اسطنبول مدينة محتالة، لصة لذيذة، لن تحتضنك و تضمك بقوة إلى عالمها المليء بالبهارات و ببخور الشرق و جنون الغرب بدون أن تنتشل جزءا من أعماقك. متى زرتها، لن تعود كما أنت تماما و لن تستطيع في الآن ذاته أن تكون شيئا آخر. سترسلك إلى موطنك الأصلي تترنح كسكير سقط فوق برميل خمر و يريد أن يغرق أكثر فأكثر. ستبدو لك عند أول وهلة مدينة محافظة و تقليدية. فأهلها لا يتحدثون مع الغرباء و إن كانوا يقدمون لهم فنجان الشاي التركي بأدب. كما أن أهلها يتسلون إلى حد الهوس بقراءة الكف و التنبؤ بمستقبلك من فنجان القهوة ، و يخافون من العين و الحسد فأضحت العين الزرقاء تجارة مربحة ، فستجدها تزين مداخل منازل أسطنبول، و في ردهات الفنادق، في المحلات، و في المطاعم، و في المقاهي، و في القلادات و الأساور، ستجدها بأشكال و أحجام مختلفة، و ستدرك بأنها رمز أسطنبول، و بأنها تباع لأهل أسطنبول أكثر من السياح أنفسهم. و لكن أسطنبول، خلف ثوب حشمتها و وقار ماضيها، ستقتلع جذورك من الأعماق كريح تمازح أوراق الخريف . و ستجعل قلبك ينتشي بسكرات الحب و يفكر في هذه الكلمة السحرية القادرة وحدها على أن تبعثك من جديد. فلماذا سمي الحب حبا؟ و لماذا به حرفين فقط؟ ألانه بالفعل قصير و لا يدوم طويلا؟ نعم، فالحب يتلاشى مع الزمن ككل الأشياء المادية وككل الثروات الباطنية التي تستنزف متى ساء الإنسان استخدامها أو بالغ في استخراجها. فكعود ثقاب متى اشتعل سينطفئ، و كورقة نقود متى قمت بصرفها ستنتهي إلى بضع قطع نقدية سرعان ما ستفقد قيمتها في جيب حقيبتك، و كرشة عطر سيزول عبيره، سينتهي الحب متى انطلق أثره في قلبك و أصابتك أعراضه. سيبدأ بإحساس ستحير في وصفه مهما حاولت، بين ابتسامة على شفتيك و وميض في عينك كلما زار طيف الحبيب خيالك و كثيرا ما سيزوره، و بين لوم و عتاب و شك و حيرة و قنوط و حزن و فرح و حمى خفيفة و لهفة و اشتياق للحبيب. ففي الحب، لا نريح و لا نستريح. و بين بئر الحب اللامادي و مادية المحبوب لن تهدأ أبدا، فكأن بين الحب و المحبوب فجوة تزداد اتساعا مع الوقت إلى أن ينفصل الحب عن المحبوب نهائيا. فكيف يمكن أن تفسر ردة فعلك اتجاه المحبوب؟ و هو بعيد تشتاق إليه، و هو قريب تشتاق إليه، و هو بين أحضانك تشتاق إليه، و مع تلاقي العيون تشتاق، و مع تباعدها تشتاق، و مع لمسة اليد تشتاق، و مع الخصام تشتاق و مع الود تشتاق. فإلى من تشتاق بالضبط ؟ ألحبيب أخر؟ و لماذا لا تهدأ في الحب؟. ستواصل قبل النوم و أثناءه و بعده نسج حكايات و تخيل أحاديث و تبادل الكلمات و الانفعالات و المرح مع من تحب، ستتخيل حوارات تدور بينك و بينه، حول ما كنت تريد أن تفصح عنه هذا الصباح و لم تقدر، حول ما كنت تأمل أن يقوم به و لم يفعل، و حول ما يمكن أن يفعله مجنونين مثلكما بحياتهما معا؟. و سيأتي الصباح، و لن يحدث شيء على الإطلاق، ستتصرف بوقار لص يحاول أن يخفي أثار جريمته، جريمة الحب و الخيال. و ستتصرف بنقيض ما كنت تخطط له. و ستستهزئ من هذين المجنونين التي كنت تتخيلهما، و ستتساءل لماذا نحن غارقين في التهذيب و الملل و الرتابة لحد الجمود و الكآبة. ثم، و بعد أن يستنزفك الحب سينتهي فجأة كما بدأ و سيرحل. ستعتقد بأنك أنت من أردت أن تنهيه بعد سلسلة من الخيبات و الهزمات المتتالية، و لكن في الحقيقة هو ينتهي لوحده كطاقة تحترق بعد الاستعمال. و لهذا، ربما إذا أردت أن يسكن الحب قلبك إلى الأبد عليك أن تستهلكه قليلا على أرض الواقع. فالحب يتغذى بالخيال كما يتغذى العقل بالتفكير و المنطق. فخير من يجيد الحديث عن الحب هو من لم يحب أصلا. و خير من يعطي نصائح في الحب و الغزل هو من لم يتعذب قلبه بداء العشق. لا أدري لماذا إسطنبول أصابتني بالدوار و جعلتني أفكر في الحب؟ ربما لأنها في الحب جريئة ، متفتحة و متسامحة. فهي أول مدينة مسلمة زرتها لا تكفر الحب، بل تشعر بأنها ترعاه و تتبناه. فهي مدينة لا تحاكم مراهقين بسبب قبلة بريئة و تنعتهما بقلة الأدب و الإباحية. و هي مدينة لا تتلصص و لا تتجسس على المحبين. ففي المترو، أو على ضفاف البوسفور، أو في شارع الاستقلال، أو في الأتوبيس، أو في قنطرة جالاتا، أو في ساحة تقسيم ستندهش بقبلات مسروقة ببساطة بين المحبين، بدون ذنب أو خجل أو خوف من فضيحة، و ستفكر بحنان في تشابك الأيادي بين الجنسين بثقة و قوة و كأنهما يمثلان فريقا واحدا متماسكا، و ستحن لتعبيرات المحبين الجسدية و أنت ترى الرجل يعبث في شعر أنثاه و المرأة تعبث بأزرار قميصه أو جيب سرواله و كأن عاطفتهما تشبه شلالا يحتاج إلى مجرى ليتدفق. و ستنعشك ضحكات المحبين الصادقة و اهتمامهما ببعضهما و تمازحهما مع بعضهما في الحدائق و الساحات و المراكز التجارية. و ستفهم كم هو جميل الحب كعاطفة عندما لا يتم تحريمه و تجريمه و تحقيره من المجتمع ! و كم هو جميل الحب عندما يتصرف المحبين بصدق و عفوية و بدون ابتذال ! و ستصرخ ببساطة كم هو جميل الحب في إسطنبول !