نبرات خفيفة على باب المدير.تدخل فتاة تلفها مسحات من الجمال الهادئ.تتقدم بكل بطء و خجل.تسلم على مدير المؤسسة: - صباح الخير.- صباح الخير يا آنسة.رد عليها بابتسامة عريضة. تابعت كلامها دون أن تنتبه إليه: - أنا أستاذة اللغة العربية التي عينت بمؤسستكم و..قاطعها قائلا: - أهلا و سهلا.لقد كان موعدك بالأمس. . - أعرف. إنها فقط إجراءات السكن المتعبة وما تتطلبه من وقت. أومأ برأسه بالإيجاب مع الاحتفاظ بابتسامته العريضة.تفحص بعض الأوراق كانت أمامه دون تركيز و قال: - ستعجبك مؤسستنا ،لقد تعبت كثيرا لأجعل منها المؤسسة الأولى في الإقليم ...و تركته يسترسل في المدح و التنويه"بمؤسسته".. فسمحت لنفسها بملاحظة كل ما يحتويه المكتب من كؤوس رياضية و خرائط مختلفة و بيانات و ملفات.و صور .. . ...كأنه لا حظ فضولها،فباغتها بصوته الخشن نوعا ما و قال لها: - ما رأيك يا أستاذة؟ ارتبكت قليلا و هي التي لم تنتبه إلى مديحه.لكي تحافظ على صفاء اللقاء الأول ،ابتسمت و قالت : - أنا يشرفني أن أعمل بمؤسسة من هذا المستوى.و استطردت بعدما همت بالانسحاب:- هل يمكنني الحصول على جدول الحصص؟ تنحدر ليلى من عائلة متوسطة.ترددت كثيرا قبل ولوجها عالم التعليم.كانت تحلم بأن تكون من أصحاب القلم و البحث عن الخبر.لكن وجدت نفسها أمام عالم آخر قريب هو الآخر من الورقة و القلم لكن بشكل آخر.تهرب من عالم الأحاديث الصغيرة و المتكررة و تقول دائما:"إن الروتين يقتل الإنسان و يحوله إلى كتلة لحم وشحم دون عقل."لذا كانت دائمة الترحال و ضد كل ما يقيد حريتها.حتى أنها عملت المستحيل ليوافق والداها على خروجها من البيت و السكن لوحدها في مدينة أخرى. قالت لها أمها يوما: - بعد التخرج، سيساعدك أبوك على الحصول على عمل في أحدى الشركات الموجودة بالمدينة. - لا أحب العمل بالشركات.و ترددت و قالت :- لقد قدمت أوراقي لأجتاز مباراة في التعليم. تركت أمها المطبخ و جاءت إليها مسرعة: - التعليم؟ستجدين نفسك لوحدك تدرسين في الجبال..لا يمكن ..و عادت إلى المطبخ لا تلوي على شيء.. عملت أمها كل ما في وسعها لكي تجعلها تطرد فكرة العمل خارج حدود مدينتها.خاصة أنها لم تستطع أن تستميل الأب إليها، فبالنسبة إليه العمل في القطاع العام مهم لابنته كيفما كان.فقالت لها بصوت آمر: - طيب.إذا نجحت في المباراة،ستذهب معك ابنة خالتك للعيش معك.فهي مخلصة لي و ستؤنسك في غربتك. - لكن يا أمي، إن نادية لا تستطيع فراقك. و أنت بحاجة إليها أكثر مني. ردت الأم بقوة و ثقة أكبر: - هذا هو شرطي الوحيد."نادية كأخت ثانية لها.لقد تكفلت بها أمها بعد وفاة والديها في حادثة سير مروعة و هي ابنة الثانية عشرة من عمرها." قبلت ليلى شرط أمها.و كاد حلمها البعيد و الجميل أن يتحول إلى سراب،حلمها بأن تستمتع بحياة الاستقلال و الاعتماد على النفس.و ترى كيف تكون صيرورة الحياة بعيدا عن أعين الأهل و نصائحهم المتكررة ،لولا حدوث حدث جميل و مفاجئ قلب الموازين و أفرح الكل و أحزن شيئا ما والدتها."نادية وافقت على الزوج الذي تقدم إليها،وهو مستعد لكل المصاريف.و يرغب في أن تسافر معه في الشهر المقبل"تكلم الأب عندما تحلق الجميع حول مائدة العشاء. قالت ليلى و الفرحة تكاد تنط من عينيها: - متى حدث هذا؟ - منذ أسبوع.لم أشأ أن أخبر أحدا حتى أتأكد بنفسي..و بالأمس تكلمت مع نادية ووافقت عليه. - و أمي؟سؤال فيه نوع ما من التحدي و الخوف. - ما بها أمك.صاحبة الشأن وافقت. لم تشأ ليلى أن ترفع من حدة الصراع.انسحبت في هدوء آملة أن تتحقق رغبتها الدفينة. - ليلى،ليلى،صوت خارجي و مألوف لديها فاجأها و هي تتأهب لمغادرة المؤسسة.التفتت و صاحت: - من؟ فاطمة؟ وكان عناق حار ممزوج بالضحك و الدهشة. - ماذا تفعلين هنا ؟سألت فاطمة، ليلى ،و فرحة اللقاء تكسو محياها. - عينت أستاذة اللغة العربية. - جميل جدا.و أنا أيضا أعمل هنا.أدرس مادة الاجتماعيات. انبسطت ملامح ليلى لوجود فاطمة معها.اتجهتا نحو الباب الخارجي و هما منهمكتان في حديث تارة مسموع تتخلله همسات، و تارة ممزوج بإشارات باليد أو بالرأس.. اختارت ليلى اللغة العربية، بعد حب طويل ظهر فجأة لم يعلن عن ولادته.وجدت نفسها متجهة للروايات و القصص، تقرأ ما يختاره عقلها و روحها.ترى في وجوه الروائيين و الشعراء، نور يرقص القلب و يغذي الروح الجائعة و التائهة و يخلخل الفكر الخامل.تقول دائما"لولا هؤلاء المفكرين و الأدباء، لتحولت حياتنا إلى صحراء جرداء تبعث على الموت البطيء."خلال مرحلة تكوينها التعليمي، كانت الوحيدة التي طلبت أن يرسل إليها كتبا من الخارج في إطار التبادل بين المؤسستين.و تابعت جنونها الجميل غير آبهة بالعقول الصغيرة التي تحيط بها.رغم المناخ العام الذي كان يسود و يحيل كل نفس إلى جثة مسجاة على نعش يصلي حوله مجموعة من الغرباء. كانت لحظة اللقاء الغير المنتظرة، جاثمة بكل ثقلها الزمني على روحها و تفكيرها. - ليلى، هذا هو بيتي.أرجوك تفضلي. - لا يا فاطمة، الوقت متأخر.في وقت آخر. بعد مد و جزر، انتصرت طيبوبة فاطمة و كرمها..ففي سلوكها نوع من السذاجة و العفوية،تشبه أمهاتنا و جداتنا اللواتي يعطين كثيرا دون انتظار الرد.فهي تحضر لعملها في الوقت المحدد.تتحاشى التجمعات.تخرج لبيتها فور سماعها لدقات الجرس.لا ترغب من الدنيا سوى الهناء و الصحة كما تردد دائما. - ليلى، تفضلي.مرحبا بك في بيتك. - شكرا خطوات مرتجلة،ابتسامة خجولة،تقدمت ليلى للجلوس على أريكة و سط غرفة صغيرة.يتوسطها تلفاز متوسط الحجم،و مائدة مستديرة عليها غطاء مطرز.أثارت انتباهها بعض الصور المعلقة على الحائط."أكيد هذه الصور لأولادها و زوجها"همست لروحها.تابعت ليلى جولتها عبر أثاث البيت و جدرانه."لقد حققت حلمك القديم يا فاطمة." استيقظت على صوت فاطمة الآتي من المطبخ:- ليلى، يمكنك إشعال التلفاز.فأنا قادمة.بجانب التلفاز كانت هناك صورة كبيرة الحجم،تضم عروسين.اقتربت ليلى أكثر حتى تتأمل أحسن .فاجأها صوت فاطمة بكل حنان و فخر :- إنها حفلة زفافي..أحضرت صينية شاي و بعض الحلوى المنزلية.و جلست بجانب صديقتها و كلها فرح طفولي.:- أكيد أنها كانت ليلة رائعة. ابتسمت لكلام ليلى، كأنها كانت تنتظر من يفتح معها باب الذكريات و يعيد إليها تلك اللحظة الغابرة بين ثنايا الزمن.و أخّذت تحكي و تحكي...حتى دمعت عيناها و قالت في استحياء:- ياه،لقد كانت ليلة العمر. علت ملامح ليلى بعض الاستغراب و قالت:- العمر فيه ألف ليلة و ليلة يا فاطمة. أخذت زفيرا عميقا و جملت ملامح وجهها بابتسامة مترددة.و قالت كأنها تريد تغيير دفة الحوار:- سامحيني يا ليلى، لقد نسيت أدب الضيافة.هذه الحلوى من صنع يدي.لا أشتريها من الخارج.تفضلي. عم صمت عابر ثم استطردت ليلى قائلة كمن تريد أن تعيد البسمة إلى طفل حزين:- منذ طفولتك و أنت مغرمة بصنع الحلويات خاصة .ربما سأطلب منك أن تصنعي لي بعض الحلوى..و تعالت ضحكات متتالية و صغيرة ،طردت مسحة الحزن التي كانت عالقة بجدران الغرفة الصغيرة. جمع ليلى و فاطمة حي واحد.كان شاهدا على صداقتهما الحلوة المليئة بالأفكار الطفولية.المنفلتة رغما عن الأهل من الموانع و الأوامر.كانت أياما صافية خالية من الشوائب ،سجية كمياه البراري العذراء. و في يوم،جاء الحظر العلني في غفلة منهما.كانتا نائمتين بعدما تعبتا من الجري و النط، على أمل اللقاء بغد أجمل و مليء بالحركة. قالوا لليلى:- لقد كبرت و عيب اللعب طول النهار... - أنا ألعب مع صديقتي فاطمة.قالتها و كل حواسها تبكي معها. - حتى فاطمة كبرت. صممت على الرد بكل قوة و الخوف يستوطنها من يد تصفعها: - و أخي أحمد، أكبر مني و يمضي كل وقته في الخارج... احتلت الدموع مقلتيها،اختفت الابتسامة الطفولية.استعمرها الحزن المبكر و السؤال المبهم. صارت لقاءات ليلى و فاطمة قليلة حتى كادت أن تنعدم.و تحولت فاطمة إلى امرأة قبل الأوان.بالشحم الزائد و الجواهر البراقة. و الأوامر الموروثة التي طالما امتنعتا عن الامتثال إليها.حتى فاجأتها يوما بقولها: - لقد تعبت من الدراسة.أتمنى فقط أن أجد الزوج الذي يريحني من كل هذا الوجع. استغربت ليلى و قالت :- هذا كلام العصور الوسطى.كيف تفكرين بهذه الطريقة.؟ .و أعادتا شريط الذكريات البعيد، و كيف كانتا تتحايلان على الأوامر الغليظة و تسمحان لنفسيهما بالفرار من التعليمات، و التجول بين الخضرة و المياه المنسابة كالهمسات الرقيقة.و أكل السندوتشات ولعب الكرة. طرق مبرح على الباب".انه وقت عودة الأولاد من المدرسة".قالتها فاطمة و طارت تسابق دقات عقارب الساعة لتفتح الباب.قامت ليلى تودع صديقتها على أمل لقاء آخر، في تلك اللحظة، دخل الزوج وراء ولديه وفي عينيه استفهام كبير عن سبب هذه البلبلة الغير المعتادة.
خرجت ليلى من بيت صديقتها و هي عازمة على أن لا تكون نسخة متكررة من فاطمة.و في طريقها لم تتعب من طرح السؤال تلو السؤال.و أخذتها الذكريات بعيدا،يوم انتهت العطلة الصيفية،و تلحفت بالجلباب الذي كان سيحدد مسار حياتها ككل. "إن لم تلبس هذا الجلباب، سأحرمك من الدراسة"خاطبتها يوما أمها بقوة و غضب.استوطنت ساعتها روحها الصغيرة غضب كل المهمشين و المستضعفين كتمت غيضها لحظة.وقبل أن تتجاوز عتبة الباب قالت دون أن تلتفت:- أمي،الجلباب للنساء و ليس لبنات المدرسة.راحت تتعثر في خطواتها بعيون واجمة .كانت صديقتها فاطمة تنتظرها قرب باب المؤسسة.صاحت دون مقدمات:- ماأجملك بهذا الجلباب.رمتها ليلى بطرف واجم.و انعقد لسانها و ظهرت في صورة بئيسة.لم تنتبه فاطمة لتغير ملامحها و تابعت حديثها دون ملل ،و هي تعدل من غطاء رأسها و تزيح الجلباب عن اسورة الذهب و ساعة آخر موضة. انتفضت ليلى و قالت بحدة:- أنا أكره أن لا يكون لي رأي و أرغم على فعل شيء لا أحبه. - لكن الحشمة و قار يا ليلى.أجابت فاطمة بكل ثقة. و هل كنت سآتي للمدرسة بلباس غير لا ئق.قالتها و غيرت مكانها من جانب صديقتها التي أزعجتها بأفكارها التي تشبه أفكار أمها و أخيها و أبيها...أشاحت عن وجهها و انكمشت و تمنت في تلك اللحظة لو بقيت طفلة ثلاث سنوات، تلعب بكل حرية..تلطخ ملابسها تصرخ..تبكي..لا تعليمات ولا أعراف.. 6 كانت ليلة ساجية تدعو للسهر و الحديث الطويل.أراحت ليلى جسدها على كرسي يطل من شرفتها على شارع مليء بالسيارات و الأضواء.و على جنباته أشجار كثيرة تضفي ستارا من الخضرة على اللون الاسمنت .أعادت التفكير في هذا الصباح،و في كل ما لقيته و صادفته.كان لديها إحساس عميق بالصعوبات التي تنتظرها وسط عالم اعتاد الخمول و شرب كؤوس الشاي و الحديث عن الأشياء الصغيرة. اتجهت بعينيها صوب النجوم كأنها تنتظر منها ردا.ابتهجت روحها و تركت كرسيها جانبا و تمددت على فراشها الموجود وسط الغرفة.غرفتها تجمع الفوضى و النظام.بها مكتب صغير لا يخلو من الأوراق و أقلام الحبر..و بعض الكتب و الجرائد.ودولاب تضع فيه ملابسها التي تختارها بكل عناية و حسب رغبتها."من الغباء أن ألبس على ّذوق الموضة.."هكذا كانت تقول دائما.ظلت مستلقية مع حواراتها الداخلية،ضوء غرفتها مازال يضئ الفضاء.صوت من الخارج الغرفة:- ليلى ،لقد اقترب الصباح و أنت مازلت مستيقظة. "كان صوت أمها . في طريقها إلى مؤسستها،شعرت بوخز خفيف في قلبها و ارتفاع نبضاته بشكل مسموع.هي دائما هكذا عندما تكون مقبلة على مهمة للوهلة الأولى.تضطرب و ترتبك بشكل كبير.و تحاول جاهدة التحكم في أعصابها و في نفسها.كان اللقاء الأول مع تلاميذها و تلامذتها.و أثناء الاستراحة،تعرفت على باقي الزملاء و الزميلات عن طريق صديقتها فاطمة.مرت الأيام بطيئة مثل موسم صيف ساخن،سئمت خلاله ليلى،عملها و كل ما يحيط به.فهي تكره العمل المتكرر و المحاصر بالأحاديث الطويلة و الفارغة و القهقهات البليدة. حاولت تحصين نفسها من عدوى النوم الثقيل، خلقت لنفسها عالما خاصا بعيدا كل البعد عن أحاديث المقاهي و الجلسات الروتينية.اتصلت بمدير مؤسستها طالبة منه مساعدتها في خلق نادي سينمائي للتلاميذ.يكمل تكوينهم المعرفي.رحب السيد المدير بالفكرة ووجدها جذابة قال لها:- هل أنت من سيدير هذا النادي؟ أجابت بكل ثقة:- نعم.يكفي فقط تجهيز القاعة ببعض المعدات الضرورية للعرض. أشرفت على النادي مرة في الأسبوع و تحول إلى قبلة أسبوعية لعدد كبير من التلاميذ.و تخطت ليلى أولى عقبات الملل و الكلام المتكرر.لكنها ظلت محاصرة ببعضهم.ففاجأها أحد الزملاء عندما كانت تستعد لعرض شريط ذاك الأسبوع.قال لها ذ.أحمد:- - شيء جميل ما تقومين به.لكن مع هؤلاء المحيطين بنا، لا تستطيعين الاستمرار.لقد حاولت قبلك و لم أفلح معهم.. ارتبكت شيئا ما.لم تقدر على التركيز.ردت عليه بشيء من العنف: - من تقصد بهؤلاء؟لم أفهم. - أعني، إدارة المؤسسة و الزملاء و... - لحد الساعة وجدت كل المساعدة. و لكن يا أستاذة..اعتذرت له لأن وقت العرض قد حان و التلاميذ ينتظرون.و كانت أيضا فرصة تخلصت من ثرثرته الزائدة. استقبلت يوما آخر تمنت أن يحدث فيه شيئا ما حتى يتميز عن الأيام الأخرى.تكاسلت و قامت بصعوبة شديدة لأنها نامت متأخرة الليلة الماضية.ارتدت ملابسها، ماكياج خفيف، فطور خفيف أيضا. و اتجهت إلى المؤسسة.اعترضت طريقها سيارة أثارت غيظها و ما هي إلا لحظات حتى انبرى صوت ذكوري يناديها باسمها:- ليلي، ليلى..التفتت رغما عن كل الأعراف التي تمنع المرأة من النظر إلى الوراء بحجة أنه عيب وغير لائق. كان هو. زميل البارحة صاحب الثرثرة الزائدة .كأنه يتعقبها.قال لها بكل ثقة: - ليلى، اركبي.. ترددت .وركبت وكلها صراع داخلي".ماذا فعلت"؟أنا لا أفعل ما أخجل منه .منطقي أن أركب معه.فنحن نشتغل في نفس المؤسسة. "سيتكلم الآخرون".هم دائما يتكلمون.أنا أرٍفض أن أمشي على هواهم..و ظلت طيلة المسافة في حوار مسترسل .و لا تجيب زميلها سوى بالإشارة بنعم أو لا. تجاهلت تلك الأسئلة المشوشة على تفكيرها و سلوكها، تكلمت معه بشكل عادي أو حاولت اصطناع ذلك.تبادلا الإحساس بالملل و الموت البطيء اللذان يخيمان على المؤسسة. ما إن اقتحمت السيارة باب الإعدادية، حتى التفت حولهما كل العيون و حاصرتهما بنظرات تريد أن تفهم ما يجري.دكت ليلى المسافة التي تفصلها عن قسمها دكا و تمنت لو أن غيوما احتلت المكان و أردته إلى غابر الأزمان حتى لا تراها العيون المتلصصة عليها. سلقتها الألسن و قتلتها الإشاعة حتى اختنقت.في ذلك اليوم، دق جرس الباب، و كانت فاطمة، صديقة الطفولة و زميلتها في العمل.قالت لها بنوع من الفتور:- وأخيرا افتكرت أن لك صديقة. ابتسمت فاطمة كعادتها و قالت لها:_ اعذريني.البيت يأخذ كل وقتي.و حضوري اليوم هو فقط من أجلك أنت. انقبض وجه ليلى و أرادت معرفة المزيد:- ماذا هناك؟ اعتدلت فاطمة في جلستها و اعتلى وجهها حزم الأب الناصح:- ليلى، أنت صديقتي العزيزة و لا أتمنى لك إلا الخير.ارتفعت درجة توتر ليلى.و كرهت المقدمات .قالت لها بنوع من العنف: - ما وراءك؟ ما هي علا قتك بالأستاذ: أحمد.اغفري لي هذه الجرأة .أعرف أنها خصوصيات .لكن الكل يتكلم في المؤسسة عنكما . ضحكت ليلى حتى كادت أن تسقط من على كرسيها. ضحكت كأنها لم تضحك منذ زمن.امتلأت مقلتيها بالدموع.و أخذت أذرع الغرفة ذهابا و إيابا.ثم التفتت لفاطمة التي لم تحرك ساكنا و لم تدرك ما يحصل.و قالت لها: - كنت أعلم مسبقا بأن كلام المقاهي هو الذي يجمع يبنهم.لكن ليس بهذه السرعة القياسية. أصاب فاطمة نوع من الإحراج و الخجل.و مع ذلك أرادت أن تتم المهمة التي انتدبت من أجلها.قالت بكل ثقة : - اسمعي يا ليلى.ليست هناك صداقة بين رجل و امرأة.انتفضت ليلى بكل قوة و فتحت النافذة نافثة فيها كل غضبها.حتى تسترجع سكونها و و تمتلك أعصابها .استدارت بكل هدوء و قالت لها: - أين العيب يا صديقتي في أن أركب سيارة مع زميل لي.أين العيب في أن نتكلم و نتحدث بشكل تلقائي...لقد كرهت اسطوانة الشرف.و أنت تعرفين رأيي في هذا الباب. اتجهت ليلى من جديد صوب النافذة ،تحدق في اللاشيء.دماغها في نقطة الصفر.سافرت مع ضجيج السيارات و الأصوات البشرية المختلفة.تبحث عن استقرار لحظي وقوي يستوطنها و يحملها في غفلة عنهم جميعا إلى حيث السكون المنشود. انصرفت فاطمة بالسرعة التي أتت بها.تاركة صديقتها ثائرة لا تتكلم.كانت وسادتها هي الملجأ الوحيد لها.احتمت بها و تمنت أن لا تستيقظ أبدا. فجاء ذاك الصباح البعيد محملا كعادته بشمس ذهبية ومرحة، زلزل سكينة المدينة الصغيرة و أيقظ ساكنتها .و كانت ليلى مرحة بشكل غير عادي.أعدت الفطور و فتحت النوافذ حتى يكسر ضجيج الخارج صمت البيت.أحدثت بلبلة غريبة في البيت.قبل أن تنادي عليها أمها، قالت بصوت عال: - أمي، سأخرج الآن.لي موعد مع فاطمة لنراجع دروسنا. أتت الأم مسرعة، تخب في ثيابها و قالت لها بشيء من العنف: - خروجك المتكرر هذا لم يعد يعجبني.سأكلم أخوك بالهاتف و أخبره بكل شيء. شعرت ليلى بالضعف .رفضت البكاء.و ردت بصوت مغبون: - أنا لا أفعل ما أخجل منه.أنا أخرج فقط عند صديقتي و ..وقبل أن تتم جملتها قاطعتها والدتها: - أنا أعرف هذا.لكن ما قيل لي أزعجنني و جعلني أشك.. بكت كثيرا ليلى لرد أمها القاسي.و قبل أن تلتجئ لغرفتها للحماية بها.استطردت الأم قائلة: - لقد زارتني والدة فاطمة بالأمس.و فهمت من كلامها أنها لم تعد ترغب في صداقتك لابنتها.خوفا على صمعتها. - لم أفهم ما ذا تعني بكلامها هذا. - ستتزوج.و هي ترفض أن تظل ابنتها تتصرف كما كانت. اختلط كل شيء على ليلى.فضلت الانسحاب و الاختلاء بغرفتها.و ظل دماغها يغلي من كثرة الأسئلة التي لم تجد لها إجابة:كيف كنا نتصرف؟هل كان سلوك الخروج و اللعب ..عيب؟ ولجت ليلى فصلها و كان دماغها ما يزال مسكونا بصوت صديقتها فاطمة .ارتباك على كل تصرفاتها وتاهت عنها فصول الحصة التي كانت ستقوم بها.خطواتها مترددة و أفكارها متشتتة...جلست إلى مكتبها ..قامت و دفعت بجسمها خارج القسم متجهة صوب مكتب المدير.حصلت على إذن بالانصراف .و في طريقها إلى بيتها، هاجمتها الأسئلة التي لا تنتهي "لماذا تصرفت هكذا؟ماذا فعلت؟..هم دائما يتكلمون ..لماذا تأثرت بكلامهم..."و...سمعت تحية من بعيد مألوفة لديها، لم ترغب أن ترد عليها.استمرت ماشية حتى اقترب منها الصوت و فرض نفسه بإلحاح: - ليلى، ألم تسمعيني؟ - معذرة. - إلى أين أنت ذاهبة؟سألها بطريقته المعهودة،غير عابئ بانشغالها.ارتاحت لخاطر مر مرور الكرام أحدث ثورة صغيرة بداخلها،ينم عن تحدي خفي لكل الألسنة التي سلقتها في غفلة منها.التفتت إليه قالت بروح متحدية: - شعرت ببعض الملل و القلق هذا الصباح،وخرجت دون أن أعرف أين أذهب.. كانت فرصة "أحمد" الوحيدة التي طالما ترقبها.فمنذ وصول "ليلى" إلى المؤسسة و يحاول التقرب إليها بكل الوسائل. اقترح عليها الذهاب إلى المقهى . - أحسن مكان يرتاح فيه الإنسان هذا الصباح هو المقهى.فهو خالي من الزبائن و يفتح الشهية للكلام. ابتسمت وأعجبتها الفكرة التي ترضي كبريائها كامرأة.رغم كل ما تعرفه عنه و ما وصلها من أخبار من طرف صديقتها "فاطمة". تكلم بشكل مسترسل دون تحديد و بشكل عشوائي.و ظلت هي مرة مستمعة و أخرى تجيب بشكل مقتضب .لكن دواخلها ما تزال متأثرة بكلام "فاطمة" رغم محاولاتها المتعددة بعدم الاكتراث.بادرها قائلا: - هل تشربين شيئا آخر؟ و قررت أخيرا أن تسأله دون أن ترد على طلبه.: - ذ.أحمد،هل وصلك ما قيل عنا في المؤسسة؟ كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة إليه.فهو زير النساء كما يقولون و يحلو له أن يسمع هذا اللقب،لكن لم يتصور أن تصادفه جرأة مثل هذه.وضع كأسه جانبا و حاول التظاهر باللامبالاة.ضحك بشكل متعمد و قال لها: - يا ذة.ليلى،الناس دائما يتكلمون سواء فعلت أو لم تفعلين.الأفضل أن يكمل الإنسان سيره دون الالتفات إلى الوراء. - و لكن إذا كان الكلام يضايقك في حياتك ،هل تدير إليه ظهرك أم تواجهه؟كانت نبرة صوتها حادة و حزينة. صمت بعض الوقت و نظر إليها و قال بشكل جدي: - أنا لم أسمع ما يضايقني.ماذا سمعت أنت؟ فضلت عدم الإجابة لأنها شعرت من حديثه بأنه يتلاعب بالكلام ...قامت دون سابق إنذار وودعته بسرعة شديدة حتى أنها لم تترك له الفرصة لقول أي شيء.و طيلة مسافة الطريق التي تفصلها عن بيتها،و هي توبخ نفسها و تلوم سلوكها..لماذا قبلت دعوته؟أنا أعرفه جيدا،كان الأجدر أن أرفض...لكنها عادت بقوة محاولة الانتصار لأفكارها التي طالما دافعت عنها قائلة بصوت عال:"أنا لم أفعل شيئا غلط.فهم دائما يتكلمون و يبنون جبالا من اللاشيء." نام كل من في البيت و ظلت هي متوترة تسامر النجوم و أضواء الشارع.اختلطت عليها الأوراق.عادت لوسط غرفة الجلوس،أراحت جسدها على كرسي و تركت الغرفة مظلمة.سبحت بأفكارها في كل ما حدث.حاولت أن تحلل بمنطق العقل الذي تؤمن به.أدركها النوم و هي تتخبط وسط أسئلتها التي لا تنتهي.