في مكان مفعم بالحركة والرواج التجاري، أجساد تملأها الحيوية والنشاط، وأمام شاشات تلفزية اختلطت مع صناديق الخضر والفواكه، جلس مجموعة من الشباب، تتراوح أعمارهم بين 16 و34 سنة، يشاهدون أفلاما مليئة بالحركة، أميركية وهندية ويابانية في مقاهي شعبية.تصوير (أيسبريس) المكان ليس سوى "سوق الجملة" بالدارالبيضاء، أكبر الأسواق في المغرب، الذي تدخل إليه مختلف الخضر والفواكه من كافة المناطق والمدن المغربية، لتلبي حاجيات المدينة مترامية الأطراف، خضر وفواكه متنوعة الأشكال والأنواع، وتجار وعمال وباعة متجولون يملأون فضاء سوق الجملة العاصمة الاقتصادية، ما يخلق حركة غير عادية في السوق، كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، وفي مكان يبدو كالقبو اجتمعت وجوه أنهكها التعب والسهر. الفرجة للجميع وجوه انقشع بريقها وجفت ملامحها، كانت عيونهم جاثمة مخطوفة مشدودة إلى شاشات التلفاز، لا تريد أن تضيع لقطة واحدة من الفيلم، إنه مقهى من بين مقاهي عديدة تنتشر داخل سوق الجملة، يجد فيها العمال بالسوق وزواره من أبناء ضواحي المدينة وبواديها، المتنفس الوحيد لهم بعد العمل الشاق، الذي يمتد طول الفترة الصباحية. رواد هذه المقاهي أناس ذوو خبرة في الأفلام المعروضة، لكنهم يتذوقون ما جاد به الفن السابع من أفلام بطريقتهم الخاصة، كما أنهم لا يجهلون كليا التطور، الذي عرفته السينما المغربية وخاصة العالمية منها، رجال ونساء قادهم بحثهم عن لقمة العيش إلى هذا السوق، الذي يكتنز مفارقات صارخة لا يعلمها إلا من مر عليه زمن طويل وهو في السوق. في هذا الأخير هناك الغنى الفاحش إلى جانب الفقر المدقع، كما توجد بالسوق أمكنة نظيفة راقية لا يدخلها أصحاب الوزر الزرقاء و"الحمالة"، إلا وهم محملون بسلع من الخضروات والفواكه، أو في مهمة خاصة قد تحمل أنباء سارة أو محزنة لكبار تجار السوق، وأماكن أخرى تفوح رائحتها الكريهة على بعد أمتار، تعيش على وقع الفوضى والضجيج، وصخب مستمر على طول اليوم ومن الساعات الأولى للصباح، ومقاهي راقية وأخرى لا تكاد تميزها عن الإسطبلات. مأكولات حصرية في ربوع هذا السوق تنتشر مقاهي الفرجة اليومية، التي لها زبناؤها الخاصون والمتميزون، وخدماتها لا تقتصر فقط على تقديم المشروبات من القهوة والشاي، بل تتجاوزها إلى أكثر من ذلك، إذ تقدم لروادها من زوار وعاملين بسوق الجملة، خدمات لا توفرها المقاهي الأخرى، ومن بين هذه الخدمات عرض الأفلام السينمائية الهوليودية والهندية، التي قد لا تعرض أحيانا في القاعات السينمائية، وتحظى هذه المقاهي بالعرض الحصري لها، كما أن هناك مأكولات لا تجدها في أرقى المطاعم ك "البيصارة والمسمن بالشحمة والحريرة..." مقاهي متعددة الوظائف، متجددة الخدمات، قد تجد فيها راحتك في عالم يسافر بك إلى بعيد، يحملك حيث لا مكان للهموم والمشاكل، لتنعم براحة نفسية على إيقاع موسيقى صاخبة للشاب بلال وأغنيته "واعرة ياودي كولنا واعرة"، لتطلق العنان لأحلام اليقظة، تسافر من خلالها إلى أبعد الأقطار، وترتدي أجمل الثياب، وتركب أفخم السيارات، كل ذلك وروائح "المسمن والحرشة" تخترق أنفك وروائح الخضر من الطماطم والبصل الطازجة تغمر المكان، ممتزجة بدخان السجائر و"الجوانات والشقوفة"، وضجيج التلفزيونات وشخير بعض العمال، الذين أنهكهم العمل خلال ساعات الصباح الطويلة، ليستسلموا للنوم في الزوايا المظلمة بالمكان. لا غلى على مسكين في المقهى جلس ثلاثة أصدقاء، حميد ونور الدين ورضوان، يتبادلون أطراف الحديث، وقهقهاتهم تخترق آذان الحاضرين، والسبب كان لقطة ساخرة من الفيلم، لم تضحك إلا الأصدقاء الثلاثة، التي يبدو أنها ذكرتهم بموقف طريف حدث لصديقهم رضوان، بينما كان باقي رواد المقهى يتابعون الفيلم باهتمام بالغ، لا يريدون تضييع لقطة من لقطاته، الذي كانت أحداثه الشيقة تسلب الجالسين. كان الفيلم هو"أبو كليبتوس" للمخرج الأميركي "ميل كبسون"، الذي يحكي قصة قبيلة من الهنود الحمر تعرضت لهجوم شرس من قبل أحد زعماء قبيلة أخرى معروفة بجشعها، الفيلم حائز على جوائز عديدة، وإلى وقت قريب تنافست القاعات السينمائية الوطنية وحتى الأجنبية منها على عرضه، لكن مقاهي "سوق الجملة" كانت هي السباقة إلى عرضه ولمرات عديدة، في نسخته المقرصنة، ما أتاح لرواد المقهى فرصة الاستمتاع بأفضل ما أنتجته السينما الأميركية بثمن لا يتعدى الخمسة دراهم، وهو ثمن القهوة أو "براد أتاي" الدافئ، الذي يجتمع حوله ثلاثة أو أربعة أصدقاء لأخذ قسط من الراحة، ومشاهدة آخر الأفلام السينمائية. يقول رضوان 28 سنة، والذي كان جاثما أمام التلفاز بوجهه الترابي "جاء إلى هذه المقهى بعد ساعات طويلة من العمل أقضيها هنا بالسوق، فأنا أشتغل حمالا وأباشر العمل منذ الثالثة صباحا، كل يوم أحمل صناديق البطاطس والطماطم من شاحنات الفلاحين إلى "هوندات" التجار الصغار، وبعد لحظات العمل المضنية ألتقي بالأصدقاء في المقهى، نشاهد الأفلام ونشرب القهوة، ونتكلم في تفاصيل يوم شاق من العمل، لننسى الهموم والمشاكل". إلى جانب الأفلام والقهوة، التي تتيحها مقاهي "المارشي كريو"، الاسم الذي يشتهر به السوق لدى سكان المدينة الاقتصادية، تتيح مقاهي السوق وجبات يومية كالفطور والغذاء، ووجبات خفيفة بثمن مناسب يستجيب للقدرة الشرائية الضعيفة لرواد هذه المقاهي، إضافة إلى ألعاب الفيديو وألعاب أخرى ك "البلياردو والكولفزير والفليبير". قائمة المأكولات متنوعة في هذا الفضاء المتعدد الخصائص والاستعمالات، إذ تضم وجبات مغربية صرفة ك"الحريرة" و"الشاي" و"المسمن" والحوت المقلي و"الطاجين"، تشغل المقهى الواحدة ثلاثة أشخاص، بينهم طباخة ونادل وقابض، ويبدأ العمل في الرابعة من صباح كل يوم، وينتهي في حدود الخامسة مساء، يقول محمد، الذي طغت اللكنة الأمازيغية على كلامه "حنا كنديرو كولشي، من أتاي حتى الطواجن"، وأضاف "منذ عشرين سنة وأنا أشتغل في هذه المقهى، كما أن ابني البكر التحق ليعمل معي في المقهى، بعد أن فشل في إكمال دراسته". ساحة التجارب تنوع الخدمات والمأكولات بمقاهي سوق الجملة، يوازيه تعدد وتنوع رواد هذه المقاهي، فيمكن أن تجد إلى جانب العمال من "الحمالة" المنهكين، أشخاصا تتحدث ملامحهم، والندوب التي تملأ وجوههم وأجسادهم عن معارك طاحنة ومواجهات عنيفة لم يفلح الزمن في محو معالمها، أشخاص يصنفون ضمن أخطر زبناء هذه المقاهي، يتخذون من المكان ملاذا آمنا يقتسمون فيه ما تمكنت أجسادهم ذات لياقة عالية، التي تتسلق أماكن يصعب دخولها، وأياديهم الرشيقة (الخشنة) من سرقته، أو لالتقاط الأنفاس بعد محاولة سرقة فاشلة أو مثمرة، أو لإعداد خطط محكمة لا تخلو من مشاهد مقتبسة من الأفلام السينمائية التي يشاهدونها في المقهى، ليتحول السوق وأجنحته الكبيرة، إلى ساحة لتطبيق المشاهد الهوليودية على أرض الواقع. التوافد على المكان تحول لدى البعض إلى إدمان، إذ لا يمكن أن يمر اليوم دون أن يجلس بعضهم ولو لدقائق على كراسي هذه المقاهي، التي يثير صوتها عند احتكاكها بالأرض حين الجلوس والوقوف استهجان وقلق المتتبعين لتفاصيل الأفلام البوليسية المشحونة بالحركة. يقول نور الدين، الذي يناديه أصدقاؤه ب "نويرة"، بوجهه البشوش وعينيه الغائرتين "أنا آتي إلى هذا المقهى بشكل شبه يومي بعد إنهاء عملي، إذ لا يمر يوم لا أجلس فيه على كراسيها، التي اعتدت ضجيجها"، ما أن أنهى "نويرة" حديثه حتى هم بالخروج طالبا النادل بحركات غير مفهومة، والتي كانت تؤشر بأن يسجل ثمن الجلسة في دفتر الديون إلى موعد لاحق، ليستقبل النادل الرسالة المشفرة، التي اعتاد على رؤيتها بتأفف وعدم رضى، تتيح المقهى لزبنائها المياومين تأجيل أداء ثمن القهوة إلى مواعيد لاحقة، قد تطول في بعض الأحيان ليفقد صاحب المقهى الأمل في استرجاعه، وتأدية المدينين لما عليهم من ديون، ويفوق الدين في أحيان كثيرة 250 درهما للزبون، كأقصى حد ممكن. يقول حماد باستغراب، وبصوت مرتفع "هناك بعض الزبناء سامحهم الله، يجعلوننا نثق فيهم، ونتركهم يشربون قهوتهم اليومية، دون أن يؤدوا ثمن القهوة إلا بعد أيام، إلا أنهم يفاجئوننا بعد فترة قصيرة بالاختفاء عن الأنظار، تاركين وراءهم ديونا متباينة". رحلة البحث عن العمل تجمع هذه المقاهي بين أشخاص متنوعي المزاج، ومتعددي المهن ومختلفي الأصول، إذ أن أغلبهم جاء من البوادي المجاورة لمدينة الدارالبيضاء، قادتهم رحلة البحث عن العمل إلى ولوج سوق الجملة، وامتهان مهن قد لا تناسب مؤهلاتهم وآمالهم، يقول حميد 35 سنة مجاز في القانون العام، تحدث بحرقة عن معاناته، وبجرأة عن مطالبه، (تكلم بصيغة الجمع) قائلا "إننا نعاني الأمرين في هذا المكان، فهناك من لا يوفيك أجرك، وآخر يسبك ويشتمك وآخرون يتهمونك بالسرقة". ويضيف "قادنا حظنا العثر إلى هذا المكان، الذي لم أضعه في قائمة الاحتمالات بمخيلة، آتي كل يوم إلى هذا المكان لأشرب فنجان قهوة، وألتقي ببعض الأصدقاء لأنسى الهموم، التي لطالما أفسدت جلسات استراحتي"، قصص غريبة وأخرى محزنة قد يفوق مستواها في أحيان كثيرة قصص الأفلام، التي تعرضها هذه المقاهي لزبنائها الخاصين، ليجد روادها ذاتهم في هذه الأفلام، التي تحكي جلها قصصا لصراع الخير والشر، لتتحول إلى موضوع تناولهم اليومي أو فاتحة لنقاش، يتحول أحيانا إلى معارك طاحنة. يجد فيها العمال بالسوق وزواره من أبناء ضواحي المدينة وبواديها، المتنفس الوحيد لهم بعد العمل الشاق، الذي يمتد طول الفترة الصباحية.