الحلقة السابعة كانت ليلة طويلة لم أنم فيها كما تعودت، لم أفارق حجر أختي رابحة و لم تتوقف عن إمطار فمي بالقبل الحارة الطويلة و هي تجلسني لتقيس على رجلي حذاء أحمر اللون شبيها بحذاء مسيو كوكو. أوقفتني على قدمي و أنا أميل يمينا و يسارا محاولا الوقوف لوحدي مرتديا الحذاء مصرا أن أتمرد على البلغة الصفراء، و لكنني لم أنجح. كان الكعب أعلى من البلغة و قساوته لا تقارن بنعومتها و ثباتها على الأرض. رميته جانبا و أنا أتخلى عن المخاطرة بالسقوط. انتبهت إلى أهل لبلاد و زوج أختي رابحة الذين اختلطت أحاديثهم بين ما هو مفهوم و غامض و مقلق و مثير. الوطان و الوطنيون و السلكان و النصارى و المقاومة و البارود و المظاهرات. عوالم و لغات كانت فوق إدراكي. أذكر الأسماء و أماكن الأحداث، درب غلّف و درب السبنيول و الباب الكبير و سانترا..أسماء مرتبطة بما كان يحشو به أبي كيسه العسكري. قال عمي، زوج أختي رابحة: -الدنيا مرعرعة..البارود و الدخان و الناس تجري على بعضها البعض. الله ينجّيكم من عسكر ساليڭان، بحال الغربان ما يظهر منهم غير السنان و العينين بيضين. ما يعتقوا ما يرحمو. لمقدم تاع الحومة ضربوه المقاومة بالقرطاس طاح على وجهو. سمعنا واحد يڭول الموت للخونة، خونة الوطن و السلطان. قال رجل بلحية مذببة ينادونه بعلال بلمقدم، يرتدي جلابة بيضاء و رزة قصيرة اللفة: -همّا فين رفدوا السلطان بن يوسف؟ أجاب أبي بثقة العارف: -دّاوه لمدام كاسكار، دزيرة داير بها لبحر من كل جهة. إحدى النساء كانت ترضع وليدا في سن أخي عبد الكريم، ارتفع صراخه فهتفت فزعة: -أناري على وليْدي خلعوا البارود! أجاب زوج رابحة ساخرا: -كن ما غطيتيه بالشقة كان الله به!! التفت إلى الجميع و صاح هازئا: -ڭال ليها واغطي ولدك بالشقة على البارود!! و ارتفعت الضحكات العميرية المجلجلة في قلب ليل الفيرمة الصامت. تحدث رجل لا أذكر اسمه عن الخائن ابن عرفة و الشهيد علال بن عبد الله الذي حاول قتله و هو في موكبه إلى صلاة الجمعة. بدت أمي مهمومة و هي منشغلة في إعداد الكسكسو، تشد الفخار بقطعة قماش على البرمة الطينية السوداء. رغم صغر سنّي كنت أعرف أمي أكثر من أي مخلوق يعيش معها. تشم رائحة الكوارث حتى قبل أن تصل. هناك شيء ما يدور في رأسها و لا تريد أن تشاركه مع أحد. لم تتكلم و لم تشارك في الحديث. أختي رابحة اختارت أن تغزو فمي بقبلاتها الطويلة التي تسد أنفاسي بشفتيها المثمرتين و تشدني من الضفيرة المنفوشة النافرة، محاولة تسويتها. أبي يشارك في الأحاديث مجاملا ضيوفه و هو يسترق النظر إلى أمي الصامتة. لا أذكر متى غرقت في النوم تاركا ورائي رائحة الكسكسو و الأحاديث الغامضة و الضحكات الشبيهة بأصوات أسوار تتهاوى. استيقظت في اليوم التالي على صراخ أمي و على حرارة صيف تتسرب من سقف المسكن القصديري. ذهب الضيوف و معهم أختي رابحة و زوجها.أبي يدفن رأسه بين ركبتيه و لا يبدو منه إلا جلد رأسه الحليق. فاطنة تحمل أخي الصغير على ظهرها و دموعها تغسل خديها المتوردين: -آش نديرو في لبلاد؟ عندنا أرض..دار..فيرمة..فلوس؟ ذلك كان صراخ أمي و هي تدور حول نفسها كالمجنونة في المسكن. اليوم يوم الأربعاء و عطلة أبي يوم الأحد، فماذا يفعل هنا؟أصابتني حمى الحزن و البكاء و القلق و الترقب من جراء صراخ أمي، فبكيت دون أن أدري لماذا!؟ أخيرا عرفت مصيبتنا. لقد فُصل أبي من عمله كمنظف طائرات في مطار آنفا. انتهت أيام البطولة و البدلة العسكرية و الهدايا و انتظار عودة البطل الذي يبرز من خلف الضباب ليرفعني إليه كطائر الزرزور. لم تعد كدية سيدي مومن حلمي المشحون بالقبلات الخشنة و العناق الحار المجنون الممزوج بالرطوبة و الحب المحموم. ذلك اليوم، يوم الأربعاء، تاريخٌ لا يُنسى في حياتي و حياة أهلي. أذكره في الليل و النهار و البر و البحر في الحلو والمر و الأحلام الرائعة التي ضاعت و الكوابيس الحاضرة التي لا تراوح عمري. أضربت أمي عن كل شيء، الكلام و الطبخ و النظر إلينا بعينيها العسليتين الرائعتين و الحركة و البكاء و الذهاب إلى دار مسيو كوكو. رأيت أبي يتحدث إليه بوجه حزين منكس الرأس عاريه. الوقت ما بعد العصر، و الجو خانق و سحاب أسود يتجمع في قلب السماء منذرا بعاصفة مطرية تعلن قدومها من البحر، زاحفة على كدية سيدي مومن التي لم يعد لها تاريخ منذ اليوم إلا في صفحة ذاكرتي المعذبة. لقد دخلت أمي في حالة توحش صامت استعدادا للانقضاض في أية لحظة. ألغينا التعامل معها خوفا من الانفجار و لم يعد أحد يتطلع إليها، خاصة أبي. فتحت الباب الصغير و أنا أشد ظفيرتي بيد قاسية حتى كادت تقتلع. جلست على الدرج الأسمنتي أتطلع إلى ما أصبح بعد ذلك مجرد ذكريات محرقة في القلب و الروح و الذاكرة. الكدية و الشفق الأحمر و ذلك العالم الغامض المسمى، دار بيضا، و البحر الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله العليم، مع ذلك رمى لي بنيكول غزال الليل و النهار و ساقية ظمإي من كوب ذهبي في ليالي سيدي مومن الحارة، و مسيو كوكو، الوعل الجميل الذي سمّته أمي باسم لا يُنسى، كركدان، و مدام كوكو التي تعلق في صدرها حبّتي رمان رومي، عريش النعناع. فتح أبي الباب ثم جلس بجانبي صامتا. وضع يده العريضة على رأسي و حرّكه يمينا و يسارا و همس: -غادين نمشيو للبلاد أبّا، تلعب مع الدراري اولاد عمك و تنقز كي بغيت. توقف عن الكلام عندما سمع صوت محرك يتجه نحونا. انتصبت واقفا لأهرب، و لكني أصبت بالشلل عندما توقفت أمامنا دراجة نارية سوداء هائلة. لم أر هذا الشيء من قبل. شخصان يرتديان ألبسة شبيهة بلباس مسيو كوكو يركبان الدراجة ذات المحرك الهائل. انتصب أبي واقفا. ترجل الرجل الذي يركب خلف السائق و اتجه نحو أبي محدقا فيه بعينين جامدتين مخرجا مسدسا أسود اللون أراه لأبي و همس: -الصّاكّة ديال الدخان ديالك؟ نفس الخوف و نفس المهانة استوليا على أبي يوم ضرب الكلب بوبي و هو يواجه مسيو كوكو. همس مرتعدا: -لا، ديال النصراني. همس الرجل مرة أخرى: -اليوم لاربعا. لاربعا الماجية، إلى وجدنا لبلاكة معلقة ما تلوم إلا راسك. لوّح بالمسدس في وجه أبي و قفز وراء السائق، لتنطلق الدراجة النارية مختفية في عاصفة من الغبار. سحبني من يدي و دخلنا. كانت تلك مصيبة أخرى. وجدنا أمي خلف الباب و هي تسترق النظر و السمع، هتفت: -اشكون هذوك؟ أجاب أبي في إعياء و هو يتنهد: -ناس الوطن، كايحاربو النصارو بمنع الدخان! أجابت أمي بغضب: -هذي حجة اخرى باش تمشي للبلاد، الأرض اللي جعت فيها و تعريت، ما نشمها و لا تحلا عليا. بكت طويلا، جلها سيسلخ من أرض سيدي مومن، الجنة التي اغتصبت منها و مني و لم نعشها قط، لا أنا و لا أمي. فتبًّا لك يا قدرنا أنا و أمي!! ما زلت أذكر تكوّمنا في تلك الشاحنة الكبيرة، أنا و أمي و فاطنة و أخي الصغير الذي لفّته أمي في إزار واضعة إياه على ركبتيها خوفا عليه من البرد، في حين ركب أبي مع السائق. موقف وداع غريب شبيه بمأتم أختي إيزّة. الفرق بينهما أن أمي لم تعلن حزنها الملوث دمًا. بكت مدام كوكو و هي تعانقنا واحدا واحدا بعيون تقطر دمعا شبيها بموج البحر المتكسر على صخور سيدي عبد الرحمان. عندما عانقتني، أسندت رأسي على ثمرتي رمانها الرومي، و استنشقت عطرا لم أنسه مدى العمر و أنا أبحث عن رائحته في كل عطور القارات، و لم أعثر عليه. غلبت حمرة البكاء في عينيها على زرقة البحر. ما أروع مدام كوكو! عندما تحدق في أحس بالدوخة و الارتعاش و الخوف. من يوم حادثة قفص الدجاج، لم ينته خوفي منها. اليوم تضمني إلى صدرها اللدن المزروع رمانا، أتمنى أن أموت و لا أبعث إلى فيه. رفعت عيني إلى الدار باحثا عن نيكول، فلاحت لي وراء سجنها الزجاجي الذي، لم يمَكنني ارتفاعه من رؤية ركبتيها الشبيهتين بالتقاح. لوحت لي بيدها اليمنى و هي تبتيم، فأحسست برفرفة جناح طير يحوم على القلب. كلما لوحت لي عائشة بيدها البيضاء مرحبة عن بعد أو مودعة، يُغرقني ذلك الإحساس الغريب الشبيه بالإعصار، يشدني إلى أيام سيدي مومن و تلويحة نيكول من خلف سجنها الزجاجي. لكم يعذبني تجاذب الزمن بين ما فات و ما هو حاضر و ما سيقع غدا، و بين مسافات التجاذب أغرق في بحر بلا قرار باحثا عمّا مضى و ضاع و لا أعثر إلا على الضياع. لقد جعلت نيكول سيدي مومن نجمة مشعة و بركانا ثائرا في ذاكرتي الطفولية لم يخمد حتى الآن. كلما زرت الدار البيضا، كانت ريح المحيط تهب علي و تدفعني في اتجاه الوطن الشرقي لأزور سيدي مومن و تلك الفيرمة المهدمة دارها، المنهارة جدرانها و التي ما تزال خرابا و لم تعمر. أسير بخطوات ثقيلة و أحط قلبي على الأرض و أدوس عليه مستجلبا روعة ذلك العالم الفريد، عالم الصبا و الفرح و كل ما طبع الطفولة و براءتها. هذه نيكول تقفز كالسمان، فتتطاير تنورتها الشفافة، فتكشف عن ساقيها العاجيتين و ركبتيها كحبتي تفاح. تخونني رجولتي فأبكي بدموع الطفل الذي عضّه كلب مسيو كوكو الرابض تحت تلك الشجرة التي ما تزال رابضة هناك، تذكي حرائق الروعة في حياتي الطفولية التي اختفت إلى الأبد و لم تخلف إلا الرماد و الغبار الذي ذرته تلك الشاحنة الكبيرة و هي تغادر فيرمة مسيو كوكو في اتجاه مجهول سماه أبي، لبلاد!؟ مسيو كوكو بدا عاديا ينظر إلينا بعينيه الزرقاوين المتفحصين و طوله الفارع و شكله المتناسق. عندما كبرت، تنظر إلي أمي متفحصة و تقول: -عا مسيو كوكو! أهمس غامزا أمي، بذكائها المتوهج الفطري، تدرك ما أقصد، فتجيبنب ضاحكة و مستنكرة قصدي: -لا يا وليدي، هو لوحم و صافي!! كانت الشاحنة الكبيرة تتسع لكل شيء؛ وسائل دفاع أمي ضد السحر و العين و قلة الرزق، كرات الحدج المر و حوصلة الخروف المحنطة و حدوةلك الحصان المجهول و صرات البخور و أغصان نبات شندڭورة المخضرة..حتى أنا لم أنس ممتلكاتي، صفائح بوبي و ثلوش عاشوراء. لم تتوقف أمي عن البكاء، فقد رفضت الرحيل و لكنها لم تستطع مقاومة إصرار أبي رغم سطوتها. ما زالت روحي ترفرف و تهتز و تطير إلى كدية سيدي مومن حيث تستلقي رفات أختي إيزّة في غربة الروح و الجسد وحيدة كقطرة المطر. ترتعش جفون أمي و هي ترفع رأسها و ترسل نظرات ذابلة إلى الكدية العالية هامسة: -واتبقاي بخير يالغريبة البرانية!! أحسّ بضمات إيزة و قبلاتها الحارة على فمي، مجنونة ملتهبة و هي تهمس: خويا اللي ما بحالو حد! و أهمس بعدها: -إيزة اختي اللي ما بحالها حد! ظلام خفيف انتشر على الفيرمة و الشاحنة تتحرك مغادرة سيدي مومن، مخلفة دخانا كثيفا أخفى معه الفيرمة و روعة الأيام و الأحلام التي خلّفتها ورائي و لم أعشها قط و لم أرها قط. تبًّا لك يا قدري، ملعون أنت في ما فات و ما هو حاضر و ما هو آت!! الفصل الثالث -آبني عمير!احنا ضيافين الله و ضيافينكم. غيتونا احنا في عاركم، آمزغبين الودنين، الشتاونا لحرار اللي ما ينامو على ضيم، انا جيتكم مضيوم و مهموم، غيتوني! ذلك كا استنجاد أبي و هو يعرف أنه يقود سفينة ضائعة بلا قلوع و لا مجاذيف ، و أنه غريق في بحر لا يعرف السباحة فيه. لقد نادته جذوره الضاربة في أرض بني عمير بكل ما فيها من اهبال و جنون و كرم و حماقات و أهل و أصحاب، لا توفرهم أي أرض في الدنيا. بني عمير الصدى الأسطوري و التاريخي و الامتدادات المكانية و الزمنية، تتشابك دون تمييز. بقايا فلول بني هلال أيام الاجتياح الشرقي و حرائقه الموشومة على صدور تادلة الناهدة الأرض، المسكية التربة. تحار ذاكرة الثكالى المعذبات بالبحث عن أشلاء القبور المنسية و عرق الرجال الذين غيّبهم دخان البارود و وحشية الفلاة. تحار ذاكرة الأطفال المقطوعي الجذور و الرجال الحاملين للجروح القديمة كالأوشام، في تحديد هبوب حوافر الجياد و اجتياحها لكل شيء، الزرع و الضرع و العذارى المحجبات..حتى الجغرافيا تعلن عجزها عن تحديد الوطن الهلالي. ذوو الأعمار الديناصورية و شهود الزمن المتسيب بالبارود و الجروح و الاقتتال، يعلنون في إصرار الحمقى، أن أم الربيع شرقا يبنية مرصعة بالعقيق و اللوبان و الموزون على جبين العروس العميرية، مياهه الهادرة حدّ فاصل بين الموت و الحياة، من تجاوزه غربا فهو مفقود و من تسرب مقتحما يلقاه صهيل الجياد و زغردة البارود. على ضفتيه انتشرت قبيلة أولاد عبد الله معلنة عميريتها في إصرار الصخر. حتى مولاي بوزكري، حامي ضفاف أم الربيع و واهب الذرية للأرحام الجافة و مغيث كل مضيوم، تنتصب قبّته البيضاء على نهد ترابي لحراسة الهوية العميرية من التهجين القبلي و من المدسوسين في ليل الهروب من الجبال و المداشر. تقول جدّتي، و هي واحدة من ذوي الأعمار الديناصورية: -سولوني آش ابغايت من الدنيا، ڭلت ليهم زورة لمولاي بوزكري و من ورائها الموت! إن الجرح العميري لا يغسله إلا الدم الفوار النازح من صحراء الجزيرة مهما صالت و جالت عصابة صويلحات، ناشرة الموت و الندب و الثكالى و اليتامى و الحرائق الملتهبة ليل نهار في زمن السيبة التي اختلط فيها الشمس و القمر بالخسوف و الكسوف. تقول جدتي: -فين زمان بوزكري بن خلوق اللي خطف النصراني و ذلّو؟ تكشف عن جرح غائر في ذراعها الأيمن و عن أسنانها الجديدة: -عشنا زمان كانو فيه الرجال رجال و العيالات رجال. واحياني على زمان الخريشفات و الجيجلات و مضاغين العلك و ماشطين الروس بالبريانطين. تدندن بصوت مرتعش و فم يشبه غار النمل: آالغادي اديني معاك اللي ابلاني راه بلاك هل كانت جدتي عاشقة؟ في سنين السيبة و الدم و الموت، كان كل شيء قابلا للامتلاك إلا ما في القلوب. تفرش جدتي هيضورة العيد الكبير بجانبها و تدعوني للجلوس و تهمس: -اڭعد يا ولد ابنيتي انعاود ليك اللي ما وصلتك اخبارو! جدتي سليلة فصائل الديناصورات. تتذكر حروب السلطان مولاي الحسن ضد قبائل الرحامنة المتمردة و موته بدار ولد زيدوح، تعاملت بعملته الفضية، الحسنية. تذكر مخلفات السلطان عبد العزيز بعملته العزيزية و تلك البندقية الشهيرة التي لم يكن يملكها إلا سادة العصر؛ المكحلة العزيزية. ذاكرتها تحمل نقوش خمسة ملوك، من السلطان مولاي الحسن إلى سيدي محمد بن يوسف الذي تصبّح عليه كل صبح و هي ترفع يدها إلى صورته المعلقة على جدار غرفتها الكالحة و إلى جانبه ولي العهد الأمير مولاي الحسن. تضرب الأرض بعصاها مستلهمة ذاكرة قرن من عمرها الطويل متحدثة و حاكيةً الأحداثَ و ما فات، لاعنة الحاضر و ما هو آت. حرب ورديغة و أولاد زيان، سالت فيها الدماء حتى تحولت فوسفاط اليوم. تلك الأيام التي لم تطلع فيها شمس و لا شعّ نهار. طالت الموت الأبطال و الجياد فشقت النساء ما على الأجساد حزنا على الأكباد. تناثرت الشُقات و السبنيات و شعر الرؤوس و انطفأت شموع تلك الخدود الموردة و تقوست الهامات الشامخة..في تلك الأيام التي لا تنسى، أيام عيشة غزة التي اغتال ولد الغضوية الورديغي ابنها فارس القبيلة و حاميها غدرا، خارج قوانين السيبة. عبيدة، ذو الهامة النخيلية و شباب الفجر، لن يشع نهارٌ قُتل فيه و لن تفك حزام الدوم المشدود على البطن الخاوي. ليتفسخ الجسد و تفوع عفونته على كل الرياح، و الرأس لن يستسلم لوسادةٍ و الويل لمن غسلت ثوبا أو رطّبت خدّا أو حملت جنينا و الحزن أشواطه كعرض السماء و الأرض، و لن تنتهي مسافاته حتى يؤتاها برأس قاتل الابن المغدور. الويل للسواك على الشفاه و الحنة على الأيادي و الماء على الأجساد..و كل من تهاون في حزن المغدور تذبحه عيشة غزة من القفا. كل يوم خميس، ذكرى يوم الغدر، تجتمع نساء الدوار في الساحة الكبيرة، ترتبهم المكلومة في دائرة متناسقة تغوص فيها الأرجل الحافية المشققة دكّا و ندبا. تقتحم دائرة المندب بروح مكسورة، تشد الخصر الضامر بحبل من الدوم و تتفحص الأظافر الملوثة دما جامدا و التي ستغوص في الوجه خدشا و حفرا و في الدم سباحة. تمد يدا مجنونة إلى شدّادة الرأس فترميها أرضا و تكشف عن رأس حليق لم يبق فيه إلا الجلد المشقق. تبدأ بهزّ الرجل بضربات متناغمة و كأنها تقود جوقة لترتب انطلاقة الخبط و الدّكّ على الأرض التي تتحول ترابا و غبارا يتطاير مع كل شيء، الشعر و الدم و اللعاب... تهب الفجيعة على الرجال فتنهمر دموعهم متدفقة شهقات و أحزانا تبلل الوجوه المشققة و اللحى المرتعشة بكاء. تنطلق تعدادات عيشة غزة، ليتلقّف صداها أم الربيع شرقا و مركون و سيدي بودراعة غربا: الدّك الدّك الدّك اختك ما دير الحنة بوك ما يلبس القفطان و خوك ما يخيّط الكتان آويه وايه وايه و الڭلب ما نشفق عليه آو راك يا زين العرسان الدّك الدّك الدّك واش ايجي النعاس اهلك؟ علال الابن الأكبر، يهيم ليلا و نهارا متربصا بالغادر الهارب دون أن يصل إليه. يتبعه في الأعراس و المراعي و الأسواق، و لم يعثر عليه؛" أقسم بالعميرية و ما ولدت حتى انجيب ليك راسو". في ليلة غضبت فيها الأنواء بالأمطار و الرعود و البرق، جاء علال المنتقم لأخيه برأس الغادر يعلقه من منخريه على السرج يسيل دمه على حوافر الجواد. رماه في حجرها مفتوح العينين و الفم، شاب في عزّ الضحى. صرخ ملوحا بمكحلة ساسبو: -قاتل عْبيدة يا مّي، ردّي عليه العشا في البرمة! لقد فجره الانتقام نشوة استهانت حتى بحرمة الموت. تأملته عيشة غزة بابتسامة مهووسة، على ضوء قنديل زيت. لم يخف الموت آثار السواك على الشفتين و الكحل في العينين الحيّتين كرها و الشعر الأسود الشبيه بهذه الليلة، تفوح منه رائحة الريحان و الخزامى. همست بأسًى: -ليلة عرسك يالغدّار! واش من عروس منكودة! أطفأت العينين و الشفتين الغارقتين في ثنيات التجاعيد و همست لابنها: لا يا ولدي! ما نديرها، امّو تحاسبني، انت ما تعرف كيفاش تتحاسب لكباد؟ لفّت الرأس المقطوع في خرقة من الصوف و حملته على ظهرها. أردفها علال على الجواد الأصفر و غاص في الظلمة كبراق ينسل في الليل الهادر رهبة، عبر فيافي مركون و سيدي بودراعة ببعّاجِها و سدرتها و غزلانها النافرة خوفا. لاحت أضواء خيام دوار أولاد عزوز بقبيلة ورديغة. إنه مأتم الفارس المقتول ليلاة عرسه بشرائع السيبة و التسيب، "من يفرط يكرّط! و قليل الكتاف تبكي عليه امّو" تناهى إليهما صوت العدادة تندب ولد الغضوية، مفجرة الحرقة و الأحزان بلغة السيبة المتوحشة: آه يا كافر الليل فين عريس الخيل فين دم زين الزين ادفك فين ادفك فين او الدّك الدّك الدّك وانحيد منك الشك قفزت على الأرض بفرح ردّ لها عمرها الأخضر. صاح علال: -فين غادية راهم يقتلوك. ردّت بغضب جاهلي: -اسكت! الا تفهم الأم، تخبّا ورا السهب. إلى رجعت غادية نرجع ساكتة. إلى عيطت عليك راهم شاديني، اهرب و غلا انت ملعون امك، سر اخبر القبيلة تتوجد البارود! و اختفت في الليل البهيم تحمل الرأس الدامي. لم يطا انتظاره، فقد عادت تجري كشابة و هتفت: -اركب، خيل ورديغة كلها جاية تهجم على اولاد زيان! انفلق الصبح بالبارود و انطلقت الجياد كالسهام ترد الغارة المجنونة. تصدت عيشة غزة للفرسان تحرضهم على القتال و ترش الحناء على كل من تقهقر أو فرّ. الجبناء و الهاربون من المعركة ليسوا إلا نساء تلوثهم الحناء. انسحب المهاجمون مهزومين تاركين القتلى و الخيل المصابة و الدم السائل على أوتاد الخيام. عندما اشتعلت الظهيرة، شاهد أهل الدوار عيشة غزة عروسا رغم أنف الزمن السبعيني. الشقة الثلجية الملفوفة على الجسد الضامر و الريحية الحمراء المشدودة إلى الكعبين و السبنية ذات الألوان السبعة تتدلى منها عيّاشة الحسنية و قروش الفضة و حبات اللوبان الأحمر و الأصفر و تشد على كتفها لحراف الحريري المرصع بالودع و حبات المرجان...قفزت و رقصت و هي ترفع يديها الملفوفتين بخروق تحافظ بها على الحناء الطرية التي طلتها أثناء ليل الفرح. تحول التعداد إلى نشوة و غناء: ما مات عْبيدة يالبنات ما مات عْبيدة ما مات اطليو الحنة و قوسوا السبنيات ما أروعها من ليلة في حياة عيشة غزة و القبيلة! ليلة فرح عارم كهبوب رياح الشرڭي سهر فيها الكل سكارى بالشاي و الثريد و الكسكسو و الطواجين..و ارتوت النساء حبا حتى توالد الأطفال كالفئران. إنه الزمن المتسيب! زمن الخيل و البارود و الاكتساح و الويل لمن يفرط يكرط. تضرب جدتي المحمرّة الشعر كزغب الذرة، الأرض بعصاها و ترفعها رادة التحية على رجل يركب دراجة و يهز رأسه محييا: -كيدايرة اخالتي امباركة؟ تتنهد و تهمس بأسى: -آيهايه! السلام عاد بالروصية و هما راكبين اعويد الريح. ثم تسألني ببراءة: -هي اسمها يا ولد ابنيتي؟ الشكليطا؟ أصحح لجدتي اسم الدراجة و تفشل في ترديد الاسم. تتأوه و تسترسل في حكيها الفاجع. توقف التقاتل جهرا و ظلت النفوس تحمل الفواجع و الأحقاد سرّا. جاءت الغضوية يوما تبحث عن القاتل و رأس المقتول. قالت: -ابغايت انشوف قاتل ولدي و ناخذ راصو! استقبلتها عيشة غزة و أدخلتها الخيمة السوداء العالية الركائز. علال فارس القبيلة و فخر أمه يتمدد في الركن الآخر ملتهبا بالحمى. أخبروه بقدوم الغضوية و رغبتها، فكشّر عن أسنانه و استوى جالسا بهامته العالية كنخلة من صحراء الجزيرة، مرتديا الطلس الأخضر و لفّ جسمه بالسلهام الأبيض و العمامة على رأسه المكدس شعرا. لمعت عيناه حربا و تحديا و هو يستحضر جثة الأخ المغدور و رأس القاتل المقطوع، و كلاهما لا يُنسيان. خَطَتْ نحوه، تشبه أمه المقوسة الظهر تحت ثقل الحزن و السنين التي حفرت الأخاديد و التجاعيد على الوجه الشبيه بمومياء. لمعت عيناها بغضب متسيب و هي تحدق فيه بحقد متجدد لا يُنسى. صاحت: -انت قاطع راس ولدي ليلة عرسو هاه؟ همس علال بتعب الموت: -انا هو! غرزت عينيها في عينيه للحظة، ثم همست: -بصحتك يا فارس بني عمير، الفارس للفارس، ما مات ولدي بيد الشمايت! في لحظة انهيار الحزن و الدمع و الفجيعة، ارتمت على صدره ببكاء مرّ و مرّ حتى نفذت الدموع الساخنة. قفزت عبشة غزة على الاثنين و بكوا ثلاثتهم مرارة و كوارث و حزن كل القبائل المتسيبة و سباياها و قتلاها و ثكالاها و يتاماها..كلّ بكى قاتله و قتيله. أخذت الغضوية رأس ابنها المقطوع و المغدور و غادرت خيام الدوار. و قبل أن تغادر ديار أولاد زيان، سقطت على وجهها ميتة و رأس ابنها مشدود إلى ظهرها. في اليوم التالي، لم تستيقظ عيشة غزة من نومها، فقد استراحت إلى الأبد.