عبدالله عدالي الزياني التاسعة الفصل الرابع حكاية أمي مأساة طويلة. كلما وضعت يديها على خديها و زمّت شفتيها بإصرار من يُقرّر شيئا و لا يتراجع فيه، تزفر بحرقة تطفو على عينيها البراقتين و تبدأ رحلتها الموشومة حزنا. يتمايل نصفها الأعلى صعودا و هبوطا و كأنها تُرتّل صلوات خاشعة لله القهار. تنسى ما حولها و تفرض على نفسها حصارا لا تريد الفكاك منه، كأنها تقول للدنيا، و ماذا بعد؟ ألا يكفيك ما أصابني؟ آه يا وعدي الحار قطران! كيندير تا نساك!؟ كيندير تا نهرب منك؟ ليتكم تعرفون أي امرأة جميلة كانت أمي! تقاسيمها الرائعة تبدأ بعيون عسلية و بريق يبهر من ينظرون إليها، خوفا أو إعجابا، تحت حاجبين أسودين مرسومين بيد خالق لا يخطئ. عندما ترسمهما بالحرڭوص يزداد اسودادهما فيصبحان قوسين يرميان الناظر إليها بسهام قاتلة. فم صغير بشفتين رقيقتين، عندما ترسمهما بالعكر البلدي، تصبحان كحواشي كوب قرمزي. تبتسم فينفتح فمها المدور على حلقة أسنان براقة بيضاء تحت طبقة كثيفة من السواك البني. وجهها الصبوح بسمرة خفيفة، تعتدي على جماله بالتحفّز و التجهم الدائمين. أمي الجميلة لا تهب الضحك بسهولة. تبتسم غالبا و تضحك نادرا. قامتها المتوسطة الطول تجعلها تمشي بجدية و إصرار دون اختيال. شيء واحد ينقصها في جمالها المتكامل، شعرها القصير. عندما كبرت سألت أمي إن كانت تتبع الموضة في الاعتناء بشعرها فتقصه كوبْ ڭارسون. تضحك ضحكة متكاملة، فقد أصبحت تضحك بتكامل عندما كبرنا جميعا و ترقص و هي فوق السبعين و كأنها تعوض ما ضاع في سفرها الطويل المليء بالفواجع. تتأوه بزفرة طويلة كهبوب الرياح الغربية المحملة بالعجاج؛ آه يا الزمان و ما خلاّ فينا! عندما تتحدث عن فوجعها، تحكيها بعروق القلب. لما توفي خالي عبد الله كانت في عشرينياتها. عوضها قدرها المتعوس بالقوة و الشباب و الجمال. كان يكبرها بسنتين. لم يكفها التمرّغ في أشواك السدرة و لا الارتماء في حمأ الوحل و ندب الوجه و شقّ الخدين و رمي التراب على الرأس. ما تزال تذكر الرثاء القديم الذي رثت به خالي الراحل. كانت أمي الجميلة و المغجوعة، خنساء القبائل. تجلس القرفصاء ممثلة العرس الدموي و هي تندب الراحل الذي لا يعود. ترفع قبضتها إلى أعلى بموازاة خديها، طلوعا و هبوطا، لتسنعيد الندب القديم الذي لا ينسى. ما زالت تذكر تفاصيل الندب القديم بكل تقاسيمه و نغماته و كأنه حدث صبحًا. تدندن بجوقة متكاملة الأنغام و ما رافقها من حلقة المندبة، من الدّكّ بالأرجل و رفع الأيادي لسلخ جلود الوجوه. ليست هناك إلا لغة واحدة للتعبير عن الفاجعة، هي لغة الدم: الدك الدك الدك الكية كية أمك الكية كية اختك انت غادي و الطريق طويل دمعي حجر ما بغا يسيل منين جاني الهم و الوجع من المسافر ما يرجع الدك الدك الدك الكية كية أمك تزعمت أمي حلقة النادبات في دائرة مرسومة بعناية، تتناغم فيها ضربات الأرجل على الأرض و نساء الكورال يرددن، الدّكّ الدّكّ، مسترسلة في شعرها الرثائي بقافية تتغير كلما حمي الصرب على الوجوه و نتف الشعر و دك الأرض بالأرجل الحافية و الأجساد الملوثة دمًا و أشواكا عالقة بالأثواب. تدور أمي مع الدائرة و تراقب أصوات النادبات مصححة مخارج الكلمات و نشاز الإيقاع. تقول لمن لا يساير صوتها صوت الكورال؛ سرحي ابكاك، حلّي فمك، أو تقول لمن لا تمثل صدق الفجيعة؛ خرجي من المندبة ڭلبك بارد! موت خالي كان مأساة رافقتها عمرها كله. كل حزنها المجنون لم يشف حرقتها، فجزّت شعر الرأس الذي لم ينمُ قط. بقي كوبڭارسون إلى الأبد. بقي قلبها مولوعا بكل من رحل، مولوعا بالموت. أحيانا، كنت أخاف على أمي من الجنون في آخر عمرها. لغتها الحزينة و همسها لنفسها بكلمات غامضة، أميّز منها:-فينك يالفحل؟ فينك يالغريبة البرانية؟ كنت أدرك أنها لم تنس أبدا و ما تزال تخاطب إيزّة المفقودة الغريبة في الزمان و المكان، في القبر و الدار، إيزّة أختي اللي ما بحالها حد، أنا اللي كنت خوها اللي ما بحالو حد!! و خالي عبد الله الذي مات بحمى لم تمهله إلا أياما. تقول في حكيها المأساوي، أخبرتني جدتك أنني ولدت عام الفار، أقيّم الزمن ببداية العشرينيات من القرن. السنة الني هجمت فيها الفئران على سهول تادلة و بني عمير في عزّ الصيف و التهمت المحصول و أدخلته إلى الغيران بحبوبه و أعواده. كانت صابة لم يشهدها الناس من سنين طويلة. حفروا الغيران لاستخراج الحبوب المخبأة تحت الأرض. انتشرت الفئران حتى أكلت أصابع الأطفال، و لم تخلف إلا الكوارث. أبي كان فقيها يحدث الناس عن الدين و الدنيا. لا أذكر وفاته و لكنني أذكر كنتبه ألتي كانت أمي تخبئها في ركن الخيمة. تسدل رموشها الطويلة المرصوفة على عينيها كظلال المساء و تهمس: -ابدا همّي و انا عمري ثمن سنين، احلف ما يسيبني، اتولد معايا و باقي. تتنهد تنهيدة طويلة، و كأن روحها تسافر في كل أرجاء الأرض التي عرفت عذاباتها عبر سنين عمرها الطويل. رأيت أمي تبكي يوم وفاة إيزة بكاء خاطفا. بكت يوم سلخني أبي من الجنة ليسلمني إلى جلادي. من يومها لم أر دموع أمي؛ تحزن و تئنّ و تتمايل و هي تعدد راثية الموتى في صبر و رتابة لساعات طويلة. الزمن عندها يختزله الحزن و يصبح دورانا دون توقيت، و لكنها لا تذرف الدموع. في حضرة الحزن تتمايل إلى الخلف و الأمام في صمت، ترسل نظراتها إلى لا مكان، تائهة شاردة في موت اللغة. في غضبها الهائج، تشد وسطها بمنديل إضافي و تتأكد من ثبات عكافة الرأس و تتسلح بأي شبء، حجر أو منجل أو مقلاة..و تهجم في شراسة. تقول عن ثوراتها:-اللي يضرب ما يخمم ما يختار! و لم تغلب أبدا. في أيامها القاسية لم يرحمها أحد و لم تنس، فوجدت في تشردها و جوعها مبررا لقساوتها. من مأساة أهلي، أصبحت مغرما بتتبع مآسي الآخرين و المشي في دروب عذاباتهم، بحثا عن العزاء، و ربما تبريرا لأقدارنا العمياء، و أقول، لسنا وحدنا. أحاديث أمي عن قدرها يشبه أسفارا، لا تريد العودة منها و لا تريد أن تتوقف. زفرة وراء زفرة و تنهيدة وراء أخرى و أنا أجلس بجانبها في الكشينة تهيء الكسكسو ببلبولة الشعير، أدفع الحطب تحت الخديمة السوداء و لهب الكانون يشعّ بظلال تنعكس على الجدران الكالحة و الحرارة تتصاعد إلى رأسي فأحسّ به يغلي. تزيل القَفّال المحيط بالفخار فيتصاعد البخار من الخديمة، فتقلبه في القصعة الخشبية و تضرب البلبولة بأصابعها مستعينة برشات ماء لتخفيض حرارتها؛ -ما زال خاصّاه فورة، تقول أمي و تعيده إلى الفخار و تسد عليه بالقفال بإحكام لمنع البخار من التسرب. نظيفة هي أمي، تكره العفونة و الأوساخ، تقول أنها تعلمت النظافة في دار مسيو كوكو. لأول مرة أسألها عن مدام كوكو فتقول؛ كاترين، و لكنها في أحاديثها عنها لا تسميها إلا بمدام كوكو. أيام سيدي مومن، لا تكف من الحديث عنها، مع تجنّب ذكر إيزّة المرحومة، الجرح الذي لا يتوقف نزيفه، فقد كانت أروع أيامها و أيامي. حتى عندما ربّت كلبا سمّته بوبي، يموت من الكبر و تعيد تربية آخر و تسميه نفس الاسم. و مهما اختلفنا أنا و أمي في نظرتنا للأمور و الأشياء، فقد كنا نلتقي في جنة سيدي مومن بروعة أيامه و ذكرياته. تقفز على القلب تلك الغزال الآتية من وراء البحر لتسقيني في ليالي بني عمير المصهدة، بكوب ذهبي، نيكول، التي عادت وراء البحر الذي أتت منه، محملة بالعطر و الزرقة. تتنهد روحي و تسافر عبر البحار و القارات بحثا عن ذلك الشيء المفقود، فأدرك أن قلبي مصاب و مولوع و مقطوع و مفجوع!! جدتي امباركة، كانت قصيرة القامة في صلابة الرجال و جمال النساء. لم تكن ترد لها كلمة، لكن انتشار القحط و موت أبي و تقدم العمر جعل من أمي قعيدة الزريبة و مراقبة الطريق. لكن احترام الناس لها لم يتغير. أذكر عندما اشترى لي أبي الدراجة، و في سياق التدرب على ركوبها، كنت أسافر تلك الثلاث كيلومترات الفاصلة بين دارنا و دوار جدتي و أنا أسوقها بفخر بمحاداة القناة الأسمنتية التي نسميها الواد و أنا أداري خوفي من السقوط، كنت لم أتعلم السباحة بعد في مياهه التي أخذت الكثير من الضحايا. أجدها جالسة أمام الزريبة كدمية كبيرة، فقد عاشت حتى تجاوزت المائة و نبثت لها أسنان جديدة كأسنان الأطفال. الصيضورة، جلد الخروف بصوفه، و عصاها التي لا تفارقها و التي تستعين بها أحيانا للتعبير عن الغضب و الاحتجاج أو تكملة الحديث الذي أصبح لا يطاوعها. عندما تراني قادما، تقول أمي أنّ نظرها كان يشبه عيون النسور، تحاول الوقوف متكئة على العصا في يدها اليمنى، تغرزها في الأرض، و يدها اليسرى ترفعها في الهواء و كأنها عصفور يحاول الطيران. أقفز من على الدراجة و أرتمي عليها قبل أن تقف. تهتف: -آه يا سعدي هذا ولد ابنيتي جا يشوفني!! و تعانقني بقوة الحب، حب الزمن القديم. كانت جدتي تاريخا متكاملا، فقد عاشت عصر السلطان الحسن الأول و تذكر آخر حرْكاته لتطويع القبائل المتمردة و آخرها قبائل الرحامنة. و كم تحدثت عن ملكية جدي للبندقية الشهيرة التي سميت بالعزيزية، نسبة إلى السلطان عبد العزيز. تقودني إلى داخل زريبة الشوك العالية التي شيدت بها الغرفة الوحيدة من المُقْدار أو قواليب الطمي المخلوط بالتبن، و النوالة الوحيدة المستعملة ككشّينة للطبخ و التي تسميها، نوالة بوظهر، لأن أعلاها يشبه ظهر الحمار، مبنية بالقصب و أعواد القمح و أسفلها مبني بالمُقْدار. كانت تمشي و هي منثنية نصفين و وجهها يكاد يلامس الأرض. تقودني إلى الغرفة المعتمة بنافذة واحدة تضع فيها قنديلا من الطين مثبتة عليه يقايا شمعة ذائبة. حصيرٌ بالٍ تفرش عليه زربية ملونة من خيوط الشرويط و تسند على الجدار الترابي اللون مخدتين قاسيتين محشوتين تبنًا. في الركن المعتم يستلقي صندوق خشبي باهت الزرقة مختوم بقفل أسود كبير تعلق مفتاحه الأسود الطويل في عنقها بخيط من الصوف. على الجدار المواجه للباب، علقت عدة صور بالأبيض و الأسود، مكتوب عليها بخط عريض أسماء أصحابها، جلالة الملك فيصل، سلطان المغرب جلالة الملك محمد الخامس، البكباشي جمال عبد الناصر، و بالألوان، سيدنا علي بن أبي طالب، راكبا جوادا أسود و هو يشق رأس الغول بشاقور عريض النصل و أبو زيد الهلالي بخوذته الحديدية رافعا سيفه، ممتطيا جوادا مطهما. سألت جدتي و أنا أرفع عيني إلى الصور: -اشكون هاذوا آجدة؟ نظرت إليهم بتقديس و هي ترفع يدها في مواجهتهم ثم تضعها على شفتيها و تهمس في خشوع: -آهيا ساداتنا، اصباحكم و اصباح الخير عليكم، ارضيوا علينا و نجيونا من القوم الكافرين. و لم تجب على سؤالي! أخرجتْ صورة أخرى من خلف الصندوق و أرتني إياها قائلة بأسى: -ما عندي مسمار لهاذ التصويرة. ثم ردتها إلى مكانها، بعد أن تأملتها و قرأت عليها، الزعيم علال الفاسي. رجل في متوسط العمر، تظهر من صورته النصفية جلابة و طربوش و طني شبيه بطربوش السلطان. لا أذكر متى توفيت جدتي. الأحداث التي عشتها بعد ذلك في الجامع و مع الفقيه لم تترك لذاكرتي مكانا تشحن فيه كل الأحداث. كل ما أذكره أن أمي أحضرت الصور بمساميرها الصدئة الطويلة و علّقتها في غرفتنا الطويلة الشبيهة بدروب المدن القديمة، و كانت إرثها الوحيد من جدتي المتوفاة بعد تاريخ استمر لأكثر من مائة عام. طيلة حياة أمي تذكر أمثالها و أقوالها المليئة بحكمة الأيام: -ڭالت اميمتي؛ اللي يلصق في الضرس ما يْعيّش!! ڭالت اميمتي المرحومة... و تستمر الحياة و الموت جنبا إلى جنب و دون انقطاع تسايرهما الذكريات، الحلو و المر منها..و تطلع الشمس و تغرب كل يوم غير عابئة بما يحدث تحتها!! تعود أمي لتحدثني عندما كبرت و كبر في ما تحمله من فواجع و كأنها سموم تنفث داخل روحي. عندما تحكي، تشبه شخصية الممثلين على المسرح و هو يحيون و يموتون حسب الأدوار التي يمثلون. بانتهاء التمثيل تعود الحياة إلى مجراها و كأن شيئا لم يحدث. تبقى أدوار أمي طافية على سحنتها الجميلة دون أن تموت. أغلب مساكن الدوار، كانت خياما و نوايل. كانت هناك دور قليلة عالية و متفرقة لعائلات مشهورة، إما غنى أو سلطة أو هما معا. "دار اخوال أبيك، آيت بوزكري بن العربي، آيت فتيلة، آيت القايد محمد بن الغزواني، آيت عزوز. خيمتنا السوداء منصوبة في المكان الذي توجد فيه دار اخوالك اليوم." كنت في الثامنة و أنا ألعب مع بنات الدوار لعبة لفْرود و اشريطة و الغميض و نتقاذف التراب على بعضنا البعض و نصرخ و نركض..عندما جاءت أمي عصرا لتمسكني من معصمي و تسحبني من بين البنات دون أن تقول شيئا. كانت يدها قاسية و هي تشدني لأتبعها دون أن أقول شيئا و دون أن تتكلم. في الخيمة، كانت ثلاث أو أربع نساء لم أعرفهن. قالت واحدة منهن؛ هالعروسة! منذ تلك اللحظت انطبعت في ذهني و إلى الأبد صورة تلك المرأة السمراء الطويلة كسارية. تبتسم من جانب فمها، فتظهر أسنانها و أنيابها طويلة مسوسة. تغلب البشاعة على وجهها الجامد المتحجر، يدان بأصابع طويلة و رفيعة كأنفها البارز في وقاحة. ترتدي ملابس بنية و سوداء، فتبدو رجلا أكثر منها امرأة. مدّت يدها الطويلة إلي و بدأت تتحسس جسمي و تجس أعضائي و كأنها تشتري شاة. تغرز عينيها في عيني، فأحسّ بالخوف و الرغبة في الهروب. تجلس ناشرة أجنحتها في استرخاء و تعب كغراب هرم. قالت في صوت رجالي مبحوح: -انت زينة و مسرارة يابنتي! أمي تبدو عابسة و صامتة و حزينة، تتجنب النظر إلي و هي تهيء صينية الشاي لضيفاتها. لم أفهم شيئا و لم أتصور شيئا، فكل ما يحدث كان خارج إدراكي. النساء تغرزن عيونهن اللامعة في كل أعضاء جسمي. كنت أريد أن أهرب منهن جميعا، لمنني لم أستطع، فقد كنت تحت الحصار و أنا أجلس وسطهن، و هن تتحدثن عن أشياء لا أفهمها. عالمهن كان عملاقا رهيبا أعثى و أقوى من إدراكي، لذلك كنت مستسلمة و صامتة. امرأة واحدة من بين تلك النسوة، كانت شبه صامتة. ما زلت أذكر نظراتها الحزينة إلي مبتسمة في أسى. سحبتني إلى حجري و ضمتني بقوة. قالت؛ تعالي أخيتي. انزلقت السبنية الملونة من على رأسي، فانساب شعري الأسود الطويل على كتفي. فهمت من أمي بعد الذي حدث لها، أنها خالتي وردية. لم أرها بعد ذلك، لكنني ما زلت أذكر تقاسيم وجهها الجميل و جسدها المتناسق و قامتها الأطول من قامة أمي القصيرة. يشاء قدري المتعوس أن يكون عرسي مرافقا لمأتم خالتي وردية. عادت من عرسي متأخرة، فجلدها زوجها بالسياط، كان أحد أخوال أبيك، ربطها إلى عمود الخيمة و وضع القيد في رجليها. بقيت ثلاثة أيام و هب مربوطة دون أكل أو شرب. في نهاية النهار، قالت لابنها المعطي ذي الخمس سنوات؛ جيب هذيك الصرة و المهراز و كاس ديال الما. و فسرت له ما يفعل، و نفّذ طلبها و هو لا يدري. فتح الصرة و أخرج منها نبات اللهج المسموم، دقّه في المهراز حتى أصبح كالدقيق، وضع القليل منه في فمها و رفع إليها كوب الماء لتشرب و تبتلع السم. أثناء المغرب، ارتفعت أصوات النواح. لقد ماتت خالتي وردية، انتحرت احتجاجا على الإذلال. لم يحتج أحد و لم يُدِن أحد، فالقوانين في ذلك الزمن كان يصنعها الأقوياء و تتغير بين الشروق و الغروب. مدّت المرأة العالية الطول يدها إلى صرة بجانبها، محزومة بعناية، وضعتها بين رجليها و انحنت لتحل عقدتها بأسنانها و تخرج منها أشياء ترفعها إلى أعلى واحدة واحدة، بفخر و اعتزاز، لكي يراها الجميع. شقة بيضاء، ثوب غير مخاط يُشدّ على الكتفين و من الوسط ليرتخي على الردفين فيبدو فضفاضا. تحتية برتقالية اللون ذات طرز خفيف على الصدر تبدو أكبر مني بكثير. مدّت يدها لتقيسها علي و لكنني تهربت. ريحية فاقعة الألوان، حاولت أن تجذب رجلي لتلبسني إياها، فسحبتها رغم أنني حتى ذلك السن كنت حافية لم أنتعل بَلْغة قط. هناك أشياء أخرى، ربطة سواك، كيس من الورق أفرغت محتوياته في طبق من الدوم أحضرته أمي، حلوى و حمص و زبيب و تمر و تين مجفف..قالت أمي بصوت مبحوح؛ كولو، مدّت النسوة أياديهن إلى الطبق ملتهمات الفاكهة، إلا أمي و خالتي و أنا. كل شيء بدا غامضا و مبهما بالنسبة إلي و أنا أجلس في حجر خالتي، أحيط عنقها بيدي اليمنى و اليسرى، أتحسس البلغة و الملابس بحذر و خوف. هتفت المرأة: -ها دهازك يالعروسة! من يستطيع أن يفسر لي الذي يحدث أنا ابنة الثامنة، التي لم تكن لها أسئلة تطرحها. أسأل نفسي اليوم، هل الذي حدث كا عرسا أم جنازة؟ لا فرق على كل حال. الساعات القليلة بين حضور النسوة و مغادرتي لخيمتنا لخصت عمري كله، الميلاد و الحياة و الموت. رفعتني خالتي من إبطي كدمية و انجهت بي إلى الجانب الآخر من الخيمة و نصبت إزارًا فاصلا لتسترني عن العيون. سلخت عني التحتية الوحيدة التي كنت أرتديها، و وضعتني في جفنة القصدير، و بدأت تصب الماء الدافئ على جسمي من مقراج أسود من أثر الدخان و طلتني بعجين الصابون البلدي الأسود. عندما انتهت من غسل جسمي، نشّفتني بنفس الثوب الذي كنت أرتديه. مشطت شعري بمشط و سخ مصنوع من قرن الماعز و هي تتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئا. أحضرت ملابس العرس و بدأت تلبسني. التحتية تتكوم على رجلي و خللتني بالشقة البيضاء، ففاضت على جسمي الطفولي النحيل. أمسكت حجرا صغيرا و أدخلته في الثوب و شدّت عليه بخيط قطعت طرفه بأنيابها البيضاء الجميلة كالتّبْروري، البَرَد، الذي نشهد تساقطه في العوالصف الصيفية و نمصّه كالحلوى. شدّت على كتفي الآخر بنفس الطريقة. برمت منديلا و شدت به الشقة على وسطي. تضحك أمي ضحكتها الكاملة و هي تستلقي على قفاها و تقول؛ كنت أبدو مثل عيشور، الذي تصنعه البنات من فخذ الدجاج و تلبسنه كيفما اتفق، لتلعبن به أيام عشوراء. تسألها إحدى أخواتي مازحات؛ و الماكياج؟ تضحك أمي بكل ما فيها و هي تغوص في الزمن الضائع منها، حتى يسقط طقم أسنانها الصناعية. ترده إلى فمها و تقول؛ معلوم الماكياج! واه! كثرة الهم تتضحم. تسترسل أمي في حديثها الفاجع متمايلة تمايل البكاء و النواح. كنت أشبه كومة من الملابس في ذلك الدْهاز الذي أحضرته لي جدتك و تريد أن تجعل من طفلة الثامنة امرأة متكاملة و عروسا على هواها. لم أكن إلا طفلة جعلت منها ملابس العرس أضحوكة سلبت مني براءة الطفولة حتى. أجلستني على وسادة قاسية محشوة تبنًا و أحضرت آنية طينية مليئة بخليط الحناء الخضراء، طلت بها قدمي و يديّ و لفّتهم في قماش وسخ محذرة إياي ألا أقوم لكي أحافظ على الحناء. بدوت كمومياء محنطة مخلفة من عصور قديمة. حركات خالتي موزونة و متقنة و كأنها رسمت خطة و تنفذها بإحكام. فتحت صرة و أخرجت قنينة طويلة العنق أدخلت فيها عودا رفيعا و سحبته مطليا بمادة سوداء لزجة قالت إنها الحرڭوص. وضعت العود عند ملتقى شفتي بالأنف و مرّرته على الأرنبة صعودا حتى ما بين الحاجبين. كانت الرائحة قوية و نفاذة، أحسست معها بالدوار. قنينة أخرى من الصرة و تحتوي على مادة في لون القرفة ذات رائحة عطرة. قالت خالتي؛ القرنفل ريحتو زينة. طلت أصبعها، ثم بدأت تدلك صدغي و وضعت نقطا فوق حاجبي و على خدي. العكر البلدي بلونه الوردي غير من لون خدي كما غيّر السواك من لون شفتي. أصعب ما تعرضت له في جلسة التزيين هو الكحل. عندما أسدلت أهذابي و مرّرت المرود أسفلهما انفطرت عيناي دموعا و حريقا و بدأت أصرخ و أبكي محاولة التخلص من يد خالتي التي كانت تشدّ رأسي بالقوة. بسرعة البرق مرّ الألم و الحريق و لم تبق إلا الدموع التي انهمرت قطرات منها على الشقة البيضاء فطبعتها نقطا سوداء، جعلت خالتي تلمّ الشقة و تدفعها بين فخذي و هي تولول حسرة على الثياب الجديدة. بين العصر و المغرب، انقلب العالم بكامله في حياتي. فقد رأيت ما لم أر في خيمتنا و العالم الذي أعيش فيه. مواد التزيين و الألبسة و الطقوس و اللغة المتداولة و كأنني أقفز قرنا بكامله إلى الأمام. أتعبني تشكيل صورتي الجديدة لأقارن بين ما كنت و ما أصبحت. براءتي بذلك الوجه الصبوح بلا مساحيق و شكلي الآن و خالتي تصنع مني مخلوقة جديدة سأكونها بعد ساعات و أنا لا أدري الثمن الذي سأدفعه مقابل ذلك. قطعت عليّ خالتي شرودي و هي تمدّ لي مرآت صغيرة مدورة لأم أرها من قبل. رفعتها في وجهي و قالت: -شوفي يا حبيبتي، شحال انت زينة و مسرارة! حدقت في وجهي لأول مرة منعكسا على المرآة فذهلت. لم أعرف شكل صورتي قط. وجهٌ طفولي رائع التقاسيم تتخلله الألوان و عيناي تبرقان كنجوم السماء في ليلة مقمرة و حبات العرق تتلألأ على جبهتي المزركشة بالقرنفل و الحرڭوص و لعكر البلدي. الخيمة تشبه أُتون نار من شدة الحرارة و قد غادرتني خالتي إلى الركن الثاني و العطش يكاد يحرق حنجرتي. لم أقو على رفع صوتي مطالبة بالماء. هناك خوف غامض يشلّ كل أعضاء جسمي. عادت خالتي تحمل كوبا طينيا من الماء الساخن بحرارة الخيمة قذفته في فمي حتى أحسست بألم في بطني. من خلال ستار الخيمة، تراءى لي أفق الشمس الغاربة المخلفة وراءها طوفانا من كل الألوان. قالت: - أنت مَرْضية ليلتك ما فيها برق و لا عجاج و لا رعد! لم أفهم ماذا كانت تقصد. بعد توالي السنين، عندما كنت أعدّ أخواتك للزواج، أرفع عينيّ إلى السماء و أتوسّل: -يا ربي اعطيها ليلة بحال ليلتي ما فيها عجاج و لا برق! في ثقافة أمي، ليلة الزواج هي ليلة القدر التي تتحكم في العمر كله. فأهل السخط تكون ليلة عرسهم كوارث. و بما أن الصيف هو موسم الزواج، و هو فصل الرياح الغربية المحملة بالأتربة و الشرڭي و اشتعال الحرائق و العواصف الرعدية المحملة بالأحجار الساقطة من السماء، فإن العريس أو العروس الموشوم قدره أو قدرها بالسخط تكون علامة البلاء من كوارث الأرض أو السماء. مهما حاول الناس رصد ليلة العرس تجنّبًا لأي حدث، فإن تآمر السماء و طوالع النجوم مع أحداث الأرض و ما يجري فيها، مكتوب لا مردّ له. المرضي مرضي و المسخوط مسخوط. ليس هناك من أحد يستطيع إقناع أمي و أهلي بما هو خرافة و ما هو علم. جلست خالتي أمامي و فكّت الأربطة من رجلي و يدي. جفّت الحناء و أصبحت قشورها قاسية تتكسر كقِطع خبز يابس. أوقفتني على قدميّ و لفّت جسمي بإزار ملون. دفعتني أمامها إلى الجانب الآخر من الخيمة حيث وقفت النسوة في انتظاري و المرأة البشعة تحدق في بعيون تُبرق كالنسر. هتفت امرأة: -مزّينك يا خيتي! الله يحجبك. دفعوني خارج الخيمة و رجلي تنزلق من الريحية الواسعة. أحاطت بي مجموعة من النساء و خالتي تشدني من يدي محاولة اختراق الحلقة لكي أرى طريقي و أنا أخطو خطوات مترددة و ضائعة و مجهولة. حاولت أن أسأل خالتي؛ فين احنا غاديين اخالتي؟ لكن سؤالي ضاع في الزحام و الصياح و ضرب الأكف و الزغاريد و التعارج. رفعت امرأة قصبة طويلة علقت فيها قطعة قماش أبيض و زهرة جمرة حمراء و هي تصيح: -احنا في حماك آرسول الله! أجري لكي أساير خطواتهن العريضة السريعة. أطفال الدوار يجرون مع الموكب الذي اخترق خيام و نوايل الدوار في اتجاه لا أعرفه. تصاعد غناء جماعي اختلط بالزغاريد و الصياح و الغبار المتطاير بين الأقدام. هالعروسة جايا هالعروسة غاديا اديناها اديناها لدار عريسها خذناها