كان اليوم يوما حزينا، بل هو أكثر الأيام حزنا في تاريخ جماعة "العدل والإحسان". مات الشيخ، المربي والقائد، توفي عبد السلام ياسين، مرشد الجماعة. يومها كان أعضاء الجماعة، يشيعون جثمان مؤسس أكبر تنظيم معارض للدولة إلى مثواه الأخير، وسؤال خلافته يؤرق رجال السياسة والإعلام ومريديه أكثر من قيادات الجماعة، والماسكين بخيوط تركيبتها التنظيمية. أكثر من أي وقت مضى، عاد سؤال خلافة الشيخ على رأس الجماعة، من يا ترى سيخلف الفقيد عبد السلام ياسين؟ وهل يمكن أن تؤثر وفاته على مواقف الجماعة على المستوى السياسي ومقاطعتها للمؤسسات الدستورية؟ تناسلت الأسئلة قبل أن يأتي الجواب المنتظر، بقرار مجلس الشورى، غير المعروف أصلا عدد أعضائه وهوياتهم، عن "اختيار" العبادي خليفة لعبد السلام ياسين، وإن كانت خلافة ياسين على رأس الجماعة أصعب مهمة بأي قيادي بارز في صفوفها، لهذا سمي القائد الجديد لسفينة "العدل"، بالأمين العام للجماعة وليس المرشد العام. توافق الأجيال والتيارات
انتقل، إذن المرشد العام إلى دار البقاء، عاش محمد العبادي أمينا عاما للجماعة. نهاية حتمية لمسار طبيعي انطلق مع تغيير بنود وفصول في المنهاج النبوي، لم يعلم بها إلا الراسخون في "العدل والإحسان"، وانتهى حتى قبل وفاة الراحل عبد السلام ياسين. كان واضحا أن العبادي سيخلف عبد السلام ياسين على رأس "العدل والإحسان"، بكونه أحد رجالات التربية داخل الجماعة إذ أنيطت به مسؤولية الإشراف على لجنة التربية في الجماعة، ومن بين المؤسسين الأوائل للجماعة والذين رافقوا عبد السلام ياسين، بالإضافة إلى الراحلين أحمد الملاخ والعلوي السليماني، وأيضا لأن الجماعة تتمتع بقوة تنظيمية كبيرة في الجهة الشرقية التي ينتمي إليها محمد العبادي. إشارات كثيرة بعثت بها الجماعة حتى قبل وفاة ياسين بسنوات قليلة، لعل أبرزها تكليفه بمهام قد تبدو ظاهريا عادية، ولكنها حملت حينها إشارات بكون "الخليفة" المنتظر لمرشد الجماعة الراحل لن يكون إلا محمد العبادي. لهذا تم تهيئ العبادي قبل التاريخ الموعود لخلافة ياسين بسنوات عديدة ضمانا للاستمرارية وسيادة لمنطق التوافق، خصوصا أن دور الراحل عبد السلام ياسين ظل رمزيا خلال السنوات القليلة الماضية قبل وفاته، وحالته الصحية لم تكن تؤهله للوقوف على تدبير شؤون الجماعة.
رغم ذلك، فأمام العبادي مهام جسيمة داخل الجماعة، فمن جهة عليه أن يواكب العمل التربوي الذي قامت عليه الجماعة منذ تأسيسها ويشكل لها صمام أمان كبير من "مضايقات" الدولة لأنه يحصنها بنسبة كبيرة من الاختراقات، ومن جهة ثانية ضمان توافق الأجيال والجهات والحفاظ على وحدة الجماعة وتجديد خطها السياسي أيضا، الذي أصبح مطلبا للعديد من شبابها القادمين من القطاع الطلابي. وما تعيين فتح الله أرسلان، رجل التنظيم والسياسة والناطق الرسمي باسم الجماعة، نائبا للأمين العام الجديد، إلا تجسيدا لهذا التوافق، الذي هو أولا توافق بين الجهات (ثنائية الهامش والمركز) وتوافق الأجيال، وتوافق للتيارات الثلاثة التي تخترقها، تيار عائلة الشيخ والمؤسس ممثلا في ابنته نادية ياسين وزوجها عبد الله الشيباني ومنير الركراكي والرافض لكل تقارب مع الدولة والدخول في لعبة المؤسسات، وتيار الشباب الذي عاشوا تجربة النضال داخل أسوار الجامعة المغربية ولم يعيشوا تجربة الاعتقال والتأسيس مع المؤسسين الأوائل ويظهر نشاط أعضائه بقوة داخل الدائرة السياسية للجماعة التي أسست لاحتواء مطالب شباب الجماعة، بالإضافة إلى التيار التربوي الذي يمسك بخيوطه محمد العبادي.
التوافق وتجديد الخط السياسي
هذا التناقض بين الأجيال، بدا جليا مثلا، خلال الرسالة، التي وجهها عبد الله الشيباني إلى عبد الإله ابن كيران، رئيس الحكومة، التي كانت تحمل بين كلماتها رسائل عديدة موجهة إلى داخل الجماعة، ومعناها بصريح العبارة، أن نجلة الشيخ ياسين التي كان يتحدث عبد الله الشيباني بلسانها، عندما تحس بأي تقارب بين الجناح السياسي للجماعة والدولة، فإنها كانت ترى فيه ما يشبه "انقلابا" على أبيها.
اختيار الجماعة لمنطق التوافق بين مكوناتها وقياداتها البارزة، يجعل من السهل القول، إنها تعيش ما يشبه مرحلة انتقالية يسودها نوع من الضبابية على مستوى الخط السياسي، وسيكون فيها الجدل الفكري واسعا حول تفسير وإعادة قراءة كتابات وأدبيات مؤسسها عبد السلام ياسين، وأمام هذا الوضع فإن ظهور توجه إصلاحي داخل الجماعة فيما بعد، راغب في الدخول إلى المؤسسات يبقى أمرا واردا جدا، خصوصا إذا وجد مصوغات كافية من تراث الجماعة، قادرة على إقناع أعضائها بحتمية طرحه، وبالتالي الخروج من منطق الجماعة الإسلامية المعتمدة على القوة المضادة التي تعيد إنتاج سلوك الدولة، والتي من طبيعتها التوفر على جهاز لتجميع المعطيات حول المعارضين وحتى غير المعارضين. وهنا لا يجب أن ننسى تصريح منسوب إلى فتح الله أرسلان، الناطق الرسمي باسم الجماعة قبل أكثر من عشر سنوات قال فيه بأن "إمارة المؤمنين مسألة فقهية ينبغي أن يتصدى لها العلماء وليس أي كان"، كما لا يجب أن نغفل مضامين أحد أهم الوثائق الصادرة عن الدائرة السياسية لجماعة "العدل والإحسان" وهي نداء "جميعا من أجل الخلاص"، التي قدمت جردا لمختلف المشاكل التي تتخبط فيها البلاد على جميع المستويات، لكن أهم القراءات التي قدمها المتتبعون ، لمضامين هاته الوثيقة حين صدورها ، كون الجماعة أصبحت تتحدث من داخل النظام السياسي وليس من خارجه، لدرجة يخال فيها المرء أن الجماعة هي تنظيم سياسي إصلاحي وليست تنظيما معارضا للدولة.