المتتبع لمسار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال العشرية الأخيرة لا بد أن تستوقفه هذه المفارقة، وهي أن الحزب بقدر ما أخذ يحقق تقدما على مستوى احترام "آليات الديمقراطية" في تدبير شؤونه الداخلية، وعلى وجه التحديد في إفراز نخبته القيادية، بقدر ما تعمقت أزمته التنظيمية والسياسية، بكل ما كان لها من تأثير على مستوى حضوره في ساحة التنافس السياسي، وعلى مستوى الصورة التي يمثلها لدى الرأي العام، وخاصة الفئات التي ظلت تسانده وتدلي بأصواتها لفائدته زمن المعارضة... فإذا كان هذا الحزب، شأنه في ذلك شأن معظم الأحزاب المغربية إن لم نقل كلها، قد ظل لسنوات طوال يعاني من اختلالات بينة على مستوى تدبير شؤونه الداخلية، فإن السنوات العشر الأخيرة وإن كان يصعب القول معها إن "الديمقراطية الداخلية" قد أضحت هي المحددة في صناعة القرار الحزبي، فمع ذلك سيكون من باب الجحود تجاهل أن الحزب قد حقق على هذا المستوى بعض التقدم، يمكن حصره في نقطتين أساسيتين:
أولا، من ناحية انتظامية أجندة انعقاد مؤتمراته، حيث تمكن في ظرف 12 سنة من أن يعقد أربعة مؤتمرات وطنية (ما بين 2001 2012)، في وقت لم يتمكن فيه خلال نفس المدة الزمنية (ما بين 1989 2001) من عقد أكثر من مؤتمرين، بالرغم من أن ما شهدته تلك الفترة من أحداث ووقائع سياسية، إن على الصعيد الوطني أو الدولي (انهيار المعسكر الاشتراكي بتداعيات المختلفة على الأحزاب الاشتراكية، وتنظيم استفتاءين دستوريين، واستشارتين انتخابيتين، بل ومشاركة الحزب في الحكومة لأول مرة في تاريخه)، كان يفترض أن يكون للقاعدة الحزبية رأي فيها. وثانيا، من ناحية طبيعة المنافسة التي جرت حول من سيقود سفينة الحزب، حيث أضحى يتبارى على هذا المنصب أكثر من مرشح، في وقت ظل فيه هذا الحزب حتى وقت قريب يعتقد بأهمية المرشح الوحيد والأرضية السياسية الوحيدة، ويعتبر التيارات السياسية داخله "كفرا". بيد أن التحول الذي تحقق في هذا المجال لم يمنع من أن يصبح الحزب فريسة لأزمة سياسية وتنظيمية حادة، كانت تجلياتها ظاهرة للعيان على أكثر من صعيد: أولا، من حيث حضوره ووزنه السياسي، يبدو الحزب اليوم وقد فقد الكثير من بريقه ولمعانه في ساحة الفعل السياسي، وأضحت صورته لدى الرأي العام مصابة بالكثير من الندوب، بعد ما ظل لسنوات طوال "شمعة مضيئة" في سماء السياسة المغربية، وملجأ للمظلومين، وحاضنا لتطلعات وآمال شرائح واسعة من المغاربة... ثانيا، من حيث عدد منخرطيه وطبيعة البنية السوسيولوجية لمناضليه وقادته، أصيب الحزب بنزيف حاد من جراء العدد الكبير من مناضليه وأطره الذين هجروه، البعض منهم شد الرحال نحو آفاق تنظيمية وسياسية أخرى فيما، اختار البعض الآخر تجميد نشاطه السياسي والحزبي، بكل ما كان له من مضاعفات على المستويات التالية: على مستوى عدد أعضاء الحزب، الذي أخذ يتقلص بشكل كبير إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الإحصاء العام لمناضلي الحزب الذي جرى إبان مؤتمره السادس لسنة 2001 كان قد سجل توفر الحزب على 53 ألف عضوا في وقت لم يتجاوز فيه عدد البطائق التي تم طبعها بمناسبة المؤتمر الأخير 30 ألف بطاقة، علما أن الحزب كان قد انتهج خلال هذه الفترة "سياسية الأبواب المفتوحة" في محاولة منه لتعويض من غادروه، كما أن الشروط المطلوبة في حمل بطاقة العضوية في الحزب أضحت جد مرنة حتى لا نقول منعدمة... على مستوى التركيبة الاجتماعية لهؤلاء الأعضاء، خاصة من ناحية تراجع المناضلين في مقابل هيمنة ما يمكن تسميته ب"المنتمين"، وهم الوافدون الجدد على الحزب ليس من باب اقتناعهم بخياراته وتصوراته وإنما بحكم ارتباطاتهم ببعض الأعيان الذين وجدوا أخيرا طريقهم نحو الحزب بل ونحو قيادته. على مستوى قطاعاته ومنظماته الموازية، وخاصة الشبابية والنقابية منها، حيث أضحت هذه المنظمات اليوم قاب قوسين أو أدنى من الاحتضار... ثالثا، من حيث نفوذه وامتداداته الانتخابية، التي انحصرت كثيرا ليس فقط من الناحية العددية (تقلص عدد ناخبيه ما بين الانتخابات التشريعية لسنة 2002 والانتخابات التشريعية لسنة 2011 بما يزيد عن 500 ألف صوتا)، وإنما أيضا من ناحية خريطة انتشاراته، حيث فقد الكثير من المناطق التي كانت في وقت ما تشكل قلاعه الانتخابية، سيما في المجال الحضري، وأخذ ينزاح شيئا فشيئا لكي يتحول إلى "حزب قروي". ومن المفارقات أن تصبح المناطق السابقة للتمركز الانتخابي لهذا الحزب اليساري، هي نفسها القلاع الانتخابية الجديدة لحزب العدالة والتنمية المحافظ (القصر الكبير، تادلة، خنيفرة، وجدة، فاس، الرباط، البيضاء، المحمدية، القنيطرة، مراكش، أغادير...). وفي ظل هذه الأزمة، التي أضحى يقر بها الاتحاديون قبل غيرهم، كان يفترض أن يشكل انعقاد المؤتمر التاسع مناسبة لبعث رسالة واضحة وقوية من شأنها أن تحقق مصالحة الحزب مع قواعده والعديد من أطره ومناضليه الذين آثروا التواري إلى الخلف واختاروا نوعا من "التقاعد السياسي" إما لتقديرهم أن المسار السياسي الذي أخذ يسلكه الحزب انزاح كثيرا عن مبادئه واختياراته التي شكل التشبث بها في المراحل السابقة مصدر قوته ودليل حيويته وعنفوانه، وإما لشعورهم بأنهم أضحوا اليوم غرباء في حزب كانوا هم من صناع عصره الذهبي في ظل الهيمنة التي أضحت تمارسها فئات جديدة على الحزب، وكانت حتى وقت قريب تعتبر منبوذة. وفي نفس الوقت المصالحة مع عموم المغاربة من خلال السعي نحو إعادة ربط الحزب بجذوره الاجتماعية و"قواته الشعبية"... ولكن يبدو أن هذه المحطة التنظيمية الجديدة في حياة الحزب لم ترق إلى مستوى اللحظة التي تنعقد فيها، كما لم تكن في مستوى الرهانات المطروحة عليه، وشكلت، بالتالي، فرصة ضائعة جديدة. وهذه بعض الاعتبارات التي تؤكد مثل هذا الاستنتاج: أولا، التجاهل شبه التام الذي ووجه به النقاش السياسي خلال هذا المؤتمر، إذ بقدر ما لا يتردد الكثير من الاتحاديين، وفي مقدمتهم بعض الذين تنافسوا على القيادة، في القول إن أزمة الحزب ترتبط بدرجة أساسية بالضبابية التي أضحت تكتنف مشروعه السياسي وتشوش على خطه السياسي، حتى أضحى الحزب يكاد يكون بدون هوية سياسية، بقدر ما لم يدفع المؤتمر في الاتجاه الذي يجعل منه ورشا حقيقيا للتفكير في هذا المشروع وفي توضيح معالمه. بل قد لا يبالغ المرء عندما يقول إن الأيام الثلاثة التي انعقد خلالها المؤتمر قد اختزلت أساسا في قضايا تنظيمية، وبالضبط في "انتخاب الكاتب الأول". هناك اليوم نقاش حول مدى استقلالية الحزب في قراراته واختياراته، وحول المضمون الذي يعطيه لمفهوم المعارضة التي يتموقع فيها منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، وحول طبيعة التحالفات والاصطفافات السياسية الممكنة، كما أن هناك نقاش حول طبيعة التحولات التي يشهدها الساحة السياسية في مغرب اليوم، وبصفة خاصة هذه الاختراقات الكبيرة التي أخذت تحققها الاختيارات السياسية المحافظة.. وهي كلها قضايا كان يفترض أن تكون في أجندة جول أعمال مؤتمر الحزب، ولكنها ذابت في متاهات التنظيم والسباق المحموم نحو القيادة. ثانيا، طبيعة المتنافسين على قيادة الحزب، إذ لم ينجح الحزب، على العموم، في الدفع إلى ساحة التباري بوجوه جديدة يمكن للاتحاديين، وغير الاتحاديين، أن ينظروا إليها كحاملة لمشروع للتغيير السياسي يقدم أجوبة حول الأسئلة والرهانات الحقيقية المطروحة عليه في الوقت الحاضر. فقد كان محكوما على المؤتمرين أن يختاروا بين مرشحين ظلوا في قيادة الحزب لما يزيد عن إثنى عشر سنة، وتحملوا مناصب وزارية في الحكومات التي شارك فيها الحزب، كما ظلوا، على العموم، سجيني نفس الاختيارات السياسية التي يفترض أنها كانت سببا رئيسيا في المصير الذي آل إليه الحزب، وفي مقدمة ذلك التماهي الذي أضحى بين الحزب وبين الدولة. والذين تابعوا "المناظرة التلفزيونية" التي جمعت هؤلاء، وبصفة خاصة الهجوم الحاد الذي ووجهت به "حكومة الإسلاميين"، خرجوا بانطباع، حتى لا أقول شيئا آخر، مفاده أن المرشحين تصرفوا كما لو أنهم في سباق محموم لعرض خدماتهم وتقديم حسن النية حول استعدادهم لأن يكونوا في خانة "الحلف المقدس" الذي سيواجه "حكم الإسلاميين". صحيح أن واحدا من هؤلاء المرشحين الأربعة حديث العهد بقيادة الحزب ولم يسبق له أن تحمل منصبا حكوميا باسمه، إلا أن مشكلته هو أن العديد من الاتحاديين ظلوا ينظرون إليه ك"كائن لا سياسي"، بل إن الكثير منهم لم يكن يتردد في القول بأنه "دخيل على الحزب"، حتى ولو كانت المدة التي قضاها في صفوفه تكاد تتجاوز الثلاثين سنة. ثالثا، طبيعة الكاتب الأول الجديد للحزب والأسلوب الذي يتبعه في الممارسة السياسية. فالأمر يتعلق بشخص ليس فقط يرتبط اسمه بمعظم الخصومات التي حصلت في الحزب على مدى العشرين سنة الأخيرة وساهم بالنصيب الأوفر في دفع العديد من الأطر والمناضلين إلى مغادرة سفينة الاتحاد، ويحتفظ بعلاقات غير جيدة بالكثير مما تبقى من هذه الأطر والقيادات. وعلاوة على ذاك، فإن "العرض السياسي" الذي يدافع عنه، خاصة منذ أن أصبح "نصف وزير" بوساطة من بعض النافذين في حزب الأصالة والمعاصرة، سيجعله أكثر ارتباطا بهذا الأخير وباختياراته السياسية. وهذا ما يطرح أكثر من تساؤل حول مستقبل الحزب على عهد قائده الجديد. وهو السؤال الذي سيكون موضوع مقال لاحق.