يجب أن نؤمن بأن أردوغان لا عب سياسي محترف ، قوي ومصلح فذ ، حققت تركيا بفضل حنكته وتجربته ما لم يحققه من سبقه قبل خمسين سنة . كان الرجل متفائلا ، يفيض حيوية ونشاطا وهو يرسم طريق تركيا بإيمان صلب ، فجاءت أحداث ميدان القسيم ، التي اعتقد البعض بأنها القشة التي ستقسم ظهر البعير. فالذين كانوا في المظاهرة هم معارضو أردوغان وكذلك رافضو مشروع بناء مركز تجاري على أنقاض مبنى عثماني بساحة التقسيم التاريخية. وساحة التقسيم أو ميدان التقسيم يرتبط اسمها كثيرا باليسار التركي . وهي تقع في اسطنبول وتعتبر قلب المدينة النابض على مدار السنة والأعوام بتظاهرات تنظمها كافة ألوان الطيف التركي من الأحزاب السياسية إلى مشجعي كرة القدم .ولقد عرفت الساحة أحداثا دموية في مراحل سابقة منها تفجير انتحاري سنة2010. ويمكن القول بأن ساحة تقسيم هي تقريبا تضاهي ميدان التحرير في القاهرة وارتباطه بالحراك الشعبي وثورة 25 نونبر. إن ساحة تقسيم هي ساحة سياحية بامتياز نظرا لبعدها التاريخي ولكنها كذلك فضاء يجتمع فيه المتظاهرون للتعبير عن مواقفهم السلبية أو الإيجابية اتجاه فريق أو حكومة. فهل أخطأ أردوغان لما أراد تغيير معالم ساحة التقسيم ؟ قد يبدو للسطحيين أن أردوغان أراد مسح ميدان التقسيم كي لا يجد المتظاهرون اليساريون مساحة يتظاهرون فيها ضد حزبه العدالة والتنمية التركي ، وكذلك للتضييق على أنصار حزب العمال الكردستاني ، ولكن ، يبدو أن الحقيقة مخالفة تماما لكل هذه التكهنات. فأردوغان لن يخطر بباله فكرة تغيير معالم ميدان التقسيم لأن حزبه يتظاهر فيه أيضا. ولقد سبق أن نظمت فيه تظاهرات من أجل نصرة فلسطين ، وقد يحتاج حزب العدالة والتنمية هذه الساحة مرة أخرى . ولكن يقينا أن أردوغان أراد الرفع من جمالية الساحة ببناء مركز تجاري كبير سيستفيد من خدماته كل من حج للساحة من المحليين و السياح. وهو ما سيعطي لساحة التقسيم جمالية، ومردودية اقتصادية للبلد. إذن، كلا الفريقان محق ، سواء المدافعون عن تاريخ ميدان التقسيم وكذلك فريق أردوغان الذي لم يرد مسح الساحة وإنما ترقيتها ببناء مركز تجاري سيستفيد منه رواد الساحة وخاصة السياح ارتباطا بتاريخ الساحة ومكانتها داخل اسطنبول. ولقد خرج المتظاهرون لميدان التقسيم دون شك بدعوة من اليسار، ولقد كان من المكن جدا تجنب ما حدث لو كان فيه تواصل بين المعارضة والحكومة ، وتشاور قبل اتخاذ القرارات ، وهو درس يمكن استخلاصه . فمنجزات أردوغان لم تشفع له عند سكان اسطنبول وعند حراس ميدان التقسيم . لأنهم ( وهو سلوك إيجابي) يرون أن تاريخ الأمم ليس بالمنجزات الحديثة فقط وإنما بمنجزاتها العتيقة التاريخية كذلك. ولقد اعتذر حزب العدالة والتنمية للمتظاهرين، وهو نبل وخلق جميل. وهي لبنة أخرى يضيفها أردوغان ومحيطه لقانون الحكم : " اِزْدَدْ تواضعا تزداد حبا" ، ودون شك ستجتاز تركيا حادث ميدان التقسيم الذي ما هو إلا سحابة صيف في سماء تركيا الواعدة. فتركيا اليوم ضمن أقوى اقتصاديات العالم العشرين ، تمكنت أخيرا من تسديد آخر قسط من ديونها 412 مليون دولار لصندوق النقد الدولي وتحولت إلى مساهمة فيه بفضل جهودها التنموية وإصلاحاتها القوية والعميقة التي جعلتها تعرف أقل نسبة بطالة مقارنة مع بعض الدول الأوروبية والتي بلغت في تركيا 16.9% بينما في اليونان 62.5% وفي اسبانيا55.9 % بينما في البرتغال 38.4% وفي فرنسا 26.3%. فسياسة تركيا التنموية وانفتاحها على الشرق والغرب جعلها قطبا اقتصاديا كبيرا في الشرق الأوسط تمكن من تحقيق منجزات كبيرة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي نتيجة للسياسة الحكيمة التي ينهجها حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة طيب أردوغان السياسي " الفاهم أش كيدير". ففي ظرف خمسين سنة قفز دخل الفرد التركي من 350 دولار إلى 11 آلاف دولار، وقفز عدد الجامعات من جامعة واحدة إلى 200 جامعة بينما كانت عائدات السياحة وقتئذ 9 ملايير دولار فأصبحت اليوم 30مليار دولار. لقد تحولت تركيا من دولة زراعية إلى دولة صناعية بلغ عدد المعامل بها اليوم 30000 مصنع بينما لم يتراوح عددهم 1000 مصنع سنة 1941.ومن أهم الصناعات في تركيا هي المنسوجات، المواد الغذائية و المشروبات، الكهربائيات، السيارات و الكيماويات. هذه فقط بعض المؤشرات حول اقتصاد تركيا الدولة الشرق-أوروبية التي تحقق نجاحات اقتصادية وسياسية في الداخل والخارج. فالبنسبة للداخل فهي الدولة التي نجحت فيما أخفق فيه العديد من الدول، حيث تمكنت في وقت مبكر من وضع العصا في عجلة حزب العمال الكردستاني التركي بالقبض على زعيمه عبد الله أوجلان ، ثم نجحت أخيرا في إقناع الحزب بالعدول على الكفاح المسلح والانخراط في الحياة السياسية، كما نجحت حكومة طيب أردوغان في إدخال إصلاحات على الحياة السياسية التركية بإبعاد العسكر عن المشهد السياسي التركي . أما على الصعيد الخارجي فتركيا وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني وأجبرت إسرائيل على الاعتذار للشعب التركي وتعويض عائلات الضحايا بعد حادث أسطول الحرية. وللأسف، فبعد سطوع شمس تركيا لأكثر من عشر سنوات ، جاءت أحداث " التقسيم" لتعكر صفو سماء تركيا بمظاهرات شعبية شبيهة بمظاهرات الربيع العربي والسؤال هل هناك أيادي في داخل تركيا وأخرى في خارجها تريد عرقلة مسيرة تركيا والتشويش على أردوغان؟ في عالم ليس فيه مكان للدول الضعيفة تعمل تركيا على تعزيز مكانتها وتلميع صورتها باستمرار قولا وفعلا. ومن الطبيعي أن يكون لتركيا منافسين حتى لا نقول أعداء ، وكما أنه من الطبيعي أن يكون لأردوغان منافسيه كذلك . فبالنسبة للخارج علينا أن نتذكر أن تركيا قدمت منذ 1959 طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي،لكن طلبها رُفض لسببين أولهما لأن تركيا دولة كبيرة من حيث عدد السكان وثانيهما لأنها دولة إسلامية ، في حين أن دولا أخرى انضمت إلى الاتحاد الأوروبي ولم تستقل إلا قريبا كرومانيا . ومما لا شك فيه أن الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانياوفرنسا ينظرون إلى تركيا بعين " الحسد" وهي تحقق نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية . فالدول الأوروبية تريد أن تكون هي النموذج ولذلك فهي تنظر لتركيا بعين "الحقد" فهي لا تريد النجاح لدولة تركيا ولا لأردوغان الذي أصبح " نموذجا" مقبولا داخل الدول الاسلامية . كما لا يجب أن ننسى حكاية سوريا وخيطها المتصل بالعلويين داخل تركيا كعامل مشوش على أردوغان بسبب تصريحاته في حق الأسد . أما على الصعيد الداخلي ، فأردوغان يقاوم منافسة شرسة من حراس تركيا الكمالية القدامى- الجدد والذين يريدون قطف ما زرعه أردوغان . ففي هذه الحكاية هناك تشابه كبير بين الدول الإسلامية فيما يخص السباق نحو السلطة والصراع عليها . فأردوغان يشتغل لصالح الأتراك وتركيا ، ولقد حققت تركيا نجاحات يعترف بها القاصي قبل الداني ، ولكن منافسيه لم يملأ أعينهم كل ما أنجز أردوغان. فمعارضوه يتابعون منجزاته ولا يباركونها ، وإنما يرددون في قرارات أنفسهم " نريد أن نحكم نحن مكانك" . وهكذا لا يهتم المعارضون بإنجازات من هو في الحكومة بقدر ما يهمهم وجودهم ،هم، في السلطة وحتى يحافظوا على وجودهم كشركاء سياسيين ولكن كي يحافظوا قبل أي شيء على مصالحهم التي قد تضيع منهم إن هم تركوا أردوغان يضيق عليهم الخناق بقوانين تحد من الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وهو ما عبر عنه البعض بالتسلط الناعم لأردوغان . فالمعارضة التركية توجد اليوم في موقف شرود ، منبهرة بإنجازات أردوغان على الأرض .لقد عَمِلَ على تجديد دم تركيا وتجديد عمرانها في نفس الوقت ، بهدم المباني القديمة الآيلة للسقوط وتعويضها بمباني حديثة فاقت الأربعين ألفا ،ضمن مشروع متكامل سيطال الملايين من الأبنية في جميع المدن التركية. وما مشروع " تقسيم" الذي دار حوله الجدل إلا واحد من عدة مشاريع تروم تحديث عمرانها وجعله أكثر جاذبية يتناسب مع نهضتها الاقتصادية . ومسك الختام، أن أردوغان رجل يستحق التقدير ، له مواقف مشرفة سيكتبها التاريخ بمداد من دهب . وضع تركيا على سكة حديد مستقيمة دون شك ستقودها للازدهار بأيادي كل أبنائها . وسيعطي أردوغان كل ما لديه لتركيا ، ولكن أعظم عمل سيخلد أردوغان- تركيا هو عمله الدائم على حفظ تماسك الأتراك ، فهو رجل يؤمن بقول تعالي " تلك الأيام نداولها بين الناس". ويعلم أن أحسن الأعمال هي التي تجلب الخير للأمة في ضوء الحب المتبادل.