تابع..........حتى وفاة أمي لم أسألها، لماذا فعلت فيّ ما فعلت؟ لم تجبني مباشرة، و لكنها كانت تلمّح إلى الحدث و تردد: -الجوع يا بنتي! قبح الله الجوع. عندما كبرت و خبرت الجوع أدركت أن أمي لم تبعني و لكنها أرادت حمايتي من قدر رافقني نصف عمري و لم أستطع الهروب منه. توقف الموكب أمام زريبة من السدرة وسطها نوالة وحيدة من القش و القصب. دفعتني خالتي أمامها و التفت إلى الوراء لأرى مراتع الطفولة و قفزي و لعبي مع صبايا الدوار و أمي التي تشبك يديها وراء ظهرها، حانية رأسها تدور حول نفسها و كأنها تبحث عن طريق لم تجدها. انحنيت لأنفذ إلى النوالة. لم أُفاجأ بما رأيت. فقد كانت شبه خالية مثل خيمتنا. حصير مهترئ و وسادة بالية تبرز منها أعواد القش التي حشرت بها. مُقراج أسود مثبت على علاّقة بثلاثة قضبان حديدية و ثلاث أحجار تشكل مناصب الكانون و لا شيء آخر. تلك دار العريس التي لا تتّسع لأكثر من شخصين وقوفا أو قعودا، و على النبي السلام. رميت الريحية من رجلي و سلخت عني الشقة و الإزار و اتجهت إلى الباب. صاحت خالتي: -آويلي انت فين غادية!؟ أجبت ببراءة: -نلعب مع الجريات!! ضربت فخذيها بيديها و صاحت: -يا ويلي، يا ويلي!! انت عروسة مولات الدار!! و جذبتني من يدي لتقعدني على الحصير و أشعلت قنديل الزيت. بدت النوالة موحشة و مُقبضة. أقعيت على الحصير البالي في حين جلست خالتي أمام الباب دافنة رأسها بين ركبتيها. خُيل إلي أنني أسمع شهقاتها. تلك آخر مرة أرى فيها خالتي وردية التي لم يعد يتحدث عنها أحد. تعبت من التفكير و تعب جسدي من أثر الجلسة الطويلة في خيمتنا. كل شيء كان أكبر و أعثى من عقلي، فلم أستطع الوصول إلى أي تفسير. لماذا أنا هنا و لماذا غادرت خيمتنا و لماذا و لماذا؟؟ تمددت على الحصير البالي مثنية ركبتي إلى صدري و رأسي على الوسادة القاسية و سافرت في نوم طويل و طويل!! عندما تغيّر زمن أمي و قدرها و كبرنا جميعا، كانت تتحدث عن الأيام، اللي ما تذكر لبشاعة ذكرياتها، و هي تحكي قصة زواجها، و نحن كبار نجلس في تلك الغرفة الطويلة التي كانت مأوانا جميعا، يضحك أبي بسخرية كعادته و يقول: -ما اعطايت فيها حتى فرانك! امها كانت باغية تفك منها. تجيبه أمي شامتة و هي تحاول منع طقم أسنانها من السقوط: -جيت عندك، كانت الفضة في الدويرية تضوي، غير النوالة وحدها، حتى القصعة ما كاينة! ثم تنظر إلينا جميعا بفخر: -شوف أنا ولت ليك الرجالة و العيالات. يجيب فس استهانة: -ما ولدت إلا انت و الحمارة!! و نغرق جميعا في رعود الضحكات العميرية المجلجلة. تواصل أمي الحديث عن الجراح القديمة متنهدة؛ "لما ولدت فاطنة الكبيرة ماكانو عندي بزازل باش نرضغها! تاخذها جدتكم إلى نساء الدوار لإرضاعها و تعيدها إلي ليلا. يطول الليل و تجوع و لا أملك لها شيئا. أبوكم كان خماسا على خاله، يبدأ يومه مع طلوع نجمة الفجر و لا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل و معه كسرات خبز أو جبانية كسكسو مخلفة عن عشاء الضيوف الذين تعجّ بهم الدار الكبيرة كل ليلة. عام كامل من تخماست، يبدأ بين الحرث إلى الدِّراس و بناء نوادر التبن و قطع أشواك الزرب لتغطيتها و حمايتها من الانجراف، مقابل خمس المحصول. أي محصول!؟ خاله يحسبها كما يريد و يقرر ما يريد و نظل كما نحن لا نملك قطعة خبز نكرد بها الجوع الذي كان قدرنا اليومي. اقترحت على أبيكم أن أشتغل في الدار الكبيرة مع النساء، لأتمكّن من الحصول على ما ناكل. فاطنة الكبيرة ما تزال رضيعة و بكاؤها لا يتوقف، فكان من المستحيل الاشتغال و هي في ظهري تبكي أثناء الليل و أهل الدار نيام أثناء النهار و الدار مليئة بعشرات النساء و الخماسين. عندما يعود أبوكم آخر الليل، أترك له فاطنة و أذهب للدار. الدار الكبيرة لا تنام. نساء الخماسين و بناتهم و الخدّامات يقمن بأشغال لا تنفذ إلا أثناء الليل، أهمها طحن الحبوب بالرحى و غربلة الطحين و مخض اللبن و استخراج السمن منه و تهييء العجين لخبزه ساعة الفجر و تحضير التريد و الحريرة و الحرشة و المسمن. كانت الأشغال توزع حسب الاختصاص. النساء ذوات العضلات القوية و الخبرة يقمن بالعمل على الرحى التي تدار برتابة و استمرار لا يتوقف مدى الليل و الطعانة تغني، اجهيد؛ غناء يتم بصوت منخفض له نهايات كقوافي الشعر، مؤلم و حزين، يكون رثاء لراحل عزيز أو حب مكلوم. سنّي لم يكن يساعدني على إدارة الرحى، و لذلك فقد بدأت بتعلم غربلة الطحين، الليل كله و أنا أحرك الغربال و أديره و وجهي مليء بغبار الدقيق لا تظهر منه تقاسيم. عندما يشدني الجوع، أضع كوب ماء بجانبي، أغافل زوجة خال أبيك المتسلطة التي لا ترحم أحدا، أرمي حفنة دقيق في فمي ثم أتبعها بجرعة ماء لكي أبتلعها دون أن أصاب بالاختناق. عندما تشع نجمة الفجر، أستعدّ للعودة إلى النوالة لكي يبدأ أبوكم نهاره الطويل و أتسلم منه فاطنة الرضيعة. أحيانا كانت، الكافرة، و هو الاسم الذي أطلقناه على زوجة خالك لقسوتها، ترحمني فتعطيني حلاّب لبن أو قطعة خبز و لإي أكثر الليالي أعود بيدي فارغتين إلا من الدقيق الذي أبتلعه و في الغالب يسبب لي مغصًا في معدتي. في الخلاء و أمام الدار، أرفع عيني إلى السماء و أهتف؛ يا مولانا خلينا غير نسبعو خبز ما بغينا غنى!! في النوالة، يكون أبوكم مغمضا عينيه و فاطنة على صدره تئن من الجوع. في تلك الأيام، أيام أمي المرة، أصبح للخبز عندها قداسة تفوق كل المقدسات. عندما تحمل زڭاوة الحطب المصنوعة من الدّوم، و تذهب إلى الخلاء الواسع وراء دارنا لجمع الحطب، تعود و تضعه على كيس من الخيش و تبدأ في تفحّص الأعواد بأصابعها ملتقطة الحبوب العالقة بها واحدة واحدة. عندما تسخر منها إحدى أخواتي قائلة: -جيبي الصنارة باش تصيدي الحوت!! تجيب أمي في جد و حزم، لما افتقدناه، سافرنا إليه من أرض لأرض. الويل لمن يدوس قطعة خبز أو حبوبا! ما تتخطّاو نعمة الله! اللي يفرط فيه يشتاقو! خلال عودتي إلى دارنا من المدن التي غرّبتني، كنت أمشي أنا و أمي في الطريق الرابطة بين الدوار و المدينة الصغيرة، و التي أصبحت معبدة، و نحن نتحدث عن هموم الزمن التي لم تخلف في و في أمي إلا مرارة ذكرياتها. تسير ببطء و عيناها مسمرتان على قارعة الطريق تبحث عن شيء ما. أسألها فتجيب: -لقد شبع الناس و نسوا القحط و المجاعة و أصبحوا يرمون نعمة الله في أي مكان. تلتقط عيناها قطعة اسفنج ملوثة ترابا، فتمدّ إليها أصابعها و تنفض عنها الغبار و تشد عليها قبضتها و تقول: -ندّيها لبوبي! تسمية كلب الفيرمة أطلقته على كل كلب ربّته و كأنها تريد أن تُبقي تاريخ سيدي مومن حيًّا لا يموت. بوبي له حصته اليومية من الأكل مثل أهل الدار. في الصباح تخلط له الدقيق باللبن الممخوض و تقول: -كول اوليدي! يعلّق أخي الصغير ساخرا: -ما كنا عارفين عندنا خونا كلب! تعلق أمي شامتة: -هو احسن من شي نكارين الخير و ما فيهم فايدة! و عندما يلعق الكلب الإناء الطيني المخصص له، تصيح فيه: -يالله سير احض الدار و الدجاج. يخرج بوبي منكسا رأسه مطيعا. لقد أصبح جزءا من الدار و أهلها. يعرف الدجاج واحدة واحدة و الويل لأي غريب يحاول تجاوز الباب. خاطت له فراشا من الخيش و حشته تبنا، تفرشه له كل ليلة خارج باب الدار ليحرسها. كلما علا نباحه، تقف أمي من فراشها و تتأهب لملاقاة العدو، كمت تفعل أيام سيدي مومن. بوبي لا ينبح من أجل النباح، فهو ينذر أهل الدار بأن هناك غريبا يقترب. آخر بوبي ربّته أمي، مبرقع اللون و ضخم الجثة، درّبته على حراسة العجين في القصعة و مطاردة الدجاج الذي يقترب منها. ذات صباح، رفض أن يأكل و بدأ يئنّ. في اليوم التالي ربطت الكارّو و أرغمت أخي الأصغر أن يأخذ بوبي إلى الطبيب البيطري، فثقافتها لم تُجْدها في مداواته. قال لها أخي محتجا و ساخرا: -جيبي ليه اسبوب من عند الفقيه! عندما عادت به في منتصف النهار، قالت في حزن: -قلْبو و ڭال ليا، الكلب كبر في العمر، ما بقا ما نعمل ليه. حزنت أمي و هي تراقبه يذبل و يشيخ. بعد أيام طلع عليه الصبح و هو جثة هامدة. حفرت له حفرة خلف الدار و دفنته. سألتها إحدى أخواتي ساخرة: -كيفاش ادفنيه بلا غسول و لا طلبة يقراو عليه؟ نظرت إليها في حزن و لم تجب. كان ذلك آخر بوبي ربّته أمي. فقد انشغلت بالأسفار بين البنات و الأولاد و لم يعد لها استقرار. لأحاديث أمي طقوس تشبه خشوع المتصوفين. تخفض رأسها المشدود بالقطيب الملون و تسدل أهذابها الطويلة و تزمّ شفتيها بطريقة توحي لي بها أن الذي حدث لها فوق ما يتحمله القلب و العقل و الروح. أهيا بويا امطولو الليل تجوع فيه القافلة و تجري الخيل أ هيا بويا اديني امعاك را الحركة جايا وراك تغنيها أمي بصوت خافت حزين كهمس في آخر الليل. تقول؛ بعد سنين، تعلمت أن أدير الرحى لطحن الحبوب و تعلمت أغاني اجهيد الحزينة التي تساير دوران الرحى و معها النصف الأعلى من الجسد الذي يدور في حركة رتيبة متواصلة لا تتوقف و لا تتغير، تشبه الندب البطيء لمخلوق وحيد على الأرض يمارس كل معاناة الجسد و الروح. أحيانا تتواجه امرأتان و تبدآن في تبادل اجهيد في عمق الليل و بصوت خفيض لا يكاد يسمعه أحد إلاّهن، ينتهي بالابتسام أو الدموع. مع تحيات المبدع عبدالله عدالي الزياني موعدنا الحلقة 11