طرف العقيد القذافي ضدنا وضد جريدتين إخريين, من أجل إجبارنا على احترام فخامة سعادته ولو خارج حدود القطر الليبي الشقيق. نتذكر الآن ونحن نرى نظام القذافي يحتضر تلك المحاكمة الغريبة, وأتذكر أساسا محامي القذافي وهو يسألنا "لماذا تتطاولون على فخامة العقيد؟" مثلما أتذكر الآن بغير قليل من الحنين الوكيل العام للملك وهو يقول لنا "اكتبوا عن كل المواضيع ولكن ابتعدوا عن العقيد". اليوم نسأل أنفسنا بعد أن طاف الزمن بالعقيد طوافه المعبر هذا يحق لنا أن نطرح السؤال بخصوص قضيتنا مع معمر: نحن حوكمنا بسبب كلمة واحدة هي كلمة مضحك التي كتبناها عن العقيد, اليوم وفخامته يسمع "من المنقي خيارو" تراه ما الذي سيفعله؟ هل سيرفع دعوى ضد الشعب الليبي الذي يصفه في الشعارات بأنه طاغية؟ هل سيعدم كل الليبيين؟ وهل سيمر بعدها لكل العرب الذين يقولون اليوم "الله إن هذا منكر" بخصوص تقتيل القذافي لشعبه؟ وهل سيحاكم كل الأجانب الآخرين الذين يفغرون فاهم دهشة من جنون الديكتاتور وقدرته على تحدي الكل فقط من أجل إدامة أجل ديكتاتوريته؟ أعتقد أن لتونس دينا في أعناقنا جميعا علينا في يوم من الأيام أن نتذكره لكي نشكر الخضراء عليه. هذه الروح التي هبت من كل مكان في العالم العربي, وهذه الحياة التي تأكدنا أنها لازالت على الكوكب المسمى عالمنا صنعتها كلها تونس, وأهتنا من خلالها البرهان على أن الشعوب لا يمكن أن تموت كلها دفعة واحدة, قد يموت منها جزء كبير, لكن يكفي أن تسري بقية من حياة في باقي الجزء الصغير لكي تعود متى تطلب الأمر ذلك إلى اعتناق العيش من أوسع أبوابه. ذلك المشهد الوقح الذي رأيناه يوم الأحد لسيف الإسلام القذافي وهو يتوعد الليبيين بأن يكون موتاهم بمئات الآلاف, كان مشهدا للذكرى حقا. كان شيئا سيصعب علينا جميعا نحن الذين نعيش اللحظة التاريخية الراهنة أن ننساه أو نمحوه من ذاكرتنا. هو المشهد الذي يقول لنا إنه بإمكان إن الحاكم العربي أن يأتي إلى التلفزيون لكي يهدد شعبا بأكمله فقط لأن هذا الشعب تجرأ وطالب الحاكم إياه بعد أربعين سنة ويزيد من الظلم والقهر أن يرحل. لم يطالب الليبيون القذافي بتسليم نفسه للمحاكمة, ويعلم الله أنه فعل الكثير مما يستحق ذلك, ولم ينصب الليبيون المشانق للرجل في الساحات الكبرى لبلدهم, ويعلم الله مجددا أنهم لو فعلوها سيكونون معذورين. كل ماطلبه الناس هناك من معمر هو أن يغرب عن ناظرهم, أن يخفي سحنته الغريبة التي تذكرنا بأن على النساء خلال فترة الحمل أن يبتعدن عن مشاهدة بعض الأشكال لئلا يلدن شبيها له. قالوا له فقط " سر على خطى زين تونس وحسني مصر, ضرك كمارتك بالدارجة تاعرابت. فقط لاغير". لكن الديكتاتور, ولأنه ديكتاتور أصلي, وليس مزورا, بل نسخة حقيقية من الاستبداد مثلما تقترفه أمة العربان يصر على أن يبقي لشعب ليبيا التذكار الأخير منه: أنهرا من الدماء, أكواما من الجثث, أطنانا من العبارات المخجلة التي يطلقها دون أن يفكر فيها, وأخيرا وليس آخرا, إبنا بارا بأبيه, عاقا بشعبه, يتوعد الناس عبر التلفزيون أن أبناءهم لن يروا مدارس أو مستشفيات إذاما انقلبوا يوما على والده العقيد. أعتقد أن الصلاة قد قيلت مثلما يردد الفرنسيون, وأنه لم يعد يلزمنا إلا أن نقرأ الفاتحة على أرواح هؤلاء الظلمة مثلما نقول نحن, فقد ثبت شرعيا وعلميا وعمليا وبكل الوسائل الممكنة والأخرى المستحيلة أنهم لم يعودوا صالحين لنا على الإطلاق.