ما وقع (الهجوم الإسرائيلي على سفينة المساعدات الإنسانية إلى غزة) يؤكد التحول الكبير الواقع في الشرق الأوسط، أي نهاية العلاقة المتميزة التي كانت تجمع بين إسرائيل وتركيا. هو أمر جديد فعلا باعتباره يكشف عن نتيجة سنوات التطور النوعي الذي بدأ قبل سنوات. فقد قررت أنقرة الابتعاد عن حليفها القديم لتقترب من العالم العربي. تركيا انعتقت من دبلوماسيتها التقليدية لكي تصبح قوة إقليمية، سياسية واقتصادية. فهي لم تعد، فقط، ذلك العضو الوديع في حلف الأطلسي، القريب من الولاياتالمتحدة، المرشح للانتماء إلى الاتحاد الأوربي والموقع على اتفاق استراتيجي مع الدولة اليهودية. بل صارت تتطلع إلى وضع دبلوماسي أكثر تعقيدا، وضع يليق بإحدى أكبر القوى الصاعدة التي يمكنها أن تغير علاقات القوى الدولية كالبرازيل وإفريقيا الجنوبية وأندونيسيا. بالنسبة للرأي العام العربي، فقد خرجت تركيا كبيرة من حادثة الهجوم على السفينة الإنسانية، يوم 31 ماي، بعد أن اقتحمها كوماندو إسرائيلي عندما كانت تسعى إلى كسر الحصار على غزة (...). مبادرة «حرروا غزة» كانت وراءها منظمة تركية غير حكومية، IHH، التي لا تخفي هدفها من العملية، والذي يتمثل في تسجيل نقطة سياسية ضد إسرائيل، من خلال حمل المساعدات الإنسانية لمليون ونصف من سكان غزة. والأهم من هذا وذاك هو أن العملية التي قامت بها المنظمة ما كانت لتكون لولا الضوء الأخضر الذي تلقته المنظمة من الحكومة التركية. أنقرة استدعت سفيرها في إسرائيل ولم تستبعد قطع العلاقات الدبلوماسية معها. من جهته، اتهم الوزير الأول رجب طيب أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي المحافظ، إسرائيل بأنها «قتلت أبرياء بدم بارد» غير مكترث لطبيعة الأحداث. صحيح أنه لاشيء ثابت وقار بين الدول، لكن العلاقات بين الإسرائيليين والأتراك لن تكون أبدا كما كانت منذ زمن طويل. بالنسبة للإسرائيليين يتعلق الأمر بتحول كبير ونهاية حقبة كانت فيها أنقرة حليفهم التقليدي في العالم الإسلامي. فأمام العداء المحيط بها من قبل جيرانها الأقرباء، اتجه مؤسسو إسرائيل نحو البلدين المسلمين غير العربيين: إيران وتركيا. إلا أن الثورة الإسلامية في إيران، سنة 1979، وضعت حدا لهذا التقارب مع طهران، لكن العلاقات مع تركيا تقوت أكثر، حد أن البلدين وقعا سنة 1996 اتفاقا استراتيجيا للتعاون. تدهور العلاقة بين تركيا والدولة العبرية بدأ تدريجيا مع غياب أي تقدم في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية ومع التوجه الجديد للسياسة التركية الخارجية، التي بدأت تدريجيا تحمل بصمات «العدالة والتنمية» وتتخلى عن خطوطها التقليدية. الدبلوماسية التركية الجديدة بدأت تميل إلى تمتين العلاقات المباشرة مع الجيران، فاتجهت نحو تحسين العلاقة مع اليونان وأرمينيا وإيران ثم العالم العربي. هي كذلك «دبلوماسية الأعمال»، كما تقول أريان بورزون، المتخصصة في الشأن التركي. «السيد أردوغان لا يسافر أبدا إلا ومعه مجموعة كبيرة من رجال الأعمال»، تضيف أريان. وفي العراق، استطاعت تركيا أن تطور روابطها مع بغداد ومع المنطقة الكردية العراقية بشكل خاص. بعد أن ظلت تركيا تنظر بعين العداء إلى هذه المنطقة لأنها تأوي المقاتلين الأكراد الانفصاليين. كما فتحت تركيا قنصلية لها في إربيل، أكبر مدن كردستان العراق للجمع بين الدبلوماسية الجديدة والمصالح التجارية. علاقاتها مع سوريا تطورت بشكل إيجابي كذلك بعد أن كفت دمشق عن مساعدة الأكراد الترك. في الإطار نفسه قامت تركيا بدور الوسيط بين سوريا وإسرائيل في مفاوضات غير مباشرة بينهما. لكن العملية الحربية ضد غزة أواخر سنة 2008، دشنت بداية عهد التوتر بين أنقرة وتل أبيب. فقد صُدم الرأي العام والأغلبية البرلمانية التركية بحدة القصف الجوي الإسرائيلي على غزة خلال العملية. كما أن أردوغان غضب من كونه لم يُخبر ببدء العملية بينما كان يعمل على استئناف وساطته بين إسرائيل وسوريا. وفي علاقتها بالفلسطينيين، بدت تركيا أكثر حرارة، بل إن أردوغان «بدأ يتكلم عن «إخواننا الفلسطينيين»، تقول أريان بورزون، و«صارت العربية تدرس في الثانويات التركية» بعد أن «لم يعد للعربية وجود في البلد». لكن، هل يمكن لذكرى الإمبراطورية العثمانية في الذاكرة العربية أن تؤثر سلبا على التقارب بين أنقرة والعرب؟ يبدو أن لا شيء من هذا النوع حاصل، بل إن تركيا اليوم آخذة في أن تصبح نموذجا للعرب (...). من جهة أخرى، تركيا أعادت التوازن إلى علاقتها مع الولاياتالمتحدة من أجل أن تصبح فاعلا في المنطقة. وفي عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم تخلصت من الوصاية الأمريكية. كما أن أردوغان أقام علاقة جيدة مع إيران محمود أحمدي نجاد، وأثار حنق واشنطن عندما تزعم مع برازيليا وساطة حول الملف النووي الإيراني، ولم يعارض دخول إسرائيل إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. فضلا عن هذا وذاك، يريد أردوغان أن يحافظ على ذلك الخيط الرفيع المعقد في علاقات بلده الخارجية. فهو يريد أن يكون عضوا في حلف الأطلسي، ويبقى مرشحا للاتحاد الأوربي، ويثبت وضعية تركيا كقوة أساسية في الشرق الأوسط، ويبقى قريبا من إيران والعالم العربي في الوقت نفسه دون القطع مع إسرائيل. إنه خليط غني، لكنه قابل للانفجار. ألان فراشون