عزيزي الشاعر محمد بوجبيري: لو أن خالتك زهرة أخذتك إلى هناك.. إلى حيث ترتفع الأصوات إلى السحاب متهدجة بالكلام المقدس وتعود محملة بهدايا السماء، لكنت صادقت الهداهد التي ربيتُ قبل أن يتفرق ريشها بين نساء أيلة الشهوانيات، ولاشتركنا سوية في وليمة الطين.. أقصد الطين الذي عجناه كي نمتحن هجنة السواقي وليل الأفران المرتفعة بدخان العيش.. لو كنت سافرت ذلك الصباح مع خالتك، لصعدت الجبال، ووخزت السحاب بإصبع طفولتك كي ينهمر المطر مدرارا على «أيلة».. هناك أيضا كنت ستسمع مواويل أمي وأذكارها الحزينة.. هل تعرف يا محمد أنني استخرجت عفريت أحمد بوكماخ من طينه المبلل في كتاب الابتدائي الثاني، واصطحبته إلى الطاحونة، وهناك كنت أخيف به بنات أعمامي؟.. شاخ بوكماخ ومات، وقرأت مرثيتك له ذات حنين جارف.. ومع ذلك فلا يزال العفريت يدير طاحونتنا، ويخيف حفيدات أعمامي، ويخطف كتبي ويرميها في الترعة.. ألا ما أجمله من عفريت لو نعود إلى زمنه يا صديقي! لو أن «حلوان» وفت بنذرها، واصطحبك «الإمغراني» إلى تاونات، لاستيقظت معي على تهويدات النساء المزمنات وهن يراوحن بأمشاط الصوف الأسود جلابيب لشتاء بلا نهاية، ولأقدام ستخيط المسافات بالمسافات من أجل الاعتمار في وزان البعيدة، حيث يرقد سيد الأشياخ، وتنتصب دار الضمانة التي اقترنت بأدعية أمي حتى ظننت أن الحج يؤتى هناك، ولما سألتها قالت: أنت مدين لسيد الأشياخ بوفادتك على هذا العالم.. ... ... ... ...؟ حملت بك بعد عودتنا أنا وأبيك من دار الضمانة، فقد صلينا ودعونا الله هناك فكنت الولد الموعود.. ... ... ... ؟! فعمدناك في أجواء حضرته المقدسة.. كانت تقول ذلك، وتنخرط مع النساء المزمنات في ابتهالات حزينة: آه يا مولاي التهامي عمّر من جاء يزورك واسقني وارويني وارميني في بحورك.. وكانت الدموع تنجرف فوق أخاديدهن التي عراها البلى وأضناها انتظار أبناء سافرت بهم الطرق فلم يعودوا.. وبنات هربن بالشرف مخافة أن تنكسر شوارب آبائهن إذ افتضح الحمل، أو صرخ الجنين بين أفخاذ الذعر في ليل أيلة المحروس بتمائم الأشياخ.. هل تعرف، يا محمد، أن رسالة قديمة منك رتقت خيوطا مزقتها المدن والأوجه المنافقة.. تلك خيوط الروح حيث الخلجان والعليق وقبور السلالة تحت شجرة البلوط العتيقة.. قبر جدي الذي كان يصادق النصارى نهارا، ويرسل بالمؤونة للمجاهدين في الجبل ليلا.. وقبر السيدة المباركة، تلك التي لم يتوقف نولها عن الدوران حتى غطت آخر جسد في أيلة بصوف أغنامها.. لذلك عندما ضربت حمى التيفوئيد بقوة، ومات كثير من الخلق بسبب العدوى، لم يتعجب المشيعون من هالة قالوا رافقتهم طوال فترة دفنها تحت شجرة البلوط العتيقة.. أكاد أسمع الآن طبل رمضان يتجول بين الدور المنغرسة في وسط الغيطان وأعواد القصب.. دقات متناثرة تصل إلى أسماعنا الصغيرة، فنمعن في التنصت على الإيقاع القادم إلى بيتنا محملا بروائح التين الناضج في هزيع ليل لم يحافظ كثيرا على نجومه، فكبرت في جوانبه المظلمة عفاريت أحمد بوكماخ وجنيات أخرى قادمة من حكايات خالي الذي شاهد جنيا يمشي جنبه على الهواء وقد تدلت قوائمه الذئبية، واتسعت حدقاته لتضيء الطريق لهما معا. خالي هذا كان من ثقاة مدشره لذلك انغرست حكايته مع الجني في ذاكرتي إلى الآن.. هل تعلم، يا محمد، أن صاحب الطبل كان من أشد شبان أيلة فجورا، فرغم أواسط الستينيات ورغم الحياء الذي كان، ورغم الخوف الذي كان يرين على الصغير والكبير، فقد كان مدخنا، ولصا، وزانيا، ومقامرا، لكن لسبب ما حظي بثقة فقيه الجامع، فكان يفضله على كل الشبان ويسلمه طبل رمضان من أول طلعة الهلال إلى آخر ليلة من الشهر الفضيل.. وكنا نحن الصغار نتبع الطبل ونفرح بما يرسله من دقات مروعة توقظ الفلاحين من نومهم ساعة السحور. وأحيانا كنا نعطي لصاحب الطبل بعض النقود كي يسمح لنا بحمله والدق عليه! لقد أيقظت فيّ رسالتك التي استخرجتها من بين أوراقي القديمة، أيها الصديق العزيز، قيامة حقيقية من وَجْدٍ ظننت أنني لم أعد أقوى عليه.. كأني بك تدعوني إلى إعادة فتح كتاب «العناكب» من جديد بعد أن أغلقته؟ ولكن ما أجملها من دعوة، وما أجملها من رسالة «وصال» أفلحت في إعادة ارتعاشة البدء إلى القلب.. القلب الذي زنرته المدينة باللامبالاة، وأحاطته الحضارة الخادعة بسراب حياة وهمية.. أذكر بنفس التوهج تلك الرسائل التي تبادلناها، وكنا فعلا منبهرين بجمال لغة تتفتق بين أصابعنا المرتعشة.. كنا أيضا قد أقبلنا على الشعر باتفاق عفوي، فأغضبت بياناتنا بعض وجوه الشعر الإيديولوجي في وطننا.. لذلك حاولوا إعطاء لحن عسكري لأغنيتنا العاطفية.. فتشرد الشبان في الحياة: أنت تسلقت شجرتك الوارفة مازجا قافية الكأس بليل القصيدة سابحا في ملكوت لغة مضمخة بطينك المقدس.. أما أنا فعدت إلى أطلال دارنا أتنصت على أصوات ظلت معلقة على أوتاد الزمن، وأنفخ في شبابة لم تعد تستهوي فتيات أيلة الحزينة.. فيما ذهب أصدقاؤنا إلى بائعي الأحلام بالتقسيط وعاثوا فسادا في ليل لم يرسموه بما ينبغي من ظلام.. الآن تغير كل شيء، يا صديقي، فقد كبر الأصدقاء، ونسوا كل ما قرأوه لأحمد بوكماخ؛ ?????????فالرجل الطيب كان مخدوعا بنوايا الستينيات، فجاءت نصوصه مليئة بالأخلاق والقيم التي ما زلنا نحلم بها.. كنا???? أغبياء بعض الشيء أو حالمين عندما صدقنا قصة قميص عابد: كيف أعطاه الحمَل الصوف، وكيف حلجه النّسرين، ونسجه العنكبوت، وفصله السرطان، وخاطه العصفور، فلبسه عابد ودخل إلى البيت يزهو بقميصه العجيب، وهو الذي تعود أن يلبس ثياب إخوته عندما تضيق عليهم، ويقرأ في كتبهم القديمة، عابد هذا، سيتعب بجسده النحيل وهو يطوف به على المدن والمدارس.. أخطأ عابد عندما حفظ يوما أبياتا شعرية وحاول أن يقلدها، وأنت أيضا يا صديقي ما زلت تقدح الطبشور باللوح الأسود كأنك تتوقع أن يخرج خادم اللوح لينفذ في الأرض ما تخطه يداك.. يداك تخطان أحلاما فكن واقعيا، يا صديقي، كأصدقائنا الذين كبروا?? ????!! عزيزي الشاعر محمد بوجبيري أما بعد? فقد حررني عثوري على رسالتك ، هذا الأسبوع، من رسائل الشات على الفايسبوك وتنظيف حساباتي الوهمية من الرسائل الدودية، ومن أوهام صداقات على الشبكة الملتهبة، ومملكة الشعر الإلكتروني.. الطين يا صديقي أبلغ، وحياة البدء توجد هناك بين الأشجار الوارفة، والشعر سقسقة عصافير تقول وشاية الزهور.. ليس بالمعنى الرومانسي طبعا، بل بالمعنى الكوني.. أنت قديس الكلمات الباذخة، عمّدْني بماء حلوان وبحروف هربتها من جنانك الأولى.. ولكن وصيتي: ألا تدعهم يضعون لحنا عسكريا لأغنيتنا العاطفية!!