للمرة الثانية يزور رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، المغرب في ظرف ثماني سنوات. اليوم تنزل طائرته في مطار الرباط-سلا وعليها أكثر من 300 من رجال الأعمال، وعدد من كبار المسؤولين يرافقون الباشا أردوغان في جولة مغاربية للبحث عن فرص جديدة للاستثمار السياسي والاقتصادي، للتعاون ولتوسيع رقعة العلاقات التركية-العربية (أكثر من 25 في المائة من تجارة تركيا تتم مع العالم العربي، وهذا الرقم يزيد سنويا، في حين أن تجارة أنقرة مع أوربا تنزل كل سنة). وريث الباب العالي عازم على إعادة تركيا إلى مجالها الحيوي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعد أن هجرته لمدة قرن كامل، وهذا ليس فقط من باب النوستالجيا لدى الحزب الإسلامي المحافظ، بل انطلاقا من حسابات سياسية واقتصادية دقيقة جداً. بفضل هذا التوجه الجديد نحو العالم العربي أصبحت تركيا تستقطب استثمارات ضخمة من العالم العربي تقارب خمسة مليارات دولار كل سنة (كانت تركيا قبل عشر سنوات تستقطب حوالي مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية في السنة، والآن صارت تستقبل حوالي 20 مليار دولار سنويا). تركيا اليوم واحدة من أبرز قصص النجاح السياسي والاقتصادي في العشر سنوات الأخيرة. أنقرة صارت عضوا كاملا في نادي الدول الديمقراطية بعد أن قص ابن حارة قاسم باشا وحزبه ريش المؤسسة العسكرية، التي بنت لنفسها دولة داخل الدولة التركية، واتجه إلى إحداث ثورة ناعمة في قلب الدولة بواسطة صندوق الاقتراع، وحزب محافظ نعم، لكنه ديمقراطي وتعددي يتوفر على برنامج اقتصادي واعد ونخب جديدة ونظيفة ورؤية سياسية للداخل والخارج. تركيا اليوم هي سابع اقتصاد في القارة الأوربية، ومعدل دخل الفرد انتقل فيها، في ظرف عقد من الزمن، من 3 آلاف دولار في السنة إلى 11 ألف دولار في السنة. الناتج الداخلي الخام قفز إلى 900 مليار دولار بعد أن كان في حدود 200 مليار دولار، دون نفط ولا غاز، ولا مشروع مارشال جديد، ولا دعم كبير من أوربا التي رفضت، إلى الآن، دخول تركيا إلى حظيرة الاتحاد الأوربي لأسباب دينية أكثر من أي شيء آخر. قصة النجاح هذه مجهود ذاتي للدولة الجديدة. تجربة حزب العدالة والتنمية التركي تصلح نموذجا للإسلاميين في بلاد الربيع العربي اليوم، والمغرب تحديدا، لأن أغلبية الدول التي حكمها الإسلاميون انتهت تجربتها إلى الفشل. البداية كانت من إيران، حيث أكلت العمائم فواكه الثورة على الشاه، وصار مجلس تشخيص مصلحة النظام، وكله من رجال الدين، هو من يحدد للشعب نوع وشكل مرشحيه للرئاسة. السودان قصة أكثر درامية، حيث تسلم رفاق الترابي الحكم في الدولة فصارت الآن دولتين، والرئيس متابع أمام المحكمة الجنائية الدولية بالمسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. طالبان أرجعوا أفغانستان أربعة عشر قرنا إلى الوراء، ومنحوا بلادا بأكملها هدية لإسامة بن لادن يجرب فيها نظرية تدمير الصليبيين. ماذا أيضاً؟ في الجزائر وصل حزب مدني وعلي بلحاج إلى الحكم في البلديات، فقدموا أسوأ مثل استغله العسكر للانقلاب على نتائج صندوق الاقتراع بعد أن وسعت الجبهة لائحة أعدائها في الداخل والخارج، وقلصت جبهة أصدقائها إلا من المحرومين وأبناء الأحياء الفقيرة، الذين صوتوا للإسلاميين انتقاما من العسكر ونخب جبهة التحرير. حزب العدالة والتنمية التركي نجح في ما أخفق فيه الإسلاميون في العالم العربي حتى قبل الربيع الموعود. كيف ذلك؟ لقد نجح في عقد قران بين الديمقراطية والإسلام المعتدل والمنفتح على العصر، ونجح في بناء حزب محافظ يدافع عن الهوية في كل أبعادها الدينية والقومية والتاريخية والحداثية، واهتدى إلى طريقة للقبول بنوع من العلمانية التي لا تقصي الدين في المجالين العام والخاص، لكنها تسمح ببناء تعاقدات على أساس دنيوي. لقد اختار أردوغان ورفاقه الاقتصاد وليس الأخلاق لتقديم أوراق اعتمادهم للمجتمع التركي، الذي عاش طويلا في أحضان الغرب وثقافته. اختار أردوغان زعماء لهم كفاءة التدبير وإدارة الدولة وليس كاريزما الدعوة والوعظ والإرشاد. لقد فتح المجال لنخب جديدة كانت مقصية، وكفاءات نظيفة كانت مبعدة عن القرار، ثم رضي بحكم صناديق الاقتراع وسياسة القطرة قطرة حتى وصل إلى ري التربة التركية كلها، وها هو الآن يحصد ما زرعه. الحزب، ورغم أنه يحكم منذ عشر سنوات، فإن شعبيته مازالت كبيرة، وإشعاعه مازال قويا، خاصة وأن أحوال الناس تغيرت، وتركيا لم تعد رجل الشرق المريض، بل أصبحت دولة يضرب لها الخصوم والأصدقاء ألف ألف حساب.