كان أبي عاملا بسيطا في معمل للخشب، وكنا أسرة كثيرة العدد، فلم يكن راتبه يسمح بأن نقضي العطلة الصيفية بإحدى المدن الشاطئية كما يفعل جيراننا، وإنما كانت الوجهة دائما بيت حنا فاطنة بالبادية. ننتظر ليلا شاحنة عمي العائدة من سوق الخضر، نتكدس فيها كخرفان صغيرة... وتبدأ الرحلة إلى قرية أبي لقضاء ثلاثة أشهر كاملة لا تنقضي إلا بحلول دخول مدرسي جديد. غالبا ما كنا ننام وسط الطريق، ولا نفتح عيوننا إلا على صراخ حنا فاطنة صباحا وهي تلعن النائمين. ورغم أن هذه التحية الصباحية المتكررة لم تكن موجهة لنا مباشرة بل لزوجات أعمامي وأبنائهن، فإن أجسامنا الصغيرة كانت ترفض أن تبقى تحت الغطاء وقد تسللت الشمس من شقوق براكة حنا. نغادر مضاجعنا بوجوه مُعَمَّشَةٍ نغسلها في صهريج غير عابئين بما تحدثه مياه الصهريج من بهق وتشقق في خدودنا. لا أحد منا كان يهتم كذلك للندوب التي يخلفها سقوطنا المتكرر فتتورم ركبنا وجباهنا ومرافقنا وتَسْودُّ بعد ذلك. كنا تعرض أجسامنا الصغيرة لشمس الظهيرة حتى إذا ما عدنا إلى المدينة وسألنا معلمنا : أين قضيتم العطلة الصيفية؟ قلنا: البحر. - وبأية مدينة؟ - بدوّار حنا فاطنة! في الحقيقة لم يكن دوّارا، بل كان بيتا معزولا لوحده، بعيدا عن باقي الدواوير. هكذا أحبته حنا أن يكون بعيدا عن العيون المتطفلة والمتلصصة التي تبحث عن أخبار الناس وعوراتهم. لحنا فاطنة، صوت رجولي، وقلب لم تنل منه مصائب الزمن أو ربما هكذا خُيِّلَ لي. سألت أمي ذات يوم: - هل لحنا قلب؟ ضحكت، ثم نظرت إلى زاوية البراكة، فعرفت أن ذاك القابع في الزاوية هو قلب حنا المحروق. - الوليدة، شي كارُّو الله يعفو عليك. ترمي له بسيجارتين، وتكيل له كل أنواع الشتائم : - خود الله يْكُرْ ليك الكلب! وبمجرد أن يغيب بين الحقول، ترفع بصرها إلى السماء وتتمتم بكلمات، أخبرتني أمي فيما بعد أنها كانت تتمنى أن يسبقها إلى الموت كي لا تخلفه وراءها. قلب حنا المحروق كان رجلا طويلا عريض المنكبين، نهارا يدمن الصمت والكيف وسجائر كازا التي تحرص حنا على أن تعطيها له بالتقسيط حتى لا يدخنها جملة، وفي الليل يخرج من تحت الحصير نايه ويشرع في العزف، احتفالا بنا، نحن أبناء أخيه القادمين من المدينة، فنتحلق حوله مستمتعين بألحان نايه الحزين. .... هذا الصباح أتخطى الأشواك الجارحة التي نبتت فوق القبور، أبحث عن قبره فلا أجده ... هناك قبر وحيد لا شاهد عليه، قبر لجثة ضخمة، سألت حارس المقبرة الصغيرة عنه فقال لي: - هذا القبر لا أبناء له، لا أحد يقرأ عليه الفاتحة يوم الجمعة، ولا امرأة تنثر شعرها وتبكي بحرقة، ثمة فقط أصوات ناي حزين تنبعث منه كلما غابت شمس النهار.