متنهدا أذكر ذلك اليوم الذي لعبت فيه طويلا حتى ملني اللعب ،ركبت حمارا حرونا،سبحت في سواق هادرة،تسلقت أشجارا سامقة لتخريب الأعشاش،أضرمت النار في الهشيم لأشتم دخانها الأزرق،طاردت أرنبا وقتا أطول طوف بي في حقول شاسعة دون أن أظفربه...عند بزوغ شفق المغيب ، عدت إلى البيت خائرا أجررجلي كأنني قطعت طريقا مديدة في صحراء لافحة...بحنق رنا إلي أبي وهويتأهب لإرواء حصاننا الأدهم، ثم قال :لن تحلم باللعب بعد اليوم،لقد كبرت وبالأمس عاتبني فقيه الحومة قائلا:إلى متى سيظل الإبن يلعب ؟ اللعب زندقة ، والأندلس ضاعت من العرب جراء لهو ملوك الطوائف ،والمكان الطبيعي للولد هو الكتاب...في وجوم وقفت أمي ترمقني دون أن تقوى على الكلام ،وحتى إذا تكلمت لن يصغي لها أبي ،لأنه عندما يتكلم الرجال في القرية ، تخرس النساء..جف حلقي ومادت الأرض تحت قدمي، ولم أعد أرى حولي إلا قتامة تضخ صديدا في الصدر،حينئذ تمنيت لو تلتهمني الأرض لأبحث عن عالم آخر يحترم آدميتي... لما استعدت هدوئي، تساءلت لماذا أحرم من اللعب ويزج بي في الكتاب ؟أي ذنب اقترفت يا ناس لألبس الجلباب وأغض البصرمثل الكبار؟ بصعوبة هجعت في الليل، ورأيت في حلم أفعى رقطاء طويلة تلتف على جسمي، مطلقة فحيحا رهيبا،كلما صرخت تضغط علي بعضلاتها قاطعة أنفاسي، لكن وحده نباح كلب جارنا أيقظني مخلصا إياي من كابوس ثقيل. ومكافأة لهذا الكلب على جميل صنيعه، قطعت على نفسي وعدا مسؤولا: أن أجودعليه بعلبة سردين ونصف سطل لبنا ونصف خبزة مدهونا بالزيت البلدي. في صباح يوم دافئ من أيام شهر أكتوبر،ارتديت جلباب ابن أخي ،نقص أبي من طوله بمنجل ،وانتعلت صندلا أبيض معروفا ب"صندلة الخارج" كنا ننتعله في جيع الفصول مزهوين ونلعب به كرة القدم في ساحة وسط الدوار،غير أن الأطفال الذين يفترسهم الفقر، كانوا ينتعلون حذاء بلاستيكيا نسميه "باطا خنيز"رخيص الثمن ،مقرف الرائحة. صحبة أبي توجهت إلى الكتاب باكرا،ووجدتني لأول مرة أغارد البيت قبل أن تدب الحركة في القرية. في الطريق، كنت أخطو بطيئا وبصعوبة، كما لو أنني أمشي على الجمرمكبل القدمين..على رأسي ربت والدي وأوصاني قائلا:لن أصاحبك بعد اليوم،إياك والتلكؤ في الطريق،وإذا هاجمك كلب يلزم أن تجلس القرفصاء لينأى عنك. كان الكتاب بناء من طين بنته سواعد رجال من الحومة في ستينيات القرن الماضي،تقشرت بعض حيطانه وغدت مثل حصير باهت، تحيط به يمينا وشمالا بيوت ذات زرائب تحرسها بوفاء كلاب قنجورية"مكتعاتقشن"بل إن واحدا منها مختص في عض ساق كل من ينتهك حرمة الزريبة التي يسهر على خفرها،فلقبه رجل في حومتنا ب "عضاض السيكان". خائفا دخلت إلى الكتاب ،وببهوه كان الفقيه القادم من منطقة جبالة شمال المغرب ،يرتدي جلبابا رماديا،أبيض البشرة، خفيف اللحية والشارب ، متوسط الطول، حاد الأنف يقظ العينين ،يعتمررزة بيضاء حاملا سطل ماءصغيرا،وفي غرفة متواضعة، يقرأ "المحضرة"القرآن بأصوات عالية ،حتى تلتقطها آذان الجيران والمارة فيبجلون الفقيه أيما تبجيل، ويترحمون على الذين كان لهم الفضل في تحفيظه وتعليمه..لكزني أبي في كتفي ودعاني إلى تقبيل يد الفقيه ،ففعلت وأنا تحت تأثير رعشة عصفت بكامل جسمي، ثم تسمرت في مكاني أنظر مليا إلى نعش في زاوية من الكتاب..فكرت في الهرب لكن وجدتني عاجزا عن الركض ،حاولت أن أجهش بالبكاء، لكن دون جدوى ..ودع أبي الفقيه قائلا:لاتكن رحيما به ،أريده أن يكون فقيها لامعا ،له أتباع ومريدون في حلقات العلم وأماكن العبادة ،ويفتي في قضايا تهم المسلمين،وأسمع صوته على أمواج الإذاعة المغربية..على حصير بال متآكل، جلست وسط" المحضرة" منهم من يقرأ ويميل يمنة ويسرة مغمضا عينيه،ومنهم من يحرك رأسه أماما وخلفا،وثمة من يقرأ ضاغطا "الكراك" على اللوح.أي عنف هذا الذي يمارس على اللوح؟ ألا يليق الرفق بلوح يحمل كلام الله؟. دنا مني الفقيه ،وبقوة جذب أذني كي أجلس متربعا في مكان طاهر، ثم حدرني صارخا:لا أقبل الجسارة والخمول والسهو،لن أغفر لمن يلعب في الدوار،أن تحضر "الربعية" مساء كل ثلاثاء.آلمني ما سمعت فأحسستني في نهر لجي يجرفني نحو المجهول. في المساء ،خرجنا من الكتاب واجمين، شاحبي الوجوه كأننا كنا في جلسات تحقيق طويلة داخل محكمة ،وفي محيطه ألفينا رجال حومتنا يفترشون "تساريح" بالية ،يرتشفون كؤوس الشاي ويتكلمون في أمور دينهم ودنياهم في جلبة ..رفع أحدهم عقيرته وطالب بأفرشة بلاستيكية تليق بالكتاب ،لكن رجلا طاعنا في السن قال وهو يلوح بعكازه في الهواء:لا أوافق أبدا ،فالأفرشة التي تطالب بها يا رجل تصنع في "سرايل"،واليهود يبيدون بوحشية إخواننا في "فلا يسطين" ،فحل صمت القبور على المكان مزقه شاب مرقط الوجه كبيض السمان إذ انبرى قائلا:أية وكالة أنباء نقلت لك الخبر؟ كل ما في الأمر أن جيبك بخيل والله بخيل". تعالت القهقهات واسترسلت ،فاندفع الرجل الهرم هائجا نحو الشاب قائلا :البخيل هو أبوك الذي يمارس السمسرة في البشروالحيوان والعقار والحلزون.يمكنني إكرام أهل القبيلة وكلابهم وقططهم، ليضيف بعد أن سوى عمامته :واش تقدرنمشيونجاهدو فليهود أمنفوخ لحناك". في طريقي إلى الكتاب في اليوم الثاني ،عرجت باكرا على حانوت لأشتري الصلصال..ألقيت التحية على صاحبه فلم يرد،وحين طلبت منه أن يبيعني الصلصال ، أجاب عابسا "سر الله اتغسل بيه"..وأنا ماض إلى حانوت آخر،التقيت رجلا يقطن بحومتنا، فحكيت له ما سمعت من البقال..ربت على كتفي وقال :ذاك رجل غريب ياولدي،دائم العبوس،لايحضر أفراح وأتراح الدوار،يقسو على العباد والحيوان،فمرة وقف متسول أمام حانوته يطلب صدقة، فأخرج فأخرج فأسا من داره وهدده قائلا:سأحفر الآن قبرا عميقا،وإذاعدث ثانية أدفنك حيا". لما جفت لوحي، كتب عليه الفقيه حروف اللغة العربية بالخط العثماني، وكلف "محضار" بأن يلقنها لي ..قرأت الحروف ثم استظهرتها أمام الفقيه ،وعوض أن أتلقى تشجيعا هوى على الأرض بقضيب رمان، وقال بعدما حك أنفه "رجع لبلاصتك آلقرد"،ابتلعت ريقي وعدت إلى مكاني محطما،وفي قرارة نفسي قلت : ماذا لو أخطأت في القراءة والحفظ؟. في اليوم الثالث ،كان لي موعد مع" التحناش "، إذ خط الفقيه على اللوح آيات قرآنية وألح علي أن أكتبها بالصمخ ...سلمته لوحي، فتفحصه بعينين ضيقتين ثم لكز رأسي بقلم القصب لأني أهملت نقطة دال معجمة. في المنزل، أفتح المصحف وأقرأ سورا قصيرة بصوت عال ،محركا رأسي ذات اليمين وذات الشمال ،فتنظر إلي أمي مبتسمة وهي "تنخض الشكوا" وتقول :أسعدي بوليدي ،غيخرج فقيه،ولفقيه حاجتو مقضيا".وحين تفرغ من "النخيض"، تمنحني إناء لبن ونصف خبزة ساخنا محشوا بالسمن البلدي ..ودون أخذ استراحة قصيرة، تنهمك في طحن الشعيرفي رحى ،وهي تبكي راثية ابنها عزوزالذي رحل بسبب مرض لم تعرفه لا العائلة ولا الجيران. خلال أسابيع قليلة ،غدوت أقرأ جيدا،أجلس كل صباح أمام الفقيه لأستظهر المتن القرآني الذي يضمه لوحي، فأنصرف لمحوه بالصلصال ووضعه تحت أشعة الشمس حتى تيبس ويكتب عليه الفقيه متنا آخر...أخطأت مرة في استظهار الرحمان بسبب تكرار "فبأي آلاء ربكما تكذبان"، فاستقبل ظهري قضيب رمان طريا، نزل علي كقطعة نارراسما خطا أحمر استحال إلى زرقة استغرق محوها فترة أطول ،لكنها ما تزال محفورة في اللوح المحفوظ.فكرت في أن ألوذ بالفرار،لكن إلى أين؟ومن ترى يحتضنك إذا عرف أنك هارب من الكتاب؟وفي لحظة وجدتني أتساءل لماذا يعذبنا الفقيه متى يشاء ؟وكيف يشاء؟ وبأية وسيلة يشاء؟ لماذا ينتزع الفقيه تقدير السكان كلما تعالت أصواتنا في القراءة داخل الكتاب؟ هل يعلم آباؤنا أننا نقرأ ونحفظ دون فهم معاني الكلمات ومضامين الآيات؟ كان فقيهنا يحضر ولائم وأعراس القرية دون أن نسمع أنه أصيب مرة بالتخمة أو "جرات كرشو" وطالما تساءلت :هل لفقيهنا معدة فيل ؟ وكيف تطاوعه بطنه في أكل صحون المرق والكسكس والدجاج والفواكه ؟أية قوة غيبية تحميه من الإسهال والغثيان؟.وعرف عنه أنه يكتب للنساء تمائم في أوراق بيضاء بالصمخ أو بالزعفران،نساء مشكلتهن بكاء أبنائهن ليلا ،وأخريات إحساسهن بالدوخة يوميا بعد العصر ،ومعضلة بعضهن عنوسة بناتهن .ومقابل كل تميمة يستلم دراهم أو دجاجة أو ديكا او "قالب سكر".. مرة خفضنا أصواتنا حالما انفرد الفقيه بامرأة أرملة تلتحف إزارا في ركن من الكتاب عل آذاننا تلتقط لغة غزلية ،ولما صمت جلنا ودع زائرته مكرها ..نظر إلينا نظرات شجراء وصدره يعلو وينخفض ،لحظتها أدركنا أن البحر هائج ..نادى على أكبر محضار فقال:أعرف أنك لا تكذب ،من كان بالأمس يلعب منكم في الدوار؟ فورا أجابه مطأطئا رأسه ،"انعماس"،حسن هو اللي كان كيلعب حد دار ديك لمرا اللي كنت كتهضرمعاها"..ذكرنا أن اللعب حرام ثم صوب تيمومة ملساء إلى بطن حسن.،عرقت جبهة زميلنا ،اصفر وجهه،يبست شفتاه،تألم المسكين في صمت،وتأسفنا له ،لكننا عاجزون عن رد الاعتبار إليه ... وقف الفقيه أمامنا متوعدا بتقطير" الميكا" على بطوننا إذا حاولنا التجسس مرة أخرى عليه ،لأنه حامل القرآن ويخاف خالق السماوات والأٍض.وبفعل الخوف وصعوبة التنفس ضرط محضار،فرفع "المحضار "الذي لا يكذب سبابته وقال :"انعماس فريد طردك المعيزة".فار الفقيه غضبا وبعدما بصق قال:"ألحيوان ماشي فكوري ديال لبهايم"، وأمر ب"تحمال لكلب"،فرفعه أربعة" محضرة "وشرع الفقيه ينهال على مؤخرته وظهره بقضيب رمان، غير آبه بتوسلاته وصراخه..ولم يتوقف عن إشباع ساديته إلا بعد أن سمع دقا على الباب، ظنا منه أن امرأة تريد تميمة أو محسنا يحمل طعاما . لكن في غفلة الفقيه فرفريد مرددا"، والله إيلا بقيت عتبت فيها ،مالك كتقرينا الدمياطي". غبطت فريد على تمرده البطولي ،متمنيا لو أكون مثله لأنتشل نفسي من الجحيم المبين، وأعود إلى الطفل الذي كنته ،أخرج من البيت وأعود إليه متى أريد .أن تتوق إلى شيئ جميل وتجد أنك مغلول،تلك هي التراجيديا. بفريد، التقيت أحد المساءات ،وكان عائدا من حقل أبيه يقود قطيع أبقاروثيران،فقال بعد أن تعانقنا :الكتاب سجن وجهنم حمراء،والفقيه جلاد خطير..في الطبيعة وجدت الحرية أصفر،أغني ،أتبول أين أبتغي،أتفيأ بظلال الأشجار،أتوسد البادو وأمدد رجلي،و في منتصف النهارأصطاد الحمام وأشويه، وبحليب البقرة وحليب "قران الكرموص" أصنع جبنا طبيعيا لذيذا..تمنيت البارحة لو يهجم ثورمن هذه الثيران على الفقيه، ويحمله بقرنيه ثم يطوح به على أرض صلدة، حتى إذا أغمي عليه ،أسارع لأقرأ عليه سورة الرعد كي يستفيق.تحرر فريد من الكتاب وأضحى يخرج يوميا إلى الطبيعة حيث الماء والأشجاروالطيورو"الكرنينة والتفاف وباحمو وشحيمت الفلوس واعنيب الديب وأوذينت لعبورة وبلعمان والشرياط وبعبو والحريكة والحارة و وبوسيبوس"لكنني رثيت لطفولتي التي انتهكها الكبارجورا، دون أن أجد من يخرج شاهرا سيفه ليدافع عن حقوق الصغار ،وسيظل ماضي الجميل ،هو ذاك الذي سبق التحاقي بالكتاب،فكيف صرت رجلا وأنا مازلت طفلا؟ أصيلة 04/08/2014