في عقده السادس، وبخبرة عالم اجتماع جاء بشير أتلاي، نائب رئيس الوزراء، إلى السياسة من مدرجات الجامعة. ولأن أردوغان أنشأ حزبا هو عبارة عن «براسول» parasol كبير يستطيع الكثيرون أن يستظلوا به من الشمس، فإن عالم الاجتماع وجد مكانه داخل قيادة الحزب المحافظ، وصار وزيرا أكثر من مرة، والآن هو واحد من منظري الدولة رغم أنه لم يكن من أبناء الحركة الإسلامية. استقبلنا في مبنى رئاسة الوزراء، وكان مرتاحا وهو يسوق تجربة ناجحة لبلاده في الانتقال من دولة سلطوية يحكمها الجيش، إلى دولة ديمقراطية يحكمها صندوق الاقتراع، ومن دولة متخلفة ينخرها الفساد، إلى دولة أصبحت تحتل المرتبة السابعة في اقتصاديات دول أوربا، ومن دولة منكفئة على نفسها، إلى قوة إقليمية كبرى لها أجندة دبلوماسية أوسع من حدودها الجغرافية. سألته: «السيد أتلاي، حزبكم اليوم يتمتع بشعبية كبيرة، حسب ما تقوله استطلاعات الرأي الأخيرة، رغم مرور عشر سنوات على وصوله إلى الحكم، هل لك أن تخبرنا بسر قوة هذا الحزب، وتحوله من حزب أصولي منبوذ إلى حزب حاكم يتمتع بكل هذه الشعبية في بلاد كانت تعتبر قلعة العلمانية الصلبة في آسيا؟». قبل أن يجيب ضحك وتطلع إلى صورة أتاتورك فوق رأسه وقال: «لقد أنجزنا ثورة هادئة في هذه البلاد، أولا، بدأنا ببناء حزب جديد بفكر جديد، وصاحبت ذلك نقاشات وسجالات فكرية وإيديولوجية معقدة، وسط قادة الحزب ومناضليه حول هوية العدالة والتنمية. وخلص النقاش بين الجناح المحافظ، الذي كان يغلب الجانب الهوياتي والقيمي، والجناح التقدمي، الذي كان يغلب الجانب الديمقراطي في عمله، إلى توافق على تعريف الحزب بأنه حزب محافظ ديمقراطي.. حزب خدمات وليس حزب إيديولوجيا.. حزب يقود الشعب نحو الحرية بواسطة المؤسسات الديمقراطية، وليس حزبا عقديا له الوصاية على الناس». وأضاف بشير أتلاي، بعد أن تأكد أننا فهمنا سر هذا التحول، قائلا: «حزبنا مثل مظلة شمسية (parasol) تتسع لكل راغب في الدخول تحتها، ولا هو يفرض قيودا على الذي يريد الخروج منه، لهذا أصبحت أعداد المنتمين إليه اليوم حوالي 8,5 ملايين تركي، بينهم 3,5 ملايين امرأة. 65 في المائة من البلديات في تركيا بيد حزب المصباح. كانت هناك عدة جهات وسط الحزب قلقة علينا من التجربة، وكانت عدة أوساط علمانية قلقة منا وخائفة، لكننا طمأنا الخائفين جميعا. أردوغان كان يقول لنا: لا تخافوا من الحرية وثقوا في المجتمع، نحن حزب متعدد الأفكار والأعراق والقوميات، تماماً مثل الطيف التركي، ونحن حزب ديمقراطي لا يقبل أن يترشح نوابه للبرلمان أكثر من ثلاث ولايات، ولا يقبل أن يبقى رئيس الحكومة في منصبه أكثر من ثلاث ولايات، ولا يضره الاختلاف والانفتاح على كل أطياف المجتمع، وهذه أكبر نصيحة نقدمها للإسلاميين اليوم وهم في السلطة أو على أعتابها». «ماذا كانت أولوياتكم يوم وصلتم إلى السلطة؟»، سأله صحافي مصري من الوفد الإعلامي، فأجاب: «الديمقراطية والاقتصاد. منذ اليوم الأول وضعنا قانونا جديدا للصحافة يسمح للشعب بالتعبير عن نفسه، وها أنت ترى ميلاد غابة من التلفزات والإذاعات والصحف في تركيا اليوم، هناك عدد من الصحف اليومية لا يوجد حتى في أمريكا. كما وضعنا منذ الأشهر الأولى قوانين لدعم الاستثمار. تصوروا أنه قبل مجيئنا إلى السلطة لم تكن الاستثمارات الأجنبية تتجاوز مليار دولار في السنة، اليوم تستقطب تركيا أكثر من 20 مليار دولار كل سنة. هذه بلاد المهندسين والأطباء، وجدناها منكفئة على نفسها، فحررنا رجليها من الأصفاد، والنتيجة ما ترون الآن. تركيا أصبحت سابع قوة اقتصادية في أوربا»، وأضاف: «لا أنسى أن أقول لكم إننا عندما وضعنا أمام أعيننا هدفا كبيرا يلقى إجماعا واسعا في الشارع التركي، مثل هدف الالتحاق بالاتحاد الأوربي، حتى وإن لم ندخل إليه حتى الآن لأسباب أخرى، سهل علينا التقدم بسرعة، لأن الشروط التي يضعها الاتحاد الأوربي للالتحاق بناديه مثل رجيم قاس للتخلص من أرطال السلطوية التي تربت في الجسم التركي لسنوات عدة». هذا واحد من أوجه نجاح هذه القصة الجديدة للانتقال الديمقراطي والإقلاع الاقتصادي لبلاد مسلمة يبلغ تعداد سكانها 85 مليون نسمة، لا غاز فيها ولا بترول، وها هي تتحول إلى دولة إقليمية ناجحة سياسيا واقتصاديا بفضل الديمقراطية التي خلقت الاستقرار والتخطيط الجيد للاقتصاد، الذي خلق النمو وفرص الشغل واتساع الصناعة والتجارة. الحد الأدنى للأجور اليوم في تركيا هو 4300 درهم، أي حوالي ضعف ما يوجد في المغرب. لما خرجنا من مبنى رئاسة الحكومة سألت سائق «الباص» الذي نقلنا إلى الفندق: «هل أنت واحد من 8,5 ملايين عضو الذين ينتمون أو يتعاطفون مع الحزب؟»، ضحك وقال: «لا»، فسألته: «هل صوتت لصالح حزب أردوغان في الانتخابات الماضية؟»، قال: «نعم»، قلت له: «ولماذا؟»، فأجاب: «في الانتخابات الأولى لم أصوت له، أنا كنت سائق طاكسي وأنتمي إلى نقابة يسارية كانت تصوت تقليديا للأحزاب اليسارية القريبة منها، لكن بعد أن أصلحوا طرقات المدينة، وحفروا الأنفاق، ووسعوا الطرق، وصار التنقل في أنقرة وإسطنبول سهلا مقارنة بالاختناق الذي كان في السابق، صوتت لحزب أردوغان لأن مدخولي من سيارة الأجرة زاد بعد أن تحررت الطرق من الزحام. صرت أعمل أكثر، وأنقل الناس أكثر»، هل نصدق ما قاله بشير أتلاي من أن حزبه حزب خدمة للمواطنين، لا حزب سلطة على المواطنين؟