لم يكن يوجد في المكان ما يشد الانتباه أو يثير الفضول، حتى يلتصق رجل ما بكرسي ما في مقهى ما. طوال ساعات متعاقبة من الزمن، فقط ضجيج يخترق شبكة الأذن ودخان منبعث من السيارات والدراجات النارية، ولأن المقهى بالقرب من مفترق الطرق، فقد نالت المقهى قسطا وافرا من لعنات شرطي المرور الذي أصبح ماهرا في إلتهام لوحات السيارات خصوصا المرقمة بأرقام أجنبية. أجلس في المقهى المعتادة أطارد صفحات الجرائد، يلتفت إلي النادل بنظرة لا تخلوا من ابتسامة مصطنعة، كأنه يحرضني على طلب فنجان قهوة، أتحاشاه بامتياز، تطول الساعات، أسد بحروف عميقة مربعات الشبكة المسهمة والنادل لا زال يحييني بابتسامته، استسلم أخيرا لهذه الابتسامة ثم يقرر فنجان القهوة أن يشربني بعدما داهمت جيبي بعنف. كراسي متناثرة هنا وهناك وجثث ضخمة تتعبها بقسوة كأن المازوسية تسكنهم أو تسكنني أنا على نحو مازوسي ونادل بسيط في تحيته كلما استقبلني قال:" سلام" ثم أقول في نفسي:" سلام إنا منكم وجلون". أتناول فنجان القهوة بطريقة بطيئة جدا ثم يشد انتباهي موضوع بالجريدة يتحدث عن الولادة الثانية وكيف أن الإنسان يمكن أن يستيقظ من تحت التراب بنفس الصفات والملامح ليعيش حياة ثانية بطريقة ثانية، قلبت الصفحة دون أن أبالي وأنا في نفسي شيء منها. هم الآن ينظرون إلي بقوة: جيراني على الكرسي، النادل، صاحب المقهى... لأني تجاوزت حصتي في الجلوس، حتى الشرطي لم أسلم من مراقبته إياي أو قل يراقبني كي يطمئن قلبه، ربما هو الآخر تجاوز حصته في الديمومة أو بالأحرى تجاوز حصته في فناجين القهوة التي يأخذها من أصحاب السيارات وخصوصا المرقمات بأرقام أجنبية...... في ذلك الصباح تناهت إلى مسامعي حركات ثقيلة، تكاد تشبه صوت الجرار وهو يقلب بمخالبه الأرض، أصوات غريبة وصليل السيوف... لم أعط للأمر كثير اهتمام فتظاهرت بالنسيان، لكن الأمر كان ملحا ولما لا والمشهد هذه المرة أمام ناظري كأن الستار قد رفع تحت تصفيق الجمهور عن مسرحية غريبة، غريبة في ممثليها وقصتها ومشاهدها. جيش عرمرم مكون من آلاف الجنود، أوله عندي وآخره ببوابة المدينة، سيوف تلمع لمعانا وأحصنة زركشت بسرج كالعرائس تجر أذيالها، يمتطونها جنود بلباس أثقلته أسلحة بيضاء. وأحزمة لا تختلف كثيرا عن حزام شرطي المرور الذي تسمر أمامهم دون حراك وعيناه جاحظتان. تراشق الناس بعضهم بكلام المقاهي بعدما احتاروا في أمر هذا المشهد: -" لعله استعراض": يقول قائل. ثم يرد آخر : - "بل تصوير لفلم تاريخي". وقف الجيش وقفة رجل واحد ثم انبرى قائد من بينهم بعدما رفع يديه إلى الأعلى، استل رسالة مكتوبة على جلد الحيوان فطفق يقرأ على مسامعنا هذه الكلمات: من "عبد الله ابن ياسين"، سلطان المرابطين المؤيد بنصر الله إلى مسئولي قبيلة بني عمير. أما بعد: أيها الناس فلقد علمني شدة ترفكم وحبكم للشهوات، ووضاعة أخلاقكم وامتناعكم عن دفع الزكاة والإتاوات وأنتم تحت رعاية المرابطين وهم أهل زهد وتقوى،وقد أكرمكم الله بثروات الفوسفاط النائمة تحت هذه الأرض فنهرتم السائل وقهرتم اليتيم ولم تحضوا على طعام المسكين. فأرسلت أنا القائد "يوسف بن تاشفين" لأذيقكم لباس الجوع جزاء بما كنتم تصنعون ». لم يكن يخفى على هذا القائد أو ذاك أن الناس في بني عمير ينامون على الطوار تحت ضوء القمر، يأكلون من الخشب، يسمعون وعودا من خشب، يلتقطون الدراهم من الأرض، يلمعون أحذية الكبار بمهارة وهم يبتسمون لأن بني عمير: مرى حرة فيها الطير يغرد من بلاد لبلاد منها مروا جدودي وفيها كبروا لولاد بني عمير مرى حرة فبها ريحة الرمان تنادي التبوريدة والخيل لدهم وحجر الواد بني عمير مرى حرة الخلخال في الرجلين والكحل في العين سايل مداد بني عمير مرى حرة لدين منقوشين وخيرك مضمة محزم بيها غيرك. استيقظ أخيرا شرطي المرور مما أصابه من ذهول المشهد فبعث خطابا على وجه السرعة عبر اللاسلكي إلى القيادة للإعلام: "آلفا 92 أكرر آلفا 92. رجال بأسلحة بيضاء وخيول تقتحم المدينة، حول" تكررت رسالة الشرطي عدة مرات ويوسف بن تاشفين ينظر إلى اللاسلكي في انبهار تام. كان يوسف بن تاشفين قوي البنية، طويل القامة، عظيم الطلعة، بلحية كثة وعمامة بيضاء ولباس أبيض زاده وقارا، بينما تقف إلى يمينه زوجته "زينب النفزاوية" وهي امرأة يخالطها ذكائها كثير من الدهاء، امرأة جميلة وعينان واسعتان تغرد فيهما كل الأبراج والقلاع التي ساهمت في فتحها، لحم مكتنز يرج الأرض رجا لكنه يكاد يتلاشى أمام رشاقة جسدها. ولما لا إنها زينب التي بنت الإمبراطورية المرابطية في الوقت الذي كانت النساء تهدم هذه الإمبراطوريات بأجمل الابتسامات. ربما عندما توفي زوجها الأول هيأت أمام زوجها الثاني عبد الله بن ياسين كل ثروتها لتبني دولة حكمت أجناسا بشرية مختلفة بيد من نار ودخان، حتى امتدت للأندلس، ليتزوجها يوسف بعد أن طلقها ابن عمه قبل أن يقصد الصحراء ظنا منه أن لن يقبل أرض مراكش من جديد. تكدست السيارات في مفترق الطرق رغم إشارة المرور الخضراء التي اعتقدها يوسف نوعا من التواصل بين العدو، أخرج سيفه البراق ثم هوى عليها... إنه الريب في أمر العدو، ولكنها حكمة يوسف'يقطع التموين، يفرق الجيش الواحد إلى جيوش لتسهيل النصر. بعد هنيهة قليلة يقف العميد بلباسه العسكري وهاتفه اللاسلكي، لم يحفل بالأمر بل اعتقد فقط أن جمعية المجازين المعطلين في مسيرة احتجاجية كالعادة وهذا اعتقاده. كان القائد يوسف يكبر الله تكبيرا لكنه تنبه إلى أن الأمر يحتاج إلى شيء ما، وأن الله لن يساعد المتواكلين أمام أشياء كثيرة تحدث أمامه لأول مرة وبالألوان، حتى صار في شبه يقين أن الشياطين تحارب مع العدو لأنهم أمة لا يتطهرون. انتصب عميد الشرطة وقوات التدخل السريع وكأنهم ينتظرون هطول مطر فارق الأرض منذ وصول الشياطين إليها، بينما كان القائد يوسف يتأمل العمود الكهربائي كانت الجياد تصدر صهيلها المدوي كلما دنت منها سيارة ما. فجأة اختلطت النبال بالعصي والسيوف بالرصاص وسيارات الأمن المصفحة تدهس الجنود و الجياد، ويوسف يجاهد في سبيل الله وهو يكبره، وبعدما خارت قوى كلا الجيشين تراجعا إلى معسكريهما ويوسف يصيح في وجه قائد الشرطة بصوت تكاد الجنون تسترق السمع إليه: أيها القائد: " نحن لا نشرب الماء في كؤوس من ذهب". كان هذا آخر ما سمعته، بعد ذلك تناهت إلى أذني صرخات أمي وهي تناديني" استيقظ إنها الثامنة". حميد المعروفي الفقيه بن صالح 15 نونبر 2012