إن ما وقع مؤخرا في عرض بحر غزة، يشير إلى تغير جوهري على مستوى منطقة الشرق الأوسط : نهاية العلاقة المتميزة بين إسرائيل وتركيا. لحظة مفصلية، تؤكد نهاية مسار بدأ منذ سنوات : لقد اتخذت أنقرة مسافات عن حليفها القديم، لكي تقترب من العالم العربي. وبغاية، أن تصير تركيا قوة جهوية سياسيا واقتصاديا، فقد تخلصت من ديبلوماسيتها التقليدية، هي العضو الحكيم للحلف الأطلسي، قريبة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، مرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي، ووقعت على معاهدة استراتيجية مع الدولة اليهودية. لكن إلى جانب ذلك، تروم تركيا نحو مظهر ديبلوماسي معقد جدا، على غرار قوى ناشئة مثل البرازيل وأندونيسيا أو إفريقيا الجنوبية، في موقع يمكنها من تغيير علاقات القوة الدولية. بالنسبة للرأي العربي، فإن تركيا خرجت مرفوعة الرأس، بعد حادث اصطدام فريق كومندوس إسرائيلي يوم 13 ماي الأخير مع أسطول بحري صغير، سعى إلى كسر الحصار الإقليمي المضروب على غزة الفلسطينية. انتهت العملية، بقتل تسعة مناضلين نقلت جثتهم إلى إسطنبول وعدد من الجرحى. عملية "تحرير غزة"، مبادرة أطلقتها المنظمة التركية الإنسانية "IHH"، التي أكدت بأن هدفها إنسانيا أكثر منه سياسيا تسجيل نقطة ضد إسرائيل توخت نجدة مليون ونصف فلسطيني يقطنون بغزة. لكن الأهم، هو أن المنظمة غير الحكومية، لم يكن بإمكانها الانتقال إلى فعل من هذا القبيل، دون ضوء أخضر ضمني للحكومة التركية. استدعت أنقرة سفيرها في إسرائيل، وأشارت إلى احتمال قطع علاقاتها الديبلوماسية. الوزير الأول "رجب طيب إردوغان"، المسؤول عن الحزب الإسلامي المحافظ، اتهم الإسرائيليين بكونهم "قتلوا أبرياء بدم بارد" لا شيء ثابت بين الدول، لكن العلاقات الإسرائيلية التركية، لن تحافظ قط عما كانت عليه لفترة طويلة. في الجانب الإسرائيلي، سيعتبرون ذلك زلزالا ونهاية حقبة ظلت أنقرة خلالها، حليفهم الرئيسي داخل العالم الإسلامي. ولمواجهة عداوة جيرانهم المحيطين بهم، فقد ركز مؤسسو إسرائيل اهتمامهم في المنطقة على البلدين الإسلاميين غير العربيين : إيران وتركيا. سنة 1979، ستنهي الثورة الإسلامية أواصر الود مع طهران، مقابل تطور العلاقة مع تركيا فوصلت إلى مستوى التوقيع على اتفاقية التعاون الإستراتيجي سنة 1996. لكنها، بدأت تتدهور شيئا فشيئا، نتيجة تعثر المفاوضات الإسرائيلية والفلسطينية وكذا الأفاق الجديدة للسياسة التركية على المستوى الخارجي التي ستكتسي تدريجيا طابع حزب العدالة والتنمية والتخلص من نهجها القديم. ديبلوماسية، تفضل حسن الجوار مع اليونان وأرمينا وإيران والعالم العربي. هي، أيضا "ديبلوماسية البيزنس" حسب رأي مختص في الشأن التركي. يقول، أريان بورزون" : (( لا يسافر السيد إردوغان قط دون اصطحابه لجماعة من رجال الأعمال)). إنه وسيط تجاري، لاقتصاد تركي أكثر دينامية من قبل. بالنسبة للعراق، عرفت أنقرة كيف تنمي علاقاتها مع بغداد، وبشكل أخص المنطقة المستقلة الكردية العراقية، التي نظر إليها الأتراك لفترة طويلة بنوع من العداوة، لأنها تأوي محاربي استقلال أكراد تركيا، وبالتالي قد تقدم لهم نموذجا. ديبلوماسية مقرونة بالبيزنس وحسن الجوار، دفعت أنقرة إلى فتح قنصلية ب "إيربيل" المدينة الكبيرة لكردستان العراق. أيضا، مع سوريا فقد تحسنت العلاقات باستمرار، منذ أن توقفت دمشق عن دعم الانفصاليين الأكراد التركيين لحزب العمال الكردستاني PKK. انطلاقا من استعادة علاقة جيدة مع دمشق، صار بوسع تركيا أن تتوسط لدعم المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل : ((لقد آمن أردوغان حقا بإمكانية لعبه لدور من أجل التقريب بين البلدين)) يتحدث بهذا الخصوص "أريان بورزون". أواخر سنة 2008، ومع عملية "الرصاص المصبوب" التي قادها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، بدأت تجليات التوتر بين إسرائيل وتركيا. كثافة القصف الإسرائيلي، صدمت الرأي العام التركي وكذا أغلبيته البرلمانية. لم يستسغ السيد إردوغان، عدم إحاطته بمعطيات الهجوم، في وقت كان يتدبر أمر التقارب بين إسرائيل وسوريا. أصبحت تركيا شيئا فشيئا حميمية في مخاطبة الفلسطينيين ((هكذا سيوظف أردوغان تعبير "إخواننا الفلسطينيين)). وكما أخبرنا "أريان بورزون"، فقد أصبحت" العربية تدرس في الثانويات التركية" داخل بلد ((لا يتكلم قط هاته اللغة...)). هل يمكن لذكريات الإمبراطورية العثمانية تعكير صفو الذاكرة العربية في تقاربها مع أنقرة؟ ظاهريا، لا شيء من هذا القبيل، بل تركيا اليوم على وشك أن تصير "نموذجا" لكل العرب، فالإحصاء الواسع الذي قام به المعهد التركي الاقتصادي والاجتماعي خلال شهر يناير وشمل سبعة بلدان عربية، انتهى إلى نتائج تمدح تركيا. نسبة %75 من الآراء الإيجابية، نظرت بتقدير أكثر إلى بلد غير عربي داخل العالم العربي، و %63 اعتبروا بأن تركيا نجحت في تحقيق مزج "جيد بين الإسلام والديمقراطية" بقدر ظنهم أن دخولها إلى السوق الأوروبية المشتركة،لا يمكنه إلا تعضيد هالتها في الشرق الأوسط. ولكي تصير أحد الفاعلين الأساسيين. للمنطقة، فقد أعادت تركيا التوازن لعلاقتها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. وجود حزب العدالة والتنمية على رأس السلطة خلص تركيا بشكل ما من الوصاية الأمريكية نسج السيد أردوغان، روابط جيدة مع إيران محمود نجاد، وأثار حنق واشنطن حينما دشن مع برازيليا مبادرة وساطة بخصوص النشاط النووي الإيراني، لم تعترض تركيا على دخول إسرائيل إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. إنها تقف على خط دقيق ومعقد، فتركيا تريد في الآن ذاته عضوية الحلف الأطلسي والحفاظ على ترشيحها لدخول المجموعة الأوروبية، ثم ترسخ أهميتها الكبرى في الشرق الأوسط، وكذا أن تكون قريبة من إيران والعالم العربي، دون القطع مع إسرائيل. خليط، غني وقابل للانفجار. [email protected] ---- *Le monde : Vendredi 4 juin 2010.