يقول ميلان كونديرا في أحد حواراته القليلة للغاية، أنه يود حقًا لو تُنشر الروايات دون اسم كاتبها. حينها فقط، سيتمكن القارئ من الحكم على النص دون أن يقع أسيرًا لاسم الكاتب وشهرته. لم يقل كونديرا هذا الكلام وقت عزلته أو في صمته الروائي الذي امتد أربعة عشر عامًا، وهي الفترة ما بين كتابته لروايته الجهل وعمله الأحدث «حفلة التفاهة»، بل قال ذلك في ثمانينيّات القرن الماضي، حيث كانت حمّى قراءة اثنين من أشهر أعماله «كائن لا تحتمل خفته» و«كتاب الضحك والنسيان» قد غزت العالم. كان الأمر يبدو وقتها كما لو أنه من العار ألّا تكون قد قرأت كلا العملين، أو أحدهما على الأقل. يبدو تأثر كونديرا بدراسته للموسيقى واضحًا، هو أيضًا ابن أستاذ أكاديمي في الموسيقى. ففي حوار شهير مع الروائي الأمريكي فيليب روث، يسأله روث عن معنى الرواية وأفق مساحة التجريب فيها، فيقول صاحب «المزحة»: «الرواية قطعة طويلة من النثر المُخلّق؛ والذي يعتمد على اللعب مع شخصيات متخيّلة. هذه هي الحدود التي أعرفها للرواية. وعند استخدامي تعبير «مُخلّق» أُفكر في رغبة الروائي في القبض على موضوعه والإحاطة به من كل الجهات وفي أقصى درجات الاكتمال الممكنة، وهكذا، فالقدرة التخليقيّة للرواية قادرة على تجميع العديد من الأشياء مثل: (مقال ساخر، حقيقة تاريخية، تحليق خيالي) وتحويلها جميعا إلى «وحدة كليّة» أو صهرها في قالب واحد، مثل «الأصوات الموسيقية» التي تتضافر لبناء مقطوعة موسيقية ما. وهكذا يتجلى أن وحدة الكتاب ليست بحاجة للحبكة كي تنطلق منها، فهناك «الموضوع»، أو الانشغال الذهني القوي الذي يستطيع منحها هذه الانطلاقة». يمكننا أن نرى هذه الرؤية لكونديرا بقوة في «كتاب الضحك والنسيان»، كما يمكن أن نراها أيضًا جلية في عمله الاستثنائي «الخلود». يبدو كونديرا وكأنه ممسوسٌ من قِبَل شيطان ما، أو حتى يأتيه إلهامٌ من أحد آلهة الأوليمب. كونديرا ذاته يقول شيئًا مشابهًا لهذا الهاجس الذي يباغتني في روايته المزحة: «كل ما ينتمي في هذه الأرض إلى الله، يمكن أن ينتمي إلى الشيطان؛ حتى حركات العشّاق في الحب». لكننا على وجه التحديد، يمكن أن نتلمّس تجربة ميلان كونديرا الأدبية التي امتدت لما يقرب من خمسين عامًا في ثلاث مراحل رئيسة. حيث تلوح لنا الثيمات التي تشترك فيها أعمال كل مرحلة في نسيج نصوصه بقوة وحيوية وذكاء. هناك الروايات الثلاث الكبرى، وهي في نظر كثيرٍ من النقاد، من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين: كتاب الضحك والنسيان، وكائن لا تحتمل خفته، والخلود. وفي الأعمال الثلاثة يمكننا أن نشعر بكونية الأفكار الممتدة في نسيج النص وعمقها الفلسفي، إلى جانب التنقل التجريبي على مستوى الزمن بالغوص في التاريخ والعودة منه بالتوازي مع نحولة الروابط بين الأحداث، خاصة في «الخلود»، إلى جانب الحضور اللافت لفلسفة العود الأبدي لنيتشه، والتي ترتكز عليها روايته المفعمة بالقوة «كائن لا تحتمل خفته». وقبل هذه المرحلة، لدينا ثلاث روايات تظهر فيها النكتة والحس الكوميدي بشكل بارز وهي: المزحة، والحياة في مكان آخر، وفالس الوداع؛ بالإضافة لمجموعته القصصية «غراميات مرحة». وفيها يُجسِّد كونديرا بوضوح حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية وعصر تشيكوسلوفاكيا الشيوعية. والتعامل مع الجنس كموضوع محرّم، محاولًا كسره عبر شخصياته المولعة بإغواء النساء. وهناك مرحلة الأعمال الصغيرة المكثّفة المقتضبة (النوفيلات) والتي ظهرت في: البطء، والهوية، والجهل؛ حيث يكشف كونديرا عن ميوله الفلسفية بقدر أكبر من ذي قبل، وهي المرحلة التي سبقت صمته الروائي الذي امتد لأربعة عشر عاما