فى كل مترو عربة مخصصة للسيدات غير مسموح للرجال بدخولها، لكن بعض الرجال يخالفون القانون ويستعملون عربة السيدات. حدث مرة أن اعترضت شابة على ركوب الرجال فى عربة السيدات وأصرت على نزولهم، حاول الرجال إسكاتها لكنها اتجهت إلى باب العربة ومنعت إغلاقه بيديها ما أدى إلى توقف المترو الذى لا يتحرك حتى تغلق الأبواب جميعا. حاول الرجال جذب الفتاة بعيدا عن الباب لكنها تشبثت به، عندئذ حاول أحدهم ضربها لكن بضع شابات فى سنها دافعن عنها ورحن يطلبن من الرجال مغادرة العربة، وأخيرا ظهر مسؤول المترو فانحاز للرجال وحاول إقناع البنات بتقبل الأمر لكنهن رفضن تماما، ما اضطره فى النهاية إلى إنزال الرجال من العربة، وانطلق المترو بعد أن انتصرت البنات وانتزعن حقهن بأيديهن.. هنا بدأت السيدات الأكبر سنا فى توجيه اللوم للبنات وتعاقبت تعليقاتهن الساخرة من نوع: - استفدنا احنا إيه من وجع الدماغ ده كله غير التعطيل؟
- إنتم عاوزين الكون يمشى على مزاجكم؟!
عندما وجد مسؤول المترو أن الرأى العام بين السيدات ضد ما فعلته البنات، سمح فى المحطة التالية بدخول الرجال ثم نزل من العربة ليعود كل شىء كما كان.
هذه الواقعة حدثت منذ أيام وهى تحمل دلالات مهمة. فهناك الرجال المتبلدون الذين لا يحترمون القانون إلا إذا خافوا من العقاب، وهم- بالإضافة إلى همجيتهم وأنانيتهم- يحملون احتقارا عميقا للمرأة، فلا مانع عندهم من الاعتداء باللفظ واليد على من تطالب بحقها. وهناك الإدارة الحكومية البليدة التى ورثناها من عصر مبارك متمثلة فى مسؤول المترو المهمل الذى يحمل ثقافة رجعية تجعله ينحاز للرجال ضد المرأة حتى لو كان الحق معها. أما الأهم فهو التناقض فى السلوك بين الشابات والسيدات اللاتى يكبرهن سنا. البنات قررن أن يأخذن حقوقهن بأيديهن وخضن المعركة ببسالة حتى انتصرن، أما السيدات الكبيرات فهن غارقات تماما فى شؤونهن الخاصة وليس لديهن فائض طاقة للاهتمام بمثل هذه المعارك، وقد امتنعن عن مساندة البنات فى موقفهن، فكانت النتيجة أن عاد كل شىء إلى حاله. البنات ينتمين إلى جيل الثورة والسيدات ينتمين إلى جيل الكبار، والفرق بين الجيلين شاسع.. أعرف أن التعميم خطأ، فهناك شيوخ كثيرون لا يقلون عن الشباب فى حماسهم للحق، كما أننى لا أعادى جيل الكبار الذى أنتمى إليه بحكم السن، ولا أظن أن الآباء يزعجهم أن نمدح أبناءهم، لكن الواقع أن فى مصر جيلين مختلفين تماما فى الرؤية والثقافة والمشاعر والسلوك.. الكبار عاشوا وتزوجوا وأنجبوا تحت وطأة نظام مبارك الفاسد الاستبدادى ولم يفكروا قط فى الثورة ضده، تعلموا كيف يتواءمون مع الواقع حتى تستمر الحياة، كانت أمامهم اختيارات ثلاثة: الانسحاق أو الفساد أو الهرب.
إما أن يستسلموا لمعاناتهم أو يتحولوا إلى فاسدين أو يهاجروا إلى الخليج حيث يعملون تحت وصاية كفيل كثيرا ما يتحملون غطرسته واستيلاءه على حقوقهم حتى يعودوا إلى مصر بمبلغ من المال يكفيهم شر العوز.. الكبار لم يتمردوا ولم يحتجوا. كان العمل بالسياسة بالنسبة لهم قمة الحماقة، وكانت نصيحتهم لأولادهم أن يبتعدوا عن السياسة ويمشوا جنب الحائط، ويستذكروا ويتخرجوا ثم يحصلوا على عقد عمل فى الخليج يكفل لهم الثروة. الكبار نادرا ما اهتموا بالشؤون العامة، وكانوا دائما نموذجا للمواطن المنكفئ على ذاته الذى ينحصر اهتمامه فى بيته وأسرته، الذى لا يذهب أبدا للإدلاء بصوته فى الانتخابات، لكنه يأخذ إجازة من عمله حتى يكون بجوار ابنته فى الإعدادية، الذى يحرص على نظافة شقته لكنه يلقى بالقمامة فى منور العمارة لأن أى مكان خارج نطاق شقته لا يعنيه، الذى ينظم جمعيات مع زملائه فى العمل حتى يقبض مبلغا محترما لكنه يتهرب دائما من دفع أى مصاريف فى العمارة التى يسكنها.
جيل الكبار كان منزوع الوعى السياسى، عاجزا عن العمل الجماعى، لا يعرف من النضال سوى أكل العيش. كان من الطبيعى أن ينجب الكبار أبناء يشبهونهم.. كل الدلائل كانت تؤكد أن جيل الشباب سيكون أسوأ بكثير من الآباء، فقد نشأوا فى واقع قبيح وعشوائى بلا مشروع قومى ولا قدوة ولا إعلام محترم ولا تعليم جيد، ثم جاءت ثورة يناير فظهر جيل من الشباب كان بمثابة الطفرة، الطفرة فى علم الأحياء جيل من الكائنات يكتسب على غير توقع خصائص جديدة لم تكن موجودة فى الأجيال السابقة. رفض هؤلاء الشباب أن يتواءموا مع الفساد ورفضوا الهجرة وقرروا أن يغيروا الوطن بأيديهم. كان الشباب يحملون ثقافة مختلفة عن آبائهم. إن دائرة انتمائهم أوسع بكثير من الأسرة وهم يهتمون بالسياسة ويعتبرون أن الإصلاح يبدأ بتغيير النظام، وأن الدولة الديمقراطية هى طريق التقدم.
إنهم لا يعتبرون الإذعان حكمة، ولا الجبن عين العقل. الآباء الذين يخافون من دخول أقسام الشرطة أنجبوا أبناء رأيناهم أثناء الثورة يقفون أمام مدرعات تطلق عليهم الرصاص فلا يتراجعون ولا يهتزون. الآباء الذين عاشوا يتمنون رضا الرؤساء وصداقة الكفيل أنجبوا أبناء أجبروا حسنى مبارك على ترك السلطة، ثم أجبروا المجلس العسكرى على إحالته للمحاكمة وإلقائه فى السجن. إنها معجزة مصر التى تأبى إلا أن تنقل خصائصها الحضارية ليحفظها جيل جديد. 60 فى المائة من المصريين أعمارهم أقل من 29 عاما ما يعنى أن الشباب يشكل الأغلبية، لكن الكبار مازالوا يتحكمون فى كل شىء. الشباب يثورون ويموتون بالرصاص ويفقدون عيونهم بالخرطوش لكن الكبار هم من يحصدون ثمرات تضحيات الشباب فيصلون إلى سلطة لم يفعلوا أى شىء لكى يستحقوها. ثم هم فى السلطة يتنكرون لمبادئهم ويتحولون إلى موظفين يضعون أنفسهم ملك يمين فخامة الرئيس. على مدى ثلاثة أعوام كان الشباب يحذرون من عواقب أشياء تحدث فيسخر منهم الكبار ثم يكتشفون أنهم على حق بعد فوات الأوان.
الشباب رؤيتهم واضحة وهم يرفضون الحلول الوسط، والكبار متمرسون فى قبول الحلول الوسط حتى تسير العجلة. بالطبع ارتكب الشباب أخطاء لكنهم كانوا دائما يفهمون ما يحدث على نحو صحيح، بينما يغوص الكبار فى تهاويم النظريات أو تمنعهم شهوة المناصب من قول الحقيقة. الشباب يرفضون أى تنازل عن مبادئ الثورة، بينما الكبار يساومون دائما ويقبلون أنصاف الحقوق فتضيع الحقوق كلها.
الكبار قبلوا إعطاء مبارك فرصة ستة أشهر لكن الشباب أصروا على رحيله ولولا إصرارهم لما رحل. طالب الشباب بمجلس رئاسى بدلا من المجلس العسكرى وقبل الآباء حكم المجلس العسكرى ودفعت مصر كلها ثمن فشله الذريع. حذر الشباب من أن المجلس العسكرى يقود الثورة المضادة فلم يصدقهم الآباء وتحمل الأبناء مذابح عديدة دافعوا أثناءها ببسالة عن الثورة ومنعوا إجهاضها، بينما راح الآباء يلقون باللوم على الضحايا وينكرون جرائم رأوها بعيونهم لأنهم لا يتخيلون حياتهم إذا حرمهم المجلس العسكرى من رضاه.
ثم تولى الإخوان الحكم وأسفروا عن وجههم القبيح فراح الآباء يلعنون الثورة ويصرحون بحنينهم لعهد مبارك لأنه مهما نهبهم وأذلهم وأفقرهم فقد كان يوفر لهم الأمن والاستقرار. أما الشباب فقد قرروا خلع مرسى كما خلعوا مبارك وشكلوا حركة تمرد التى نجحت فى جمع ملايين التوقيعات، ثم احتشد الشعب يوم 30 يونيو وانحاز الجيش للشعب وأزاح الإخوان، ثم ظهر فلول نظام مبارك ليتصدروا المشهد، وبدأت حملة قمع الحريات وتوالت الملاحقات الأمنية لشباب الثورة وتم إلقاؤهم فى السجون.
هنا تجاهل الآباء الممارسات القمعية لأنهم تربوا على شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، وحيث إن الدولة تحارب الإرهاب فمن حقها، فى رأيهم، أن تفعل بالمواطنين ما تشاء، أما الشباب فقد رفضوا هذا المنطق، وأكدوا أن الحرب على الإرهاب لا تبرر قمع الأبرياء، ثم بدا أن المشير السيسى هو رئيس مصر القادم، فهلل الكبار وانهمكوا فى صناعة فرعون جديد تماما كما فعلوا مع كل من حكم مصر.
أما الشباب فقالوا إن السيسى قام بعمل بطولى وهو عسكرى شجاع لكنهم لن يوقعوا على بياض لأى شخص، وطالبوا بانتخابات ديمقراطية يتساوى فيها السيسى مع بقية المرشحين فى الحقوق وفرص الدعاية، وطالبوا بأن يعلن المشير السيسى عن ثروته مثل بقية المرشحين، وهنا انطلقت حملة إعلامية مسعورة ضد كل من يطالب بانتخابات نزيهة يتساوى فيها السيسى مع الآخرين، وامتد الأذى ليلحق كل من يفكر فى الترشح لمنافسة السيسى حيث يتم فى التليفزيون التشهير به وإهانته والسخرية منه.
بعض وسائل الإعلام مملوكة لرجال أعمال من رموز نظام مبارك وهم متمسكون بترشيح السيسى لأنهم يعتقدون أنه لن يحاسبهم على جرائمهم وثرواتهم المنهوبة من الشعب، وإعلام الحكومة لا يعرف إلا تمجيد الرئيس والإشادة بحكمته وعبقريته. بالإضافة إلى حملة من إعلاميين معروفين بعلاقتهم الوثيقة بضباط أمن الدولة يتم فيها انتهاك أعراض الناس فى التليفزيون بإذاعة تسجيلات خاصة لا يعرف أحد مدى صحتها بغرض التشهير بالشباب الذى غير مصر كلها بشجاعته، بينما كان هؤلاء الإعلاميون يتمنون مجرد ابتسامة من سوزان مبارك ويرتجفون رعبا أمام جمال مبارك. الحملة خارجة عن الأخلاق والقانون، وقد أدانها رئيس الوزراء الشرفى حازم الببلاوى لكنها استمرت، ما يدل على أن من يقف وراء الحملة أقوى من الببلاوى بكثير. الشباب الآن يرفضون كل ما يحدث فى مصر.
هناك إشارات لم يعد يمكن تجاهلها تؤكد أن أجهزة الأمن استأنفت عادتها القديمة فى قمع الأبرياء وتلفيق التهم لهم، عاد ترزية القوانين إلى عملهم فأخرجوا لنا قانون التظاهر لتحبس به السلطة كل من يجرؤ على التعبير عن رأيه، وتتم الآن عملية تجميل للمحاكم العسكرية التى ستستأنف نشاطها فى التنكيل بالمعارضين قريبا، وفى الطريق إلينا قانون الإرهاب، هراوة جديدة ستسحق بها السلطة كل من لا يعجبها. فلول نظام مبارك صاروا يتصدرون الوفود والاجتماعات، بينما الهجمة ضد حرية التعبير تزداد شراسة بدءاً من القبض على الصحفيين والتنكيل بهم وحتى منع مقال الأستاذ بلال فضل فى جريدة «الشروق» لأنه جرؤ على توجيه النقد للمشير السيسى.
الشباب غاضبون وهم يستريبون فى نوايا السلطة الحالية ويطالبون بضمانات حقيقية تحمى النظام الديمقراطى عندما يتولى المشير السيسى رئاسة الجمهورية، وهم يرفضون إقامة ديكتاتورية جديدة مهما كان قدر من يصنعها.. فلنستمع إلى الشباب هذه المرة. فقد كانوا دائما على حق.